كُتب الفقــه
الجزء السابع
الزيارة وشد الرحال إليها
/قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
فَصْــل
في [زيارة بيت المقدس] ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، وقد روى من طرق أخرى، وهو حديث مستفيض /متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق.
واتفق علماء المسلمين على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه، كالصلاة، والدعاء، والذكر، وقراءة القرآن، والاعتكاف. وقد روى من حديث رواه الحاكم في صحيحه: (أن سليمان ـ عليه السلام ـ سأل ربه ثلاثًا: ملكًا لا ينبغى لأحد من بعده، وسأله حكمًا يوافق حكمه، وسأله أنه لا يؤم أحد هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غُفِرَ له)، ولهذا كان ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ يأتي إليه في صلى فيه ولا يشرب فيه ماء؛ لتصيبه دعوة سليمان لقوله: (لا يريد إلا الصلاة فيه)، فإن هذا يقتضي إخلاص النية في السفر إليه، ولا يأتيه لغرض دنيوي ولا بدعة.
وتنازع العلماء فيمن نذر السفر إليه في الصلاة فيه أو الاعتكاف فيه: هل يجب عليه الوفاء بنذره؟ على قولين مشهورين، وهما قولان للشافعي:
أحدهما: يجب الوفاء بهذا النذر، وهو قول الأكثرين، مثل مالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهما.
والثإني: لا يجب، وهو قول أبي حنيفة، فإن من أصله أنه لا يجب النذر إلا ما كان جنسه واجبًا بالشرع، فلهذا يوجب نذر /الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة، فإن جنسها واجب بالشرع ولا يوجب نذر الاعتكاف، فإن الاعتكاف لا يصح عنده إلا بصوم، وهو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
وأما الأكثرون، فيحتجون بما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يُطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يَعْصي الله فلا يَعْصه). فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالنذر لكل من نذر أن يطيع الله، ولم يشترط أن تكون الطاعة من جنس الواجب بالشرع، وهذا القول أصح.
وهكذا النزاع لو نذر السفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه أفضل من المسجد الأقصى. وأما لو نذر إتيان المسجد الحرام لحج أو عمرة، وجب عليه الوفاء بنذره باتفاق العلماء.
والمسجد الحرام أفضل المساجد، ويليه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويليه المسجد الأقصى، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صَلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام).
والذي عليه جمهور العلمـاء: أن الصـلاة في المسـجد الحـرام أفضل منها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى أحمد والنسائي وغيرهما /عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة). وأما في المسجد الأقصى، فقد روى أنها بخمسين صلاة، وقيل: بخمسمائة صلاة، وهو أشبه.
ولو نذر السفر إلى قبر الخليل ـ عليه السلام ـ أو قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى [الطور]، الذي كلم الله عليه موسى ـ عليه السلام ـ أو إلى جبل حراء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه وجاءه الوحى فيه، أو الغار المذكور في القرآن، وغير ذلك من المقابر والمقامات والمشاهد المضافة إلى بعض الأنبياء والمشائخ، أو إلى بعض المغارات، أو الجبال، لم يجب الوفاء بهذا النذر، باتفاق الأئمة الأربعة، فـإن السفر إلى هذه المواضع منهى عنه؛ لنهى النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). فإذا كانت المساجد التى هي من بيوت الله التى أمر فيها بالصلوات الخمس قد نهى عن السفر إليها، حتى مسجد قباء الذي يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إليه، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا. وروى الترمذى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه، كان له كعمرة). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
/ فإذا كان مثل هذا ينهى عن السفر إليه، وينهى عن السفر إلى الطور المذكور في القرآن، وكما ذكر مالك المواضع التى لم تبن للصلوات الخمس؛ بل ينهى عن اتخاذها مساجد، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد) ـ يحذر ما فعلوا ـ قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)؛ ولهذا لم يكن الصحابة يسافرون إلى شيء من مشاهد الأنبياء لا مشهد إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ ولا غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج صلى في بيت المقدس ركعتين كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ولم يصل في غيره . وأما ما يرويه بعض الناس من حديث المعراج أنه صلى في المدينة، و صلى عند قبر موسى ـ عليه السلام ـ و صلى عند قبر الخليل، فكل هذه الأحاديث مكذوبة موضوعة.
وقد رَخّص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد، ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة ولا احتجوا بحجة شرعية.
/ فَصْــل
والعبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام، فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد بالطواف بالكعبة، واستلام الركنين اليمانيين، وتقبيل الحجر الأسود، وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وسائر المساجد، فليس فيها ما يطاف به، ولا فيها ما يتمسح به، ولا ما يُقَبّل، فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، ولا بصخرة بيت المقدس، ولا بغير هؤلاء، كالقبة التي فوق جبل عرفات وأمثالها، بل ليست في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة.
ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع؛ فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة صلى بالمسلمين ثمانية عشر شهرًا إلى بيت المقدس، فكانت قبلة المسلمين هذه المدة، ثم إن الله حَوَّل القبلة إلى الكعبة، وأنزل الله في ذلك القرآن /كما ذكر في سورة البقرة، و صلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى الكعبة، وصارت هي القبلة وهي قبلة إبراهيم، وغيره من الأنبياء.
فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلى إليها، فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، مع أنها كانت قبلة لكن نُسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكانًا يطاف به كما يطاف بالكعبة؟! والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال، وكذلك من قصد أن يسوق إليها غنمًا أو بقرًا ليذبحها هناك ويعتقد أن الأضحية فيها أفضل، وأن يحلق فيها شعره في العيد، أو أن يسافر إليها ليعرف بها عشية عرفة، فهذه الأمور التي يشبه بها بيت المقدس في الوقوف والطواف والذبح والحلق من البـدع والضـلالات، ومـن فعـل شيئًا مـن ذلك معتقدًا أن هذا قربة إلى الله، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كما لو صلى إلى الصخرة معتقدًا أن استقبالها في الصلاة قربة كاستقبال الكعبة؛ ولهذا بنى عمر بن الخطاب مصلى المسلمين في مقدم المسجد الأقصى.
فإن المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان ـ عليه السلام، وقد صار بعض الناس يسمى الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في مقدمه، والصلاة في هذا الم صلى الذى بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد؛ فإن عمر بن الخطاب لما /فتح بيت المقدس وكان على الصخرة زبالة عظيمة؛ لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذين يصلون إليها، فأمـر عمر ـ رضي الله عنه ـ بإزالة النجاسة عنها، وقال لكعب الأحبار: أين ترى أن نبني مصلى المسلمين؟ فقال: خلف الصخرة، فقال: يا بن اليهودية، خالطتك يهودية، بل أبنيه أمامها، فإن لنا صدور المساجد. ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصلاة في الم صلى الذي بناه عمر، وقد روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى في محراب داود.
وأما الصخرة فلم يصلى عندها عمر ـ رضي الله عنه، ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة، بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلى ومعاوية ويزيد ومروان، ولكن لما تولى ابنه عبد الملك الشام، ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة، كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير، فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير فبنى القبة على الصخرة، وكساها في الشتاء والصيف، ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس، ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير، وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلم يكونوا يعظمون الصخرة فإنها قبلة منسوخة، كما أن يوم السبت كان عيدًا في شريعة موسى ـ عليه السلام ـ ثم نسخ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بيوم الجمعة، فليس للمسلمين أن يخصوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود /والنصارى، وكذلك الصخرة إنما يعظمها اليهود وبعض النصارى.
وما يذكره بعض الجهال فيها من أن هناك أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر عمامته، وغير ذلك، فكله كذب، وأكذب منه من يظن أنه موضع قدم الرب. وكذلك المكان الذي يذكر أنه مهد عيسى ـ عليه السلام ـ كذب، وإنما كان موضع معمودية النصارى. وكذا من زعم أن هناك الصراط والميزان، أو أن السور الذي يضرب به بين الجنة والنار هو ذلك الحائط المبني شرقي المسجد. وكذلك تعظيم السلسلة، أو موضعها ليس مشروعًا.
فَصْــل
وليس في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى، لكن إذا زار قبور الموتى وسلم عليهم وترحم عليهم ـ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ـ فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات، وإنا إن شـاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، الله م لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم).
/ فَصْــل
وأما زيارة معابد الكفار مثل الموضع المسمى [بالقُمَامة] أو [بيت لحم] أو [صهيون] أو غير ذلك، مثل [كنائس النصارى]، فمنهى عنها. فمن زار مكانًا من هذه الأمكنة معتقدًا أن زيارته مستحبة، والعبادة فيه أفضل من العبادة في بيته، فهو ضال، خارج عن شريعة الإسلام يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما إذا دخلها الإنسان لحاجة وعرضت له الصلاة فيها، فللعلماء فيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: تكره الصلاة فيها مطلقًا، واختاره ابن عقيل، وهو منقول عن مالك. وقيل: تباح مطلقًا. وقيل: إن كان فيها صور نهى عن الصلاة وإلا فلا، وهذا منصوص عن أحمد وغيره، وهو مروى عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وغيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة)، ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة كان في الكعبة تماثيل، فلم يدخل الكعبة حتى محيت تلك الصور. والله أعلم.
فَصْــل
وليس ببيت المقدس مكان يسمى [حرمًا] ولا بتربة الخليل، ولا /بغير ذلك من البقاع إلا ثلاثة أماكن: أحدها: هو حرم باتفاق المسلمين، وهو حرم مكة ـ شرفها الله تعالى. والثإني: حرم عند جمهور العلماء، وهو حرم النبي صلى الله عليه وسلم من عير إلى ثور، بريد في بريد، فإن هذا حرم عند جمهور العلماء كمالك، والشافعي، وأحمد وفيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثالث: [وج] وهو واد بالطائف، فإن هذا روى فيه حديث رواه أحمد في المسند، وليس في الصحاح، وهذا حرم عند الشافعي؛ لاعتقاده صحة الحديث، وليس حرمًا عند أكثر العلماء، وأحمـد ضعف الحديث المروي فيـه فلم يأخـذ به. وأمـا مـا سـوى هـذه الأماكن الثلاثة، فليس حرمًا عند أحد من علماء المسلمين، فإن الحرم: ما حـرم الله صيده ونباته، ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجًا عن هذه الأماكن الثلاثة.
فَصْــل
وأما زيارة بيت المقدس، فمشروعة في جميع الأوقات، ولكن لا ينبغى أن يؤتى في الأوقات التي تقصدها الضلال، مثل وقت عيد النحر، فإن كثيرًا من الضُّلال يسافرون إليه ليقفوا هناك، والسفر إليه لأجل التعريف به معتقدًا أن هذا قربة، محرم بلا ريب، وينبغي ألا يتشبه بهم، ولا يكثر سوادهم.
/وليس السفر إليه مع الحج قربة. وقول القائل: قدس الله حجتك. قول باطل لا أصل له كما يروى: (من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له الجنة)، فإن هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث، بل وكذلك كل حديث يروى في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ضعيف، بل موضوع، ولم يروى أهل الصحاح والسنن والمسانيد ـ كمسند أحمد وغيره ـ من ذلك شيئًا؛ ولكن الذي في السنن: ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يسلم عليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). فهو يرد السلام على من سلم عليه عند قبره، ويبلغ سلام من سلم عليه من البعيد، كما في النسائى عنه أنه قال: (إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام). وفي السنن عنه أنه قال: (أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي). قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: (إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء). فبين صلى الله عليه وسلم أن الصلاة والسلام توصل إليه من البعيد. والله قد أمرنا أن ن صلى عليه ونسلم. وثبت في الصحيح أنه قال: (من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا)، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
/ فَصْــل
وأما السفر إلى [عسقلان] في هذه الأوقات فليس مشروعًا لا واجبًا، ولا مستحبًا؛ ولكن عسقلان كان لسكناها وقصدها فضيلة لما كانت ثغرًا للمسلمين يقيم بها المرابطون في سبيل الله، فإنه قد ثبت في صحيح مسلم عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا مات مجاهدًا، وأجرى عليه عمله، وأجرى عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان). وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. وكان أهل الخير والدين يقصدون ثغور المسلمين للرباط فيها ـ ثغور الشام: كعسقلان، وعكة، وطرطوس، وجبل لبنان، وغيرها، وثغور مصر: كالإسكندرية وغيرهـا، وثغور العـراق: كعبادان وغيرها ـ فما خرب من هذه البقاع ولم يبق بيوتًا كعسقلان لم يكن ثغورًا ولا في السفر إليه فضيلة، وكذلك جبل لبنان وأمثاله من الجبال لا يستحب السفر إليه، وليس فيه أحد من الصالحين المتبعين لشريعة الإسلام، ولكن فيه كثير من الجن، وهم [رجال الغيب] الذين يرون أحيانًا في هذه البقاع، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] وكذلك الذين يرون الخضر أحيانًا هو جنى رآه، وقد رآه غير واحد ممن أعرفه، وقال إنني الخضر، وكان ذلك جنيًا لبس على المسلمين الذين رأوه؛ وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات، ولو كان حيًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه؛ فإن الله فرض على كل أحد أدرك محمدًا ـ ولـو كان مـن الأنبياء ـ أن يـؤمنـوا به ويجـاهـدوا معـه، كمـا قـال تعـالـى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]، قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ: لم يبعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر، ولا أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدرًا من أن يلبس الشيطان عليهم؛ ولكن لبس على كثير ممن بعدهم، فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبي، ويقول: أنا الخضر وإنما هو شيطان، كما أن كثيرًا من الناس يرى ميته خرج وجاء إليه وكلمه في أمور وقضاء حوائج فيظنه الميت نفسه، وإنما هو شيطان تصور بصورته، وكثير من الناس يستغيث بمخلوق إما نصرإني كجرجس، أو غير/ نصراني، فيراه قد جاءه، وربما يكلمه، وإنما هو شيطان تصور بصورة ذلك المستغاث به لما أشرك به المستغيث تصور له، كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم الناس، ومثل هذا موجود كثير في هذه الأزمان في كثير من البلاد، ومن هؤلاء من تحمله الشياطين فتطير به في الهواء إلى مكان بعيد، ومنهم من تحمله إلى عرفة فلا يحج حجًا شرعيًا، ولا يحرم ولا يلبى ولا يطوف ولا يسعى؛ ولكن يقف بثيابه مع الناس، ثم يحملونه إلى بلده. وهذا من تلاعب الشياطين بكثير من الناس، كما قد بسط الكلام في غير هذا الموضع، والله أعلم بالصواب، و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
/ وَسُئِــل ـ رَحمه الله ـ عن زيارة [القدس] و[قبر الخليل عليه السلام] وما في أكل الخبز والعدس من البركة، ونقله من بلد إلى بلد للبركة، وما في ذلك من السنة والبدعة.
فأجاب:
الحمد لله، أما السفر إلى بيت المقدس للصلاة فيه، والاعتكاف أو القراءة أو الذكر، أو الدعاء، فمشروع مستحب، باتفاق علماء المسلمين. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا). والمسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه. وفي الصحيحين عنه أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام).
وأما السفر إلى مجرد زيارة [قبر الخليل] أو غيره من مقابر الأنبياء والصالحين ومشاهدهم وآثارهم، فلم يستحبه أحد من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا غيرهم؛ بل لو نذر ذلك ناذر لم يجب عليه الوفاء بهذا / النذر عن الأئمة الأربعة وغيرهم؛ بخلاف المساجد الثلاثة، فإنه إذا نذر السفر إلى المسجد الحرام لحج أو عمرة لزمه ذلك باتفاق الأئمة، وإذا نذر السفر إلى المسجدين الآخرين لزمه السفر عند أكثرهم كمالك وأحمد والشافعي في أظهر قوليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). رواه البخاري. وإنما يجب الوفاء بنذر كل ما كان طاعة؛ مثل من نذر صلاة، أو صومًا، أو اعتكافًا، أو صدقة لله، أو حجًا.
ولهذا لا يجب بالنذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة؛ لأنه ليس بطاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) . فمنع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، فغير المساجد أولى بالمنع؛ لأن العبادة في المساجد أفضل منها في غير المسجد وغير البيوت بلا ريب، ولأنه قد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب البقاع إلى الله المساجد)، مع أن قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) يتناول المنع من السفر إلى كل بقعة مقصودة، بخلاف السفر للتجارة، وطلب العلم، ونحو ذلك. فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت، وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان.
وقد ذكر بعض المتأخرين من العلماء: أنه لا بأس بالسفر إلى /المشاهد، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا. أخرجاه في الصحيحين، ولا حجة لهم فيه؛ لأن قباء ليست مشهدًا، بل مسجد، وهي منهى عن السفر إليها باتفاق الأئمة؛ لأن ذلك ليس بسفر مشروع، بل لو سافر إلى قباء من دويرة أهله لم يجز، ولكن لو سافر إلى المسجد النبوي ثم ذهب منه إلى قباء فهذا يستحب، كما يستحب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد.
وأما أكل الخبز والعدس المصنوع عند قبر الخليل ـ عليه السلام ـ فهذا لم يستحبه أحد من العلماء، لا المتقدمين ولا المتأخرين، ولا كان هذا مصنوعًا لا في زمن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا بعد ذلك إلى خمسمائة سنة من البعثة، حتى أخذ النصارى تلك البلاد. ولم تكن القبة التي على قبره مفتوحة، بل كانت مسدودة، ولا كان السلف من الصحابة والتابعين يسافرون إلى قبره ولا قبر غيره، لكن لما أخذ النصارى تلك البلاد فسووا حجرته واتخذوها كنيسة، فلما أخذ المسلمون البلاد بعد ذلك اتخذ ذلك من اتخذه مسجدًا، وذلك بدعة منهى عنها، لما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ يحذر ما فعلوا. وفي الصحيح عنه أنه قال قبل موته بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا / يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك).
ثم وقف بعض الناس وقفًا للعدس والخبز، وليس هذا وقفًا من الخليل، ولا من أحد من بنى إسرائيل، ولا من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من خلفائه، بل قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أطلق تلك القرية للدارميين. ولم يأمرهم أن يطعموا عند مشهد الخليل ـ عليه السلام ـ لا خبزًا ولا عدسًا، ولا غير ذلك. فمـن اعتقـد أن الأكل من هـذا الخبز والعـدس مستحب شـرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مبتدع ضال، بل من اعتقد أن العدس مطلقًا فيه فضيلة فهو جاهل. والحديث الذي يروى: (كلوا العدس فإنه يرق القلب، وقد قدس فيه سبعون نبيًا)، حديث مكذوب مختلق باتفاق أهل العلم. ولكن العدس هو مما اشتهاه اليهود. وقال الله تعالى لهم: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61].
ومن الناس من يتقرب إلى الجن بالعدس فيطبخون عدسًا ويضعونه في المراحيض، أو يرسلونه، ويطلبون من الشياطين بعض ما يطلب منهم، كما يفعلون مثل ذلك في الحمام، وغير ذلك، وهذا من الإيمان بالجبت والطاغوت.
وجماع دين الإسلام: أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويعبد/ بما شرعه ـ سبحانه وتعالى ـ على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: من الواجبات، والمستحبات، والمندوبات. فمن تعبد بعبادة ليست واجبة، ولا مستحبة فهو ضال، والله أعلم.
وَسُئِــل الشيّخ ـ رحمه الله:
هل الأفضل المجاورة بمكة، أو بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو المسجد الأقصى، أؤ بثَغْر من الثغور لأجل الغزو، وفيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، و(من زار البيت ولم يزرني فقد جفاني) ؟ وهل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الاستحباب أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، كما نص على ذلك أئمة الإسلام عامة، بل قد اختلفوا في المجاورة: فكرهها أبو حنيفة، واستحبها مالك وأحمد وغيرهما، ولكن المرابطة عندهم أفضل من المجاورة، وهذا متفق عليه بين السلف، حتى قال أبو هريرة ـ رضى الله عنه ـ: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. وذلك أن الرباط من جنس الجهاد، وجنس الجهاد مقدم على جنس الحج، كما في الصحيحين عن النبي/ صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: أى العمل أفضل؟ قال: (الإيمان بالله ورسوله). قيل: ثم ماذا؟ قال: (جهاد في سبيل الله). قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور). وقد قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19: 22].
وأما قوله: (من زار قبري وجبت له شفاعتي): فهذا الحديث رواه الدارقطني ـ فيما قيل ـ بإسناد ضعيف، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد.
وأما الحديث الآخر: قوله: (من حج البيت ولم يزرنى فقد جفإني)، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه مخالف للإجماع؛ فإن جفاء الرسول صلى الله عليه وسلم من الكبائر، بل هو كفر ونفاق، بل يجب أن يكون أحب إلينا من أهلينا وأموالنا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
/ وأما [زيارته] فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل ليس فيها أمر في الكتاب ولا في السنة، وإنما الأمر الموجود في الكتاب والسنة بالصلاة عليه والتسليم. فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وأكثر ما اعتمده العلماء في [الزيارة] قوله في الحديث الذي رواه أبو داود: (ما من مسلم يُسلِّم عَلَىَّ، إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). وقد كره مالك وغيره أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان الصحابة ـ كابن عمر وأنس وغيرهما ـ يسلمون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، كما في الموطأ: أن ابن عمر كان إذا دخل المسجد يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت.
وشد الرحل إلى مسجده مشروع باتفاق المسلمين، كما في الصحيحين عنه أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا). وفي الصحيحين عنه أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام). فإذا أتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسلم عليه وعلى صاحبيه، كما كان الصحابة يفعلون.
وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده، فهذه المسألة فيها خلاف. فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير /مشروع، ولا مأمور به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). ولهذا لم يذكر العلماء أن مثل هذا السفر إذا نذره يجب الوفاء به، بخلاف السفر إلى المساجد الثلاثة لا للصلاة فيها والاعتكاف، فقد ذكر العلماء وجوب ذلك في بعضها ـ في المسجد الحرام ـ وتنازعوا في المسجدين الآخرين.
فالجمهور يوجبون الوفاء به في المسجدين الآخرين؛ كمالك والشافعي وأحمد؛ لكون السفر إلى الفاضل لا يغنى عن السفر إلى المفضول. وأبو حنيفة إنما يوجب السفر إلى المسجد الحرام؛ بناء على أنه إنما يوجب بالنذر ما كان جنسه واجبًا بالشرع. والجمهور يوجبون الوفاء بكل ما هو طاعة؛ لما في صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نَذَر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). بل قد صرح طائفة من العلماء ـ كابن عقيل وغيره ـ بأن المسافر لزيارة قبور الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وغيرها لا يقصر الصلاة في هذا السفر؛ لأنه معصية، لكونه معتقدًا أنه طاعة وليس بطاعة، والتقرب إلى الله عز وجل بما ليست بطاعة هو معصية؛ ولأنه نهى عن ذلك والنهي يقتضي التحريم.
ورخص بعض المتـأخرين في السـفر لزيـارة القبور، كما ذكر أبو حامد في [الإحياء] وأبو الحسن ابن عبدوس، وأبو محمد المقدسي، وقد روى حديثًا رواه الطبرإني من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جاءني زائرًا لا تنزعه إلا زيارتي كان حقًا على أن أكون له شفيعًا يوم القيامة). لكنه من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر العمري، وهو مضعف؛ ولهذا لم يحتج بهذا الحديث أحد من السلف والأئمة. وبمثله لا يجوز إثبات حكم شرعي باتفاق علماء المسلمين، والله أعلم.[center][b]
الجزء السابع
الزيارة وشد الرحال إليها
/قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
فَصْــل
في [زيارة بيت المقدس] ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، وقد روى من طرق أخرى، وهو حديث مستفيض /متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق.
واتفق علماء المسلمين على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه، كالصلاة، والدعاء، والذكر، وقراءة القرآن، والاعتكاف. وقد روى من حديث رواه الحاكم في صحيحه: (أن سليمان ـ عليه السلام ـ سأل ربه ثلاثًا: ملكًا لا ينبغى لأحد من بعده، وسأله حكمًا يوافق حكمه، وسأله أنه لا يؤم أحد هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غُفِرَ له)، ولهذا كان ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ يأتي إليه في صلى فيه ولا يشرب فيه ماء؛ لتصيبه دعوة سليمان لقوله: (لا يريد إلا الصلاة فيه)، فإن هذا يقتضي إخلاص النية في السفر إليه، ولا يأتيه لغرض دنيوي ولا بدعة.
وتنازع العلماء فيمن نذر السفر إليه في الصلاة فيه أو الاعتكاف فيه: هل يجب عليه الوفاء بنذره؟ على قولين مشهورين، وهما قولان للشافعي:
أحدهما: يجب الوفاء بهذا النذر، وهو قول الأكثرين، مثل مالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهما.
والثإني: لا يجب، وهو قول أبي حنيفة، فإن من أصله أنه لا يجب النذر إلا ما كان جنسه واجبًا بالشرع، فلهذا يوجب نذر /الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة، فإن جنسها واجب بالشرع ولا يوجب نذر الاعتكاف، فإن الاعتكاف لا يصح عنده إلا بصوم، وهو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
وأما الأكثرون، فيحتجون بما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يُطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يَعْصي الله فلا يَعْصه). فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالنذر لكل من نذر أن يطيع الله، ولم يشترط أن تكون الطاعة من جنس الواجب بالشرع، وهذا القول أصح.
وهكذا النزاع لو نذر السفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه أفضل من المسجد الأقصى. وأما لو نذر إتيان المسجد الحرام لحج أو عمرة، وجب عليه الوفاء بنذره باتفاق العلماء.
والمسجد الحرام أفضل المساجد، ويليه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويليه المسجد الأقصى، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صَلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام).
والذي عليه جمهور العلمـاء: أن الصـلاة في المسـجد الحـرام أفضل منها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى أحمد والنسائي وغيرهما /عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة). وأما في المسجد الأقصى، فقد روى أنها بخمسين صلاة، وقيل: بخمسمائة صلاة، وهو أشبه.
ولو نذر السفر إلى قبر الخليل ـ عليه السلام ـ أو قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى [الطور]، الذي كلم الله عليه موسى ـ عليه السلام ـ أو إلى جبل حراء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه وجاءه الوحى فيه، أو الغار المذكور في القرآن، وغير ذلك من المقابر والمقامات والمشاهد المضافة إلى بعض الأنبياء والمشائخ، أو إلى بعض المغارات، أو الجبال، لم يجب الوفاء بهذا النذر، باتفاق الأئمة الأربعة، فـإن السفر إلى هذه المواضع منهى عنه؛ لنهى النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). فإذا كانت المساجد التى هي من بيوت الله التى أمر فيها بالصلوات الخمس قد نهى عن السفر إليها، حتى مسجد قباء الذي يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إليه، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا. وروى الترمذى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه، كان له كعمرة). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
/ فإذا كان مثل هذا ينهى عن السفر إليه، وينهى عن السفر إلى الطور المذكور في القرآن، وكما ذكر مالك المواضع التى لم تبن للصلوات الخمس؛ بل ينهى عن اتخاذها مساجد، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد) ـ يحذر ما فعلوا ـ قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)؛ ولهذا لم يكن الصحابة يسافرون إلى شيء من مشاهد الأنبياء لا مشهد إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ ولا غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج صلى في بيت المقدس ركعتين كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ولم يصل في غيره . وأما ما يرويه بعض الناس من حديث المعراج أنه صلى في المدينة، و صلى عند قبر موسى ـ عليه السلام ـ و صلى عند قبر الخليل، فكل هذه الأحاديث مكذوبة موضوعة.
وقد رَخّص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد، ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة ولا احتجوا بحجة شرعية.
/ فَصْــل
والعبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام، فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد بالطواف بالكعبة، واستلام الركنين اليمانيين، وتقبيل الحجر الأسود، وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وسائر المساجد، فليس فيها ما يطاف به، ولا فيها ما يتمسح به، ولا ما يُقَبّل، فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، ولا بصخرة بيت المقدس، ولا بغير هؤلاء، كالقبة التي فوق جبل عرفات وأمثالها، بل ليست في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة.
ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع؛ فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة صلى بالمسلمين ثمانية عشر شهرًا إلى بيت المقدس، فكانت قبلة المسلمين هذه المدة، ثم إن الله حَوَّل القبلة إلى الكعبة، وأنزل الله في ذلك القرآن /كما ذكر في سورة البقرة، و صلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى الكعبة، وصارت هي القبلة وهي قبلة إبراهيم، وغيره من الأنبياء.
فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلى إليها، فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، مع أنها كانت قبلة لكن نُسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكانًا يطاف به كما يطاف بالكعبة؟! والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال، وكذلك من قصد أن يسوق إليها غنمًا أو بقرًا ليذبحها هناك ويعتقد أن الأضحية فيها أفضل، وأن يحلق فيها شعره في العيد، أو أن يسافر إليها ليعرف بها عشية عرفة، فهذه الأمور التي يشبه بها بيت المقدس في الوقوف والطواف والذبح والحلق من البـدع والضـلالات، ومـن فعـل شيئًا مـن ذلك معتقدًا أن هذا قربة إلى الله، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كما لو صلى إلى الصخرة معتقدًا أن استقبالها في الصلاة قربة كاستقبال الكعبة؛ ولهذا بنى عمر بن الخطاب مصلى المسلمين في مقدم المسجد الأقصى.
فإن المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان ـ عليه السلام، وقد صار بعض الناس يسمى الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في مقدمه، والصلاة في هذا الم صلى الذى بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد؛ فإن عمر بن الخطاب لما /فتح بيت المقدس وكان على الصخرة زبالة عظيمة؛ لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذين يصلون إليها، فأمـر عمر ـ رضي الله عنه ـ بإزالة النجاسة عنها، وقال لكعب الأحبار: أين ترى أن نبني مصلى المسلمين؟ فقال: خلف الصخرة، فقال: يا بن اليهودية، خالطتك يهودية، بل أبنيه أمامها، فإن لنا صدور المساجد. ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصلاة في الم صلى الذي بناه عمر، وقد روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى في محراب داود.
وأما الصخرة فلم يصلى عندها عمر ـ رضي الله عنه، ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة، بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلى ومعاوية ويزيد ومروان، ولكن لما تولى ابنه عبد الملك الشام، ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة، كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير، فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير فبنى القبة على الصخرة، وكساها في الشتاء والصيف، ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس، ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير، وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلم يكونوا يعظمون الصخرة فإنها قبلة منسوخة، كما أن يوم السبت كان عيدًا في شريعة موسى ـ عليه السلام ـ ثم نسخ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بيوم الجمعة، فليس للمسلمين أن يخصوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود /والنصارى، وكذلك الصخرة إنما يعظمها اليهود وبعض النصارى.
وما يذكره بعض الجهال فيها من أن هناك أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر عمامته، وغير ذلك، فكله كذب، وأكذب منه من يظن أنه موضع قدم الرب. وكذلك المكان الذي يذكر أنه مهد عيسى ـ عليه السلام ـ كذب، وإنما كان موضع معمودية النصارى. وكذا من زعم أن هناك الصراط والميزان، أو أن السور الذي يضرب به بين الجنة والنار هو ذلك الحائط المبني شرقي المسجد. وكذلك تعظيم السلسلة، أو موضعها ليس مشروعًا.
فَصْــل
وليس في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى، لكن إذا زار قبور الموتى وسلم عليهم وترحم عليهم ـ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ـ فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات، وإنا إن شـاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، الله م لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم).
/ فَصْــل
وأما زيارة معابد الكفار مثل الموضع المسمى [بالقُمَامة] أو [بيت لحم] أو [صهيون] أو غير ذلك، مثل [كنائس النصارى]، فمنهى عنها. فمن زار مكانًا من هذه الأمكنة معتقدًا أن زيارته مستحبة، والعبادة فيه أفضل من العبادة في بيته، فهو ضال، خارج عن شريعة الإسلام يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما إذا دخلها الإنسان لحاجة وعرضت له الصلاة فيها، فللعلماء فيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: تكره الصلاة فيها مطلقًا، واختاره ابن عقيل، وهو منقول عن مالك. وقيل: تباح مطلقًا. وقيل: إن كان فيها صور نهى عن الصلاة وإلا فلا، وهذا منصوص عن أحمد وغيره، وهو مروى عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وغيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة)، ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة كان في الكعبة تماثيل، فلم يدخل الكعبة حتى محيت تلك الصور. والله أعلم.
فَصْــل
وليس ببيت المقدس مكان يسمى [حرمًا] ولا بتربة الخليل، ولا /بغير ذلك من البقاع إلا ثلاثة أماكن: أحدها: هو حرم باتفاق المسلمين، وهو حرم مكة ـ شرفها الله تعالى. والثإني: حرم عند جمهور العلماء، وهو حرم النبي صلى الله عليه وسلم من عير إلى ثور، بريد في بريد، فإن هذا حرم عند جمهور العلماء كمالك، والشافعي، وأحمد وفيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثالث: [وج] وهو واد بالطائف، فإن هذا روى فيه حديث رواه أحمد في المسند، وليس في الصحاح، وهذا حرم عند الشافعي؛ لاعتقاده صحة الحديث، وليس حرمًا عند أكثر العلماء، وأحمـد ضعف الحديث المروي فيـه فلم يأخـذ به. وأمـا مـا سـوى هـذه الأماكن الثلاثة، فليس حرمًا عند أحد من علماء المسلمين، فإن الحرم: ما حـرم الله صيده ونباته، ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجًا عن هذه الأماكن الثلاثة.
فَصْــل
وأما زيارة بيت المقدس، فمشروعة في جميع الأوقات، ولكن لا ينبغى أن يؤتى في الأوقات التي تقصدها الضلال، مثل وقت عيد النحر، فإن كثيرًا من الضُّلال يسافرون إليه ليقفوا هناك، والسفر إليه لأجل التعريف به معتقدًا أن هذا قربة، محرم بلا ريب، وينبغي ألا يتشبه بهم، ولا يكثر سوادهم.
/وليس السفر إليه مع الحج قربة. وقول القائل: قدس الله حجتك. قول باطل لا أصل له كما يروى: (من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له الجنة)، فإن هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث، بل وكذلك كل حديث يروى في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ضعيف، بل موضوع، ولم يروى أهل الصحاح والسنن والمسانيد ـ كمسند أحمد وغيره ـ من ذلك شيئًا؛ ولكن الذي في السنن: ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يسلم عليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). فهو يرد السلام على من سلم عليه عند قبره، ويبلغ سلام من سلم عليه من البعيد، كما في النسائى عنه أنه قال: (إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام). وفي السنن عنه أنه قال: (أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي). قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: (إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء). فبين صلى الله عليه وسلم أن الصلاة والسلام توصل إليه من البعيد. والله قد أمرنا أن ن صلى عليه ونسلم. وثبت في الصحيح أنه قال: (من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا)، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
/ فَصْــل
وأما السفر إلى [عسقلان] في هذه الأوقات فليس مشروعًا لا واجبًا، ولا مستحبًا؛ ولكن عسقلان كان لسكناها وقصدها فضيلة لما كانت ثغرًا للمسلمين يقيم بها المرابطون في سبيل الله، فإنه قد ثبت في صحيح مسلم عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا مات مجاهدًا، وأجرى عليه عمله، وأجرى عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان). وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. وكان أهل الخير والدين يقصدون ثغور المسلمين للرباط فيها ـ ثغور الشام: كعسقلان، وعكة، وطرطوس، وجبل لبنان، وغيرها، وثغور مصر: كالإسكندرية وغيرهـا، وثغور العـراق: كعبادان وغيرها ـ فما خرب من هذه البقاع ولم يبق بيوتًا كعسقلان لم يكن ثغورًا ولا في السفر إليه فضيلة، وكذلك جبل لبنان وأمثاله من الجبال لا يستحب السفر إليه، وليس فيه أحد من الصالحين المتبعين لشريعة الإسلام، ولكن فيه كثير من الجن، وهم [رجال الغيب] الذين يرون أحيانًا في هذه البقاع، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] وكذلك الذين يرون الخضر أحيانًا هو جنى رآه، وقد رآه غير واحد ممن أعرفه، وقال إنني الخضر، وكان ذلك جنيًا لبس على المسلمين الذين رأوه؛ وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات، ولو كان حيًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه؛ فإن الله فرض على كل أحد أدرك محمدًا ـ ولـو كان مـن الأنبياء ـ أن يـؤمنـوا به ويجـاهـدوا معـه، كمـا قـال تعـالـى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]، قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ: لم يبعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر، ولا أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدرًا من أن يلبس الشيطان عليهم؛ ولكن لبس على كثير ممن بعدهم، فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبي، ويقول: أنا الخضر وإنما هو شيطان، كما أن كثيرًا من الناس يرى ميته خرج وجاء إليه وكلمه في أمور وقضاء حوائج فيظنه الميت نفسه، وإنما هو شيطان تصور بصورته، وكثير من الناس يستغيث بمخلوق إما نصرإني كجرجس، أو غير/ نصراني، فيراه قد جاءه، وربما يكلمه، وإنما هو شيطان تصور بصورة ذلك المستغاث به لما أشرك به المستغيث تصور له، كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم الناس، ومثل هذا موجود كثير في هذه الأزمان في كثير من البلاد، ومن هؤلاء من تحمله الشياطين فتطير به في الهواء إلى مكان بعيد، ومنهم من تحمله إلى عرفة فلا يحج حجًا شرعيًا، ولا يحرم ولا يلبى ولا يطوف ولا يسعى؛ ولكن يقف بثيابه مع الناس، ثم يحملونه إلى بلده. وهذا من تلاعب الشياطين بكثير من الناس، كما قد بسط الكلام في غير هذا الموضع، والله أعلم بالصواب، و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
/ وَسُئِــل ـ رَحمه الله ـ عن زيارة [القدس] و[قبر الخليل عليه السلام] وما في أكل الخبز والعدس من البركة، ونقله من بلد إلى بلد للبركة، وما في ذلك من السنة والبدعة.
فأجاب:
الحمد لله، أما السفر إلى بيت المقدس للصلاة فيه، والاعتكاف أو القراءة أو الذكر، أو الدعاء، فمشروع مستحب، باتفاق علماء المسلمين. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا). والمسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه. وفي الصحيحين عنه أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام).
وأما السفر إلى مجرد زيارة [قبر الخليل] أو غيره من مقابر الأنبياء والصالحين ومشاهدهم وآثارهم، فلم يستحبه أحد من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا غيرهم؛ بل لو نذر ذلك ناذر لم يجب عليه الوفاء بهذا / النذر عن الأئمة الأربعة وغيرهم؛ بخلاف المساجد الثلاثة، فإنه إذا نذر السفر إلى المسجد الحرام لحج أو عمرة لزمه ذلك باتفاق الأئمة، وإذا نذر السفر إلى المسجدين الآخرين لزمه السفر عند أكثرهم كمالك وأحمد والشافعي في أظهر قوليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). رواه البخاري. وإنما يجب الوفاء بنذر كل ما كان طاعة؛ مثل من نذر صلاة، أو صومًا، أو اعتكافًا، أو صدقة لله، أو حجًا.
ولهذا لا يجب بالنذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة؛ لأنه ليس بطاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) . فمنع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، فغير المساجد أولى بالمنع؛ لأن العبادة في المساجد أفضل منها في غير المسجد وغير البيوت بلا ريب، ولأنه قد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب البقاع إلى الله المساجد)، مع أن قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) يتناول المنع من السفر إلى كل بقعة مقصودة، بخلاف السفر للتجارة، وطلب العلم، ونحو ذلك. فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت، وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان.
وقد ذكر بعض المتأخرين من العلماء: أنه لا بأس بالسفر إلى /المشاهد، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا. أخرجاه في الصحيحين، ولا حجة لهم فيه؛ لأن قباء ليست مشهدًا، بل مسجد، وهي منهى عن السفر إليها باتفاق الأئمة؛ لأن ذلك ليس بسفر مشروع، بل لو سافر إلى قباء من دويرة أهله لم يجز، ولكن لو سافر إلى المسجد النبوي ثم ذهب منه إلى قباء فهذا يستحب، كما يستحب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد.
وأما أكل الخبز والعدس المصنوع عند قبر الخليل ـ عليه السلام ـ فهذا لم يستحبه أحد من العلماء، لا المتقدمين ولا المتأخرين، ولا كان هذا مصنوعًا لا في زمن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا بعد ذلك إلى خمسمائة سنة من البعثة، حتى أخذ النصارى تلك البلاد. ولم تكن القبة التي على قبره مفتوحة، بل كانت مسدودة، ولا كان السلف من الصحابة والتابعين يسافرون إلى قبره ولا قبر غيره، لكن لما أخذ النصارى تلك البلاد فسووا حجرته واتخذوها كنيسة، فلما أخذ المسلمون البلاد بعد ذلك اتخذ ذلك من اتخذه مسجدًا، وذلك بدعة منهى عنها، لما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ يحذر ما فعلوا. وفي الصحيح عنه أنه قال قبل موته بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا / يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك).
ثم وقف بعض الناس وقفًا للعدس والخبز، وليس هذا وقفًا من الخليل، ولا من أحد من بنى إسرائيل، ولا من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من خلفائه، بل قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أطلق تلك القرية للدارميين. ولم يأمرهم أن يطعموا عند مشهد الخليل ـ عليه السلام ـ لا خبزًا ولا عدسًا، ولا غير ذلك. فمـن اعتقـد أن الأكل من هـذا الخبز والعـدس مستحب شـرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مبتدع ضال، بل من اعتقد أن العدس مطلقًا فيه فضيلة فهو جاهل. والحديث الذي يروى: (كلوا العدس فإنه يرق القلب، وقد قدس فيه سبعون نبيًا)، حديث مكذوب مختلق باتفاق أهل العلم. ولكن العدس هو مما اشتهاه اليهود. وقال الله تعالى لهم: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61].
ومن الناس من يتقرب إلى الجن بالعدس فيطبخون عدسًا ويضعونه في المراحيض، أو يرسلونه، ويطلبون من الشياطين بعض ما يطلب منهم، كما يفعلون مثل ذلك في الحمام، وغير ذلك، وهذا من الإيمان بالجبت والطاغوت.
وجماع دين الإسلام: أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويعبد/ بما شرعه ـ سبحانه وتعالى ـ على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: من الواجبات، والمستحبات، والمندوبات. فمن تعبد بعبادة ليست واجبة، ولا مستحبة فهو ضال، والله أعلم.
وَسُئِــل الشيّخ ـ رحمه الله:
هل الأفضل المجاورة بمكة، أو بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو المسجد الأقصى، أؤ بثَغْر من الثغور لأجل الغزو، وفيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، و(من زار البيت ولم يزرني فقد جفاني) ؟ وهل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الاستحباب أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، كما نص على ذلك أئمة الإسلام عامة، بل قد اختلفوا في المجاورة: فكرهها أبو حنيفة، واستحبها مالك وأحمد وغيرهما، ولكن المرابطة عندهم أفضل من المجاورة، وهذا متفق عليه بين السلف، حتى قال أبو هريرة ـ رضى الله عنه ـ: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. وذلك أن الرباط من جنس الجهاد، وجنس الجهاد مقدم على جنس الحج، كما في الصحيحين عن النبي/ صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: أى العمل أفضل؟ قال: (الإيمان بالله ورسوله). قيل: ثم ماذا؟ قال: (جهاد في سبيل الله). قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور). وقد قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19: 22].
وأما قوله: (من زار قبري وجبت له شفاعتي): فهذا الحديث رواه الدارقطني ـ فيما قيل ـ بإسناد ضعيف، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد.
وأما الحديث الآخر: قوله: (من حج البيت ولم يزرنى فقد جفإني)، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه مخالف للإجماع؛ فإن جفاء الرسول صلى الله عليه وسلم من الكبائر، بل هو كفر ونفاق، بل يجب أن يكون أحب إلينا من أهلينا وأموالنا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
/ وأما [زيارته] فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل ليس فيها أمر في الكتاب ولا في السنة، وإنما الأمر الموجود في الكتاب والسنة بالصلاة عليه والتسليم. فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وأكثر ما اعتمده العلماء في [الزيارة] قوله في الحديث الذي رواه أبو داود: (ما من مسلم يُسلِّم عَلَىَّ، إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). وقد كره مالك وغيره أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان الصحابة ـ كابن عمر وأنس وغيرهما ـ يسلمون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، كما في الموطأ: أن ابن عمر كان إذا دخل المسجد يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت.
وشد الرحل إلى مسجده مشروع باتفاق المسلمين، كما في الصحيحين عنه أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا). وفي الصحيحين عنه أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام). فإذا أتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسلم عليه وعلى صاحبيه، كما كان الصحابة يفعلون.
وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده، فهذه المسألة فيها خلاف. فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير /مشروع، ولا مأمور به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). ولهذا لم يذكر العلماء أن مثل هذا السفر إذا نذره يجب الوفاء به، بخلاف السفر إلى المساجد الثلاثة لا للصلاة فيها والاعتكاف، فقد ذكر العلماء وجوب ذلك في بعضها ـ في المسجد الحرام ـ وتنازعوا في المسجدين الآخرين.
فالجمهور يوجبون الوفاء به في المسجدين الآخرين؛ كمالك والشافعي وأحمد؛ لكون السفر إلى الفاضل لا يغنى عن السفر إلى المفضول. وأبو حنيفة إنما يوجب السفر إلى المسجد الحرام؛ بناء على أنه إنما يوجب بالنذر ما كان جنسه واجبًا بالشرع. والجمهور يوجبون الوفاء بكل ما هو طاعة؛ لما في صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نَذَر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). بل قد صرح طائفة من العلماء ـ كابن عقيل وغيره ـ بأن المسافر لزيارة قبور الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وغيرها لا يقصر الصلاة في هذا السفر؛ لأنه معصية، لكونه معتقدًا أنه طاعة وليس بطاعة، والتقرب إلى الله عز وجل بما ليست بطاعة هو معصية؛ ولأنه نهى عن ذلك والنهي يقتضي التحريم.
ورخص بعض المتـأخرين في السـفر لزيـارة القبور، كما ذكر أبو حامد في [الإحياء] وأبو الحسن ابن عبدوس، وأبو محمد المقدسي، وقد روى حديثًا رواه الطبرإني من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جاءني زائرًا لا تنزعه إلا زيارتي كان حقًا على أن أكون له شفيعًا يوم القيامة). لكنه من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر العمري، وهو مضعف؛ ولهذا لم يحتج بهذا الحديث أحد من السلف والأئمة. وبمثله لا يجوز إثبات حكم شرعي باتفاق علماء المسلمين، والله أعلم.[center][b]