كتــاب الفقــه
الجزء الأول
الطهـــارة
/بسم الله الرحمن الرحيم
باب المياه
وقـال الشيخ الإمام العالم العامل القـدوة،رباني الأمة، ومحيي السنة العـلامة شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ـ قدس الله روحه ونور ضريحه:
الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد خاتم المرسلين، وإمام المهتدين، وعلى آله أجمعين.
فصـــل
أما العبادات، فأعظمها الصلاة. والناس إما أن يبتدئوا مسائلها بالطُّهور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطُّهور) كما رتبه أكثرهم، وإما بالمواقيت التي تجب بها الصلاة، كما فعله مالك وغيره.
/فأما الطهارة والنجاسة فنوعان: من الحلال والحرام ـ في اللباس ونحوه ـ تابعان للحلال والحرام في الأطعمة والأشربة.
ومذهب أهل الحديث في هذا الأصل العظيم الجامع: وسط بين مذهب العراقيين والحجازيين؛ فإن أهل المدينة ـ مالكًا وغيره ـ يحرمون من الأشربة كل مسكر ـ كما صحت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ـ وليسوا في الأطعمة كذلك، بل الغالب عليهم فيها عدم التحريم فيبيحون الطيور مطلقًا ـ وإن كانت من ذات المخالب ـ ويكرهون كل ذي ناب من السباع. وفي تحريمها عن مالك روايتان. وكذلك في الحشرات عنه: هل هي محرمة أو مكروهة؟ روايتان.
وكذلك البغال والحمير. وروي عنه أنها مكروهة أشد من كراهة السباع، وروي عنه أنها محرمة بالسنة، دون تحريم الحمير، والخيل ـ أيضًا ـ: يكرهها، لكن دون كراهة السباع.
وأهل الكوفة في باب الأشربة مخالفون لأهل المدينة ولسائر الناس،ليست الخمر عندهم إلا من العنب، ولا يحرمون القليل من المسكر، إلا أن يكون خمرًا من العنب، أو أن يكون من نبيذ التمر أو الزبيب النيئ، أو يكون من مطبوخ عصير العنب إذا لم يذهب ثلثاه. وهم في/ الأطعمة في غاية التحريم، حتى حرموا الخيل والضباب، وقيل: إن أبا حنيفة يكره الضب والضباع ونحوها.
فأخذ أهل الحديث في الأشربة بقول أهل المدينة وسائر أهل الأمصار ـ موافقة للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التحريم ـ وزادوا عليهم في متابعة السنة.
وصنف الإمام أحمد كتابًا كبيرًا في الأشربة ما علمت أحدًا صنف أكبر منه، وكتابًا أصغر منه. وهو أول من أظهر في العراق هذه السنة، حتى إنه دخل بعضهم بغداد فقال: هل فيها من يحرم النبيذ؟ فقالوا: لا، إلا أحمد بن حنبل دون غيره من الأئمة، وأخذ فيه بعامة السنة، حتى إنه حرم العصير والنبيذ بعد ثلاث. وإن لم يظهر فيه شدة، متابعة للسنة المأثورة في ذلك؛ لأن الثلاث مظنة ظهور الشدة غالبًا. والحكمة هنا مما تخفي، فأقيمت المظنة مقام الحكمة، حتى إنه كره الخليطين، إما كراهة تنزيه أو تحريم، على اختلاف الروايتين عنه. وحتى اختلف قوله في الانتباذ في الأوعية: هل هو مباح، أو محرم، أو مكروه؛ لأن أحاديث النهي كثيرة جدًا،وأحاديث النسخ قليلة، فاختلف اجتهاده: هل تنسخ الأخبار المستفيضة بمثل هذه الأخبار التي لا تخرج عن كونها أخبار آحاد ولم يخرج البخاري منها شيئًا؟
/وأخذوا في الأطعمة بقول أهل الكوفة؛لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحوم الحمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من تمسك في هذا الباب بعدم وجود نص التحريم في القرآن حيث قال: (لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه )، ( ألا وإني وتيت الكتاب ومثله معه)،( وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى)، وهذا المعني محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه.
وعلموا أن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو زيادة تحريم، ليس نسخًا للقرآن؛ لأن القرآن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير، وعدم التحريم ليس تحليلاً، وإنما هو بقاء للأمر على ما كان، وهذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق العلماء، ليس كما ظنه أصحاب مالك والشافعي أنها من آخر القرآن نزولا، وإنما سورة المائدة هي المتأخرة، وقد قال الله فيها: { أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } [المائدة: 5]، فعلم أن عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلاً، وإنما هو عفو، فتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع /للعفو ليس نسخًا للقرآن.
لكن لم يوافق أهل الحديث الكوفيين على جميع ما حرموه، بل أحلوا الخيل؛ لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحليلها يوم خيبر، وبأنهم ذبحوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسًا وأكلوا لحمه. وأحلوا الضب؛ لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قال: (لا أحرمه)، وبأنه أكل على مائدته وهو ينظر، ولم ينكر على من أكله، وغير ذلك مما جاءت فيه الرخصة.
فنقصوا عما حرمه أهل الكوفة من الأطعمة، كما زادوا على أهل المدينة في الأشربة؛ لأن النصوص الدالة على تحريم الأشربة المسكرة أكثر من النصوص الدالة على تحريم الأطعمة.
ولأهل المدينة سلف من الصحابة والتابعين في استحلال ما أحلوه، أكثر من سلف أهل الكوفة في استحلال المسكر. والمفاسد الناشئة من المسكر أعظم من مفاسد خبائث الأطعمة؛ ولهذا سميت الخمر أم الخبائث كما سماها عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وغيره، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد شاربها، وفعله هو وخلفاؤه، وأجمع عليه العلماء، دون المحرمات من الأطعمة، فإنه لم يحد فيها أحد من أهل العلم إلا ما بلغنا عن الحسن البصري، بل قد أمر صلى الله عليه وسلم/بقتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة، وإن كان الجمهور على أنه منسوخ. ونهي النبي صلى الله عليه وسلم ـ فيما صح عنه ـ عن تخليل الخمر، وأمر بشق ظروفها وكسر دِنَانِها، وإن كان قد اختلفت الرواية عن أحمد: هل هذا باق، أو منسوخ؟
ولما كان الله -سبحانه وتعالى- إنما حرم الخبائث لما فيها من الفساد؛ إما في العقول، أو الأخلاق أو غيرها، ظهر على الذين استحلوا بعض المحرمات من الأطعمة أو الأشربة من النقص بقدر ما فيها من المفسدة، ولولا التأويل لاستحقوا العقوبة.
ثم إن الإمام أحمد وغيره من علماء الحديث زادوا في متابعة السنة على غيرهم بأن أمروا بما أمر الله به ورسوله مما يزيل ضرر بعض المباحات، مثل لحوم الإبل، فإنها حلال بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار اليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنها جن خلقت من جن).وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود:( الغضب من الشيطان،وإن الشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)، فأمر بالتوضؤ من الأمر العارض من الشيطان، فأكل لحمها يورث قوة شيطانية تزول بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحمها،كما صح ذلك عنه من غير وجه من حديث جابر بن سمرة،والبراء بن/ عازب، وأسيد بن الحضير، وذي الغُرَّة، وغيرهم فقال مرة: (توضؤوا من لحوم الإبل ولا تتوضؤوا من لحوم الغنم، وصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل)، فمن توضأ من لحومها اندفع عنه ما يصيب المدمنين ـ لأكلها من غير وضوء كالأعراب ـ من الحقد، وقسوة القلب، التي أشار اليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله المخرج عنه في الصحيحين: (إن الغلظة وقسوة القلوب في الفدَّاِدين أصحاب الإبل، وإن السكينة في أهل الغنم).
واختلف عن أحمد: هل يتوضأ من سائر اللحوم المحرمة؟ على روايتين، بناء على أن الحكم مختص بها، أو أن المحرم أولي بالتوضؤ منه من المباح الذي فيه نوع مضرة.
وسائر المصنفين ـ من أصحاب الشافعي وغيره ـ وافقوا أحمد على هذا الأصل، وعلموا أن من اعتقد أن هذا منسوخ بترك الوضوء مما مست النار فقد أبعد؛ لأنه فرق في الحديث بين اللحمين، ليتبين أن العلة هي الفارقة بينهما لا الجامع.
وكذلك قالوا بما اقتضاه الحديث: من أنه يتوضأ منه نيئًا ومطبوخًا، ولأن هذا الحديث كان بعد النسخ؛ ولهذا قال في لحم الغنم: (وإن شئت فلا تتوضأ)، ولأن النسخ لم يثبت إلا بالترك /من لحم غنم، فلا عموم له،وهذا معني قول جابر: كان آخر الأمرين منه، ترك الوضوء مما مست النار فإنه رآه يتوضأ، ثم رآه أكل لحم غنم ولم يتوضأ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم صيغة عامة في ذلك، ولو نقلها لكان فيه نسخ للخاص بالعام الذي لم يثبت شموله لذلك الخاص عينًا، وهو أصل لا يقول به أكثر المالكية والشافعية والحنبلية.
هذا، مع أن أحاديث الوضوء مما مست النار لم يثبت أنها منسوخة، بل قد قيل: إنها متأخرة، ولكن أحد الوجهين في مذهب أحمد: أن الوضوء منها مستحب ليس بواجب. والوجه الآخر: لا يستحب.
فلما جاءت السنة بتجنب الخبائث الجسمانية والتطهر منها، كذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحانية والتطهر منها، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه)، وقال: ( إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده؟)، فعلل الأمر بالغسل بمبيت الشيطان على خيشومه، فعلم أن ذلك سبب للطهارة من غير النجاسة الظاهرة، فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل.
/وكذلك نهي عن الصلاة في أعطان الإبل،وقال: (إنها جن خلقت من جن)، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)، وقد روي عنه: إن الحمام بيت الشيطان، وثبت عنه: أنه لما ارتحل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر قال: (إنه مكان حضرنا فيه الشيطان).
فعلل صلى الله عليه وسلم الأماكـن بالأرواح الخبيثـة، كما يعلل بالأجسام الخبيثـة، وبهـذا يقـول أحمـد وغيره من فقهاء الحديث، ومذهبه الظاهر عنه: إن ما كان مأوي للشياطين ـ كالمعاطن والحمامات ـ حرمت الصلاة فيه. وما عرض الشيطان فيه ـ كالمكان الذي ناموا فيه عن الصلاة ـ كرهت فيه الصلاة.
والفقهاء الذين لم ينهوا عن ذلك: إما لأنهم لم يسمعوا هذه النصوص سماعا تثبت به عندهم، أو سمعوها ولم يعرفوا العلة، فاستبعدوا ذلك عن القياس فتأولوه.
وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة خلاف هذه المسائل، وأنهم لم يكونوا يتوضؤون من لحوم الإبل، فقد غلط عليهم، وإنما توهم ذلك لما نقل عنهم: أنهم لم يكونوا يتوضؤون مما مست النار. وإنما المراد: أن أكل ما مس النار ليس هو سببًا عندهم لوجوب/الوضوء،والذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحوم الإبل ليس سببه مس النار، كما يقال: كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر. وإن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذي.
ومن تمام هذا: أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي ذر وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ وجاء من حديث غيرهما ـ أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار). وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكلب الأسود والأحمر والأبيض؛ بأن الأسود شيطان. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان تفلت على البارحة ليقطع صلاتي، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد) ـ الحديث، فأخبر أن الشيطان أراد أن يقطع عليه صلاته. فهذا ـ أيضًا ـ يقتضي أن مرور الشيطان يقطع الصلاة؛ فلذلك أخذ أحمد بذلك في الكلب الأسود، واختلف قوله في المرأة والحمار؛ لأنه عارض هذا الحديث حديث عائشة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهي في قبلته، وحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لما اجتاز على أتانه بين يدي بعض الصف، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه بمنى، مع أن المتوجه أن الجميع يقطع، وأنه يفرق بين المار واللابث، كما فرق بينهما في الرجل في كراهة مروره، دون لبثه في القبلة إذا استدبره المصلي ولم يكن متحدثًا / وأن مروره ينقص ثواب الصلاة دون اللبث.
واختلف المتقدمون من أصحاب أحمد في الشيطان الجني إذا علم بمروره: هل يقطع الصلاة؟ والأوجه أنه يقطعها بتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبظاهر قوله: (يقطع صلاتي)؛ لأن الأحكام التي جاءت بها السنة في الأرواح الخبيثة من الجن وشياطين الدواب في الطهارة والصلاة في أمكنتهم وممرهم، ونحو ذلك قوية في الدليل نصًا وقياسًا؛ ولذلك أخذ بها فقهاء الحديث، ولكن مدرك علمها أثرًا هو لأهل الحديث، ومدركه قياسًا هو في باطن الشريعة وظاهرها، دون التفقه في ظاهرها فقط.
ولو لم يكن في الأئمة من استعمل هذه السنن الصحيحة النافعة، لكان وصمة على الأمة ترك مثل ذلك، والأخذ بما ليس بمثله لا أثرًا ولا رأيًا.
ولقد كان أحمد ـ رحمه الله ـ يَعْجَبُ ممن يدع حديث (الوضوء من لحوم الإبل) ـ مع صحته التي لا شك فيها، وعدم المعارض له ـ ويتوضأ من مس الذكر ـ مع تعارض الأحاديث فيه، وأن أسانيدها ليست كأحاديث الوضوء من لحوم الإبل؛ ولذلك أعرض عنها الشيخان: البخاري ومسلم، وإن كان أحمد ـ على المشهور عنه ـ يرجح أحاديث الوضوء /من مس الذكر، لكن غرضه أن الوضوء من لحوم الإبل أقوي في الحجة من الوضوء من مس الذكر.
وقد ذكرت ما يبين أنه أَظْهر في القياس منه، فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة؛ ولهذا كان كل نجس محرم الأكل، وليس كل محرم الأكل نجسًًا.
وكان أحمد يعجب ـ أيضًا ـ ممن لا يتوضأ من لحوم الإبل ويتوضأ من الضحك في الصلاة، مع أنه أبعد عن القياس والأثر، والأثر فيه مرسل، قد ضعفه أكثر الناس، وقد صح عن الصحابة ما يخالفه.
والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم، وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه، أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقطع الصلاة شيء) أو بما روي في ذلك عن الصحابة ـ وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة ـ أو برأي ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة، خصوصًا مذهب أحمد.
فهذا أصل في الخبائث الجسمانية والروحانية.
وأصل آخر، وهو: أن الكوفيين قد عرف تخفيفهم في العفو/ عن النجاسة، فيعفون من المغلظة عن قدر الدرهم البغلي، ومن المخففة عن ربع المحل المتنجس.
والشافعي بإزائهم في ذلك، فلا يعفو عن النجاسات إلا عن أثر الاستنجاء، وونيم الذباب ونحوه، ولا يعفو عن دم ولا عن غيره، إلا عن دم البراغيث ونحوه، مع أنه ينجس أرواث البهائم وأبوالها وغير ذلك! فقوله في النجاسات نوعًا وقدرًا أشد أقوال الأئمة الأربعة.
ومالك متوسط في نوع النجاسة وفي قدرها، فإنه لا يقول بنجاسة الأرواث والأبوال مما يؤكل لحمه، ويعفو عن يسير الدم وغيره.
وأحمد كذلك، فإنه متوسط في النجاسات، فلا ينجس الأرواث والأبوال، ويعفو عن اليسير من النجاسات التي يشق الاحتراز عنها، حتى إنه ـ في إحدي الروايتين عنه ـ يعفو عن يسير روث البغل والحمار وبول الخفاش، وغير ذلك مما يشق الاحتراز عنه، بل يعفو ـ في إحدي الروايتين ـ عن اليسير من الروث والبول من كل حيوان طاهر، كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في شرح المذهب، وهو مع ذلك يوجب اجتناب النجاسة في الصلاة في الجملة من غير خلاف عنه، لم يختلف قوله في ذلك كما اختلف مالك، ولو صلي بها جاهلاً أو ناسيًا لم تجب عليه الإعادة في أصح الروايتين، كقول مالك، كما دل عليه حديث /النبي صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في أثناء الصلاة لأجل الأذي الذي فيهما، ولم يستقبل الصلاة، ولما صلي الفجر فوجد في ثوبه نجاسة أمر بغسلها ولم يعد الصلاة.والرواية الأخري:تجب الإعادة، كقول أبي حنيفة والشافعي.
وأصل آخر في إزالتها: فمذهب أبي حنيفة: تزال بكل مزيل من المائعات والجامدات.
والشافعي لا يري إزالتها إلا بالماء، حتى ما يصيب أسفل الخف والحذاء والذيل لايجزئ فيه إلا الغسل بالماء، وحتى نجاسة الأرض.
ومذهب أحمد فيه متوسط، فكل ما جاءت به السنة قال به: يجوز ـ في الصحيح عنه ـ مسحها بالتراب ونحوه من النعل ونحوه، كما جاءت به السنة، كما يجوز مسحها من السبيلين؛ فإن السبيلين بالنسبة إلى سائر الأعضاء كأسفل الخف بالنسبة إلى سائر الثياب في تكرر النجاسة على كل منها.
واختلف أصحابه في أسفل الذيل: هل هو كأسفل الخف كما جاءت به السنة واستوائها للأثر في ذلك؟
والقياس: إزالتها عن الأرض بالشمس والريح... يجب التوسط فيه.
فإن التشديد في النجاسات جنسًا وقدرًا، هو دين اليهود، والتساهل/هو دين النصاري، ودين الإسلام هو الوسط. فكل قول يكون فيه شيء من هذا الباب يكون أقرب إلى دين الإسلام.
وأصل آخر:
وهو اختلاط الحلال بالحرام، كاختلاط المائع الطاهر بالنجس، فقول الكوفيين فيه من الشدة ما لا خفاء به.
وسر قولهم: إلحاق الماء بسائر المائعات، وأن النجاسة إذا وقعت في مائع لم يمكن استعماله إلا باستعمال الخبث، فيحرم الجميع، مع أن تنجيس المائع -غير الماء- الآثار فيه قليلة.
وبإزائهم مالك وغيره من أهل المدينة؛ فإنهم ـ في المشهور ـ لا ينجسون الماء إلا بالتغير، ولا يمنعون من المستعمل ولا غيره، مبالغة في طهورية الماء، مع فرقهم بينه وبين غيره من المائعات.
ولأحمد قول كمذهبهم، لكن المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله وكثيره كقول الشافعي.
واختلف قوله في المائعات غير الماء: هل يلحق بالماء، أو لا يلحق به كقول مالك والشافعي؟ أو يفرق بين الماء وغير الماء إلا بالتغير، ولا يمنعون من المستعمل ولا غيره، مبالغة في طهورية الماء، مع فرقهم بينه وبين غيره من المائعات.
ولأحمد قول كمذهبهم المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله وكثيره كقول الشافعي.
/واختلف قوله في المائعات غير الماء: هل يلحق بالماء، أو لا يلحق به كقول مالك والشافعي؟ أو يفرق بين الماء وغير الماء كخل العنب؟ على ثلاث روايات.
وفي هذه الأقوال من التوسط ـ أثرًا ونظرًا ـ ما لا خفاء به، مع أن قول أحمد الموافق لقول مالك راجح في الدليل.
وأصل آخـر: وهو أن للناس في أجزاء الميتة التي لا رطوبة فيها ـ كالشعر والظفر والريش ـ مذاهب: هل هو طاهر، أو نجس؟ ثلاثة أقوال:
أحدها: نجاستها مطلقًا كقول الشافعي ورواية عن أحمد؛ بناء على أنها جزء من الميتة.
والثاني: طهارتها مطلقًا، كقول أبي حنيفة وقول في مذهب أحمد؛ بناء على أن الموجب للنجاسة هو الرطوبات وهي إنما تكون فيما يجري فيه الدم؛ ولهذا حكم بطهارة ما لا نفس له سائلة، فما لا رطوبة فيه من الأجزاء بمنزلة ما لا نفس له سائلة.
والثالث: نجاسة ما كان فيه حس، كالعظم؛ إلحاقًا له باللحم اليابس، وعدم نجاسة ما لم يكن فيه إلا النماء كالشعر؛ إلحاقًا له بالنبات.
وأصل آخر: وهو طهارة الأحداث التي هي الوضوء والغسل فإن مذهب فقهاء الحديث: استعملوا فيها من السنن ما لا يوجد لغيرهم،/ويكفي المسح على الخفين وغيرهما من اللباس والحوائل. فقد صنف الإمام أحمد كتاب [المسح على الخفين]، وذكر فيه من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المسح على الخفين والجوربين وعلى العمامة، بل على خُمر النساء ـ كما كانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها تفعله ـ وعلى القلانس ـ كما كان أبو موسي وأنس يفعلانه ـ ما إذا تأمله العالم علم فضل علم أهل الحديث على غيرهم، مع أن القياس يقتضي ذلك اقتضاء ظاهرًا. وإنما توقف عنه من توقف من الفقهاء؛ لأنهم قالوا بما بلغهم من الأثر، وجبنوا عن القياس ورعًا.
ولم يختلف قول أحمد فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، كأحاديث المسح على العمائم والجوربين، والتوقيت في المسح، وإنما اختلف قوله فيما جاء عن الصحابة، كخمُر النساء، وكالقلانس الدنيات.
ومعلوم أن في هذا الباب من الرخصة التي تشبه أصول الشريعة وتوافق الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
واعلم أن كل من تأول في هذه الأخبار تأويلاً ـ مثل كون المسح على العمامة مع بعض الرأس هو المجزئ ونحو ذلك ـ لم يقف على مجموع الأخبار، وإلا فمن وقف على مجموعها أفادته علمًا يقينًا بخلاف ذلك.
/وأصل آخر في التيمم: فإن أصح حديث فيه، حديث عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ المصرح بأنه يجزئ ضربة واحدة للوجه والكفين، وليس في الباب حديث يعارضه من جنسه، وقد أخذ به فقهاء الحديث ـ أحمد وغيره. وهذا أصح من قول من قال: يجب ضربتان وإلى المرفقين؛ كقول أبي حنيفة والشافعي في الجديد، أو ضربتان إلى الكوعين.
وأصل آخر في الحيض والاستحاضة: فإن مسائل الاستحاضة من أشكل أبواب الطهارة، وفي الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنن: سنة في المعتادة: أنها ترجع إلى عادتها. وسنة في المميزة: أنها تعمل بالتمييز. وسنة في المتحيزة ـ التي ليست لها عادة ولا تمييز ـ بأنها تتحيض غالب عادات النساء: ستًا أو سبعًا، وأن تجمع بين الصلاتين إن شاءت.
فأما السُّـنَّتان الأولتان ففي الصحيح. وأما الثالثة: فحديث حَمْنَة بنت جحش، رواه أهل السنن، وصححه الترمذي. وكذلك قد روي أبو داود وغيره في سهلة بنت سهيل بعض معناه.
وقد استعمل أحمد هذه السنن الثلاث في المعتادة المميزة والمتحيرة. فإن اجتمعت العادة والتمييز، قدم العادة ـ في أصح الروايتين ـ كما جاء في أكثر الأحاديث.
/فأما أبو حنيفة، فيعتبر العادة إن كانت، ولا يعتبر التمييز ولا الغالب، بل إن لم تكن عادة إن كانت مبتدأة حيضها حيضة الأكثر، وإلا حيضة الأقل.
ومالك يعتبر التمييز ولا يعتبر العادة ولا الأغلب، فإن لم يعتبر العادة ولا الأغلب فلا يحضها، بل تصلي أبدًا إلا في الشهر الأول، فهل تحيض أكثر الحيض، أو عادتها وتستظهر ثلاثة أيام؟ على روايتين.
والشافعي يستعمل التمييز والعادة دون الأغلب، فإن اجتمع قَدَّم التمييز، وإن عُدِم صلت أبدًا. واستعمل من الاحتياط في الإيجاب والتحريم والإباحة ما فيه مشقة عظيمة علمًا وعملا.
فالسنن الثلاث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالات الفقهية، استعملها فقهاء الحديث، ووافقهم في كل منها طائفة من الفقهاء.
/ وسئل عن مسائل كثير وقوعها، ويحصل الابتلاء بها، ويحصل الضيق والحرج والعمل بها على رأي إمام بعينه؟ منها مسألة المياه اليسرة، ووقوع النجاسة فيها من غير تغير وتغييرها بالطاهرات؟
فأجاب ـ رحمه الله تعالى:
الحمد لله رب العالمين، أما مسألة تغير الماء اليسير أو الكثير بالطاهرات ـ كالأشنان والصابون والسدر والخطمي والتراب والعجين، وغير ذلك مما قد يغير الماء، مثل الإناء إذا كان فيه أثر سدر أو خطمي ووضع فيه ماء، فتغير به، مع بقاء اسم الماء ـ فهذا فيه قولان معروفان للعلماء:
أحدهما: أنه لا يجوز التطهير به، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدي الروايتين عنه التي اختارها الخرقي والقاضي، وأكثر متأخري أصحابه؛ لأن هذا ليس بماء مطلق، فلا يدخل في قوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } [المائدة: 6]. ثم إن أصحاب هذا القول استثنوا من هذا أنواعًا، بعضها متفق عليه بينهم، وبعضها مختلف فيه، فما كان من التغير حاصلاً بأصل الخلقة أو بما يشق صون الماء عنه، فهو طهور/ باتفاقهم. وما تغير بالأدهان والكافور ونحو ذلك، ففيه قولان معروفان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. وما كان تغيره يسيرًا: فهل يعفي عنه أو لا يعفي عنه، أو يفرق بين الرائحة وغيرها؟ على ثلاثة أوجه، إلى غير ذلك من المسائل.
والقول الثاني: أنه لا فرق بين المتغير بأصل الخلقة وغيره، ولا بما يشق الاحتراز عنه، ولا بما لا يشق الاحتراز عنه، فما دام يسمي ماء ولم يغلب عليه أجزاء غيره كان طهورًا، كما هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخري عنه، وهي التي نص عليها في أكثر أجوبته. وهذا القول هو الصواب؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال: { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } [المائدة: 6]، وقوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } نكرة في سياق النفي، فيعم كل ما هو ماء، لا فرق في ذلك بين نوع ونوع.
فإن قيل: إن المتغير لا يدخل في اسم الماء؟
قيل: تناول الاسم لمسماه لا فرق فيه بين التغير الأصلي والطارئ ولا بين التغير الذي يمكن الاحتراز منه والذي لا يمكن الاحتراز منه، فإن الفرق بين هذا وهذا إنما هو من جهة القياس لحاجة الناس إلى/استعمال هذا المتغير، دون هذا، فأما من جهة اللغة وعموم الاسم وخصوصه فلا فرق بين هذا وهذا؛ ولهذا لو وكله في شراء ماء، أو حلف لا يشرب ماء أو غير ذلك، لم يفرق بين هذا وهذا، بل إن دخل هذا دخل هذا،وإن خرج هذا خرج هذا، فلما حصل الاتفاق على دخول المتغير تغيرًا أصليا، أو حادثًا بما يشق صونه عنه، علم أن هذا النوع داخل في عموم الآية. وقد ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) والبحر متغير الطعم تغيرًا شديدًا؛ لشدة ملوحته. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن ماءه طهور ـ مع هذا التغير ـ كان ما هو أخف ملوحة منه أولي أن يكون طهورًا، وإن كان الملح وضع فيه قصدًا؛ إذ لا فرق بينهما في الاسم من جهة اللغة. وبهذا يظهر ضعف حجة المانعين؛ فإنه لو استقي ماء، أو وكله في شراء ماء لم يتناول ذلك ماء البحر، ومع هذا فهو داخل في عموم الآية، فكذلك ما كان مثله في الصفة.
وأيضًا، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل المحرم بماء وسدر. وأمر بغسل ابنته بماء وسدر. وأمر الذي أسلم أن يغتسل بماء وسِدر. ومن المعلوم: أن السدر لابد أن يغير الماء، فلو كان التغير يفسد الماء لم يأمر به.
/وقـول القائل: إن هذا تغير في محل الاستعمال، فلا يؤثر، تفريق بوصف غير مؤثر، لا في اللغـة ولا في الشرع؛ فإن المتغير إن كان يسمي ماء مطلقًا، وهو على البدن، فيسمي مـاء مطلقًا وهـو في الإنـاء. وإن لم يسـم مـاء مطلقًا في أحدهما، لم يسم مطلقًا في الموضـع الآخـر فإنـه مـن المعلـوم أن أهـل اللغة لا يفرقون في التسمية بين محل ومحل.
وأمـا الشـرع: فـإن هـذا فرق لم يـدل عليه دليـل شـرعي، فـلا يلتفت اليه. والقياس عليه إذا جمـع أو فرق، أن يبين أن مـا جعلـه مناط الحكم جمعًا أوفرقًا مما دل عليه الشـرع، وإلا فمـن علـق الأحكام بأوصاف ـ جمعًا وفرقًـا بغير دليل شرعي ـ كان واضعًـا لشرع من تلقاء نفسه، شارعًا في الدين ما لم يأذن به الله.
ولهذا كان على القائس أن يبين تأثير الوصف المشترك الذي جعله مناط الحكم، بطريق من الطرق الدالة على كون الوصف المشترك هو علة الحكم. وكذلك في الوصف الذي فرق فيه بين الصورتين، عليه أن يبين تأثيره بطريق من الطرق الشرعية.
وأيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ من قصعة فيها أثـر العجين، ومن المعلوم أنـه لابد ـ في العادة ـ من تغير الماء بذلك، لاسيما في /آخر الأمر، إذا قل الماء وانحل العجين.
فإن قيل: ذلك التغير كان يسيرًا؟
قيل: وهـذا ـ أيضًا ـ دليل في المسألة؛ فـإنـه إن سـوَّي بين التغـير اليسـير والكثير مطلقًا، كان مخالفًا للنص. وإن فرق بينهما، لم يكن للفرق بينهما حد منضبط، لا بلغة ولا شـرع، ولا عقـل ولا عـرف، ومن فرق بين الحـلال والحرام بفرق غير معلوم لم يكـن قولـه صحيحًا.
وأيضًا، فإن المانعين مضطربون اضطرابًا يدل على فساد أصل قولهم، منهم من يفرق بين الكافور والدهن وغيره، ويقول: إن هذا التغير عن مجاورة لا عن مخالطة. ومنهم من يقول: بل نحن نجد في الماء أثر ذلك، ومنهم من يفرق بين الورق الربيعي والخريفي، ومنهم من يسوي بينهما، ومنهم من يسوي بين الملحين: الجبلي والمائي. ومنهم من يفرق بينهما.
وليس على شيء من هذه الأقوال دليل يعتمد عليه، لا من نص ولا قياس ولا إجماع؛ إذ لم يكن الأصل الذي تفرعت عليه مأخوذًا من جهة الشرع، وقد قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [النساء: 82]، وهذا بخلاف ما جاء من عند/ الله، فإنه محفوظ، كما قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، فدل ذلك على ضعف هذا القول.
وأيضًا، فإن القول بالجواز موافق للعموم اللفظي والمعنوي، مدلول عليه بالظواهر والمعاني، فإن تناول اسم الماء لمواقع الإجماع، كتناوله لموارد النزاع في اللغة، وصفات هذا كصفات هذا في الجنس، فتجب التسوية بين المتماثلين.
وأيضًا، فإنه على قول المانعين، يلزم مخالفة الأصل، وترك العمل بالدليل الشرعي لمعارض راجح؛ إذ كان يقتضي القياس عندهم أنه لا يجوز استعمال شيء من المتغيرات في طهارتي الحدث والخبث، لكن استثني المتغير بأصل الخلقة، وبما يشق صون الماء عنه للحرج والمشقة فكان هذا موضع استحسان ترك له القياس، وتعارض الأدلة على خلاف الأصل. وعلى القول الأول: يكون رخصة ثابتة على وفق القياس من غير تعارض بين أدلة الشرع، فيكون هذا أقوي.
/ فصْــل
وأما الماء إذا تغير بالنجاسات، فإنه ينجس بالاتفاق.
وأما ما لم يتغير ففيه أقوال معروفة:
أحدها: لا ينجس. وهو قول أهل المدينة، ورواية المدنيين عن مالك وكثير من أهل الحديث، وإحدي الروايات عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، ونصرها ابن عقيل في المفردات، وابن البناء وغيرهما.
والثاني: ينجس قليل الماء بقليل النجاسة، وهي رواية البصريين عن مالك.
والثالث: وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخري اختارها طائفة من ـ أصحابه ـ الفرق بين القُلتَّينٍ وغيرهما. فمالك لا يحد الكثير بالقلتين، والشافعي وأحمد يحدان الكثير بالقلتين.
والرابع: الفرق بين البول والعذرة المائعة وغيرهما، فالأول ينجس/ منه ما أمكن نزحه، دون ما لم يمكن نزحه، بخلاف الثاني فإنه لا ينجس القلتين فصاعداً. وهذا أشهر الروايات عن أحمد، واختيار أكثر أصحابه.
والخامس: أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة، سواء كان قليلا أو كثيراً وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، لكن ما لم يصل اليه لا ينجسه.
ثم حدوا ما لا يصل اليه: بما لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر.
ثم تنازعوا: هل يحد بحركة المتوضئ أو المغتسل؟ وقدر ذلك محمد بن الحسن بمسجده، فوجدوه عشرة أذرع في عشرة أذرع.
وتنازعوا في الآبار إذا وقعت فيها نجاسة: هل يمكن تطهيرها؟ فزعم المُزَني: أنه لا يمكن. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يمكن تطهيرها بالنزح، ولهم في تقدير الدِّلاء أقوال معروفة.
والسادس : قول أهل الظاهر، الذين ينجسون ما بال فيه البائل، دون ما ألقي فيه البول، ولا ينجسون ما سوى ذلك إلا بالتغيُّر.
/وأصل هذه المسألة من جهة المعني: أن اختلاط الخبيث ـ وهو النجاسة ـ بالماء هل يوجب تحريم الجميع، أم يقال: بل قد استحال في الماء، فلم يبق له حكم؟
فالمنجِّسون ذهبوا إلى القول الأول، ثم من استثنى الكثير قال: هذا يشق الاحتراز من وقوع النجاسة فيه، فجعلوا ذلك موضع استحسان، كما ذهب إلى ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد.
وأما أصحاب أبي حنيفة، فبنوا الأمر على وصول النجاسة وعدم وصولها، وقدروه بالحركة أو بالمساحة في الطول والعرض دون العمق.
والصواب: هو القول الأول، وأنه متى علم أن النجاسة قد استحالت فالماء طاهر، سواء كان قليلا أو كثيرًا، وكذلك في المائعات كلها؛ وذلك لأن اللّه ـ تعالى ـ أباح الطيبات وحرم الخبائث، والخبيث متميز عن الطيب بصفاته، فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث، وجب دخوله في الحلال دون الحرام.
وأيضًا، فقد ثبت من حديث أبي سعيد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أنتوضأ من بئر بُضَاعَة، وهي بئر يلقى فيها الحيض/ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: (الماء طهور، لا ينجسه شيء)، قال أحمد: حديث بئر بُضَاعَة صحيح. وهو في المسند ـ أيضًا ـ عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الماء طَهور لا ينجسه شيء)، وهذا اللفظ عام في القليل والكثير، وهو عام في جميع النجاسات.
وأما إذا تغير بالنجاسة، فإنما حرم استعماله؛ لأن جرم النجاسة باق. ففي استعماله استعمالها، بخلاف ما إذا استحالت النجاسة فإن الماء طهور، وليس هناك نجاسة قائمة.
ومما يُبين ذلك: أنه لو وقع خمر في ماء واستحالت، ثم شربها شارب لم يكن شاربًا للخمر، ولم يجب عليه حد الخمر؛ إذ لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها، ولو صب لبن امرأة في ماء واستحال حتى لم يبق له أثر وشرب طفل ذلك الماء، لم يصر ابنها من الرضاعة بذلك.
وأيضًا، فإن هذا باق على أوصاف خلقته، فيدخل في عموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ} [المائدة: 6]، فإن الكلام إنما هو فيما لم يتغير بالنجاسة لا طعمه ولا لونه ولا ريحه.
فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهي عن البول /في الماء الدائم وعن الاغتسال فيه.
قيل: نهيه عن البول في الماء الدائم لا يدل على أنه ينجس بمجرد البول؛ إذ ليس في اللفظ ما يدل على ذلك، بل قد يكون نهيه سدا للذريعة؛ لأن البول ذريعة إلى تنجيسه؛ فإنه إذا بال هذا ثم بال هذا تغير الماء بالبول، فكان نهيه سدا للذريعة. أو يقال: إنه مكروه بمجرد الطبع لا لأجل أنه ينجسه.
وأيضًا، فيـدل نهيـه عـن البـول في المـاء الدائم أنه يعـم القليـل والكثـير فيقال لصاحب القلتين: أتجوز بوله فيما فوق القلتين؟ إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص؛ وإن حرمته فقد نقضت دليلك.
وكذلك يقال لمن فرق بين ما يمكن نزحه وما لا يمكن: أتسوغ للحجاج أن يبولوا في المصانع المبنية بطريق مكة؟ إن جوزته خالفت ظاهر النص؛ فإن هذا ماء دائم والحديث لم يفرق بين القليل والكثير وإلا نقضت قولك.
وكذلك يقال للمقدر بعشرة أذرع: إذا كان لأهل القرية غدير مستطيل أكثر من عشرة أذرع رقيق أتسوغ لأهل القرية البول فيه؟ فإن سوغته خالفت ظاهر النص وإلا نقضت قولك، فإذا كان النص/ـ بل والإجماع ـ دل على أنه نهي عن البول فيما ينجسه البول، بل تقدير الماء وغير ذلك فيما يشترك فيه القليل والكثير، كان هذا الوصف المشترك بين القليل والكثير مستقلا بالنهي، فلم يجز تعليل النهي بالنجاسة، ولا يجوز أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم إنما نهي عن البول فيه؛ لأن البول ينجسه، فإن هذا خلاف النص والإجماع.
وأما من فرق بين البول فيه وبين صب البول فقوله ظاهر الفساد؛ فإن صب البول أبلغ من أن ينهي عنه من مجرد البول؛ إذا الإنسان قد يحتاج إلى أن يبول، وأما صب الأبوال في المياه فلا حاجة إليه.
فإن قيل: ففي حديث القلتين أنه سئل عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: (إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث)، وفي لفظ|: (لم ينجسه شيء)، قيل: حديث القلتين فيه كلام قد بسط في غير هذا الموضع، وبُيِّن أنه من كلام ابن عمر لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.[center][b]
الجزء الأول
الطهـــارة
/بسم الله الرحمن الرحيم
باب المياه
وقـال الشيخ الإمام العالم العامل القـدوة،رباني الأمة، ومحيي السنة العـلامة شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ـ قدس الله روحه ونور ضريحه:
الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد خاتم المرسلين، وإمام المهتدين، وعلى آله أجمعين.
فصـــل
أما العبادات، فأعظمها الصلاة. والناس إما أن يبتدئوا مسائلها بالطُّهور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطُّهور) كما رتبه أكثرهم، وإما بالمواقيت التي تجب بها الصلاة، كما فعله مالك وغيره.
/فأما الطهارة والنجاسة فنوعان: من الحلال والحرام ـ في اللباس ونحوه ـ تابعان للحلال والحرام في الأطعمة والأشربة.
ومذهب أهل الحديث في هذا الأصل العظيم الجامع: وسط بين مذهب العراقيين والحجازيين؛ فإن أهل المدينة ـ مالكًا وغيره ـ يحرمون من الأشربة كل مسكر ـ كما صحت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ـ وليسوا في الأطعمة كذلك، بل الغالب عليهم فيها عدم التحريم فيبيحون الطيور مطلقًا ـ وإن كانت من ذات المخالب ـ ويكرهون كل ذي ناب من السباع. وفي تحريمها عن مالك روايتان. وكذلك في الحشرات عنه: هل هي محرمة أو مكروهة؟ روايتان.
وكذلك البغال والحمير. وروي عنه أنها مكروهة أشد من كراهة السباع، وروي عنه أنها محرمة بالسنة، دون تحريم الحمير، والخيل ـ أيضًا ـ: يكرهها، لكن دون كراهة السباع.
وأهل الكوفة في باب الأشربة مخالفون لأهل المدينة ولسائر الناس،ليست الخمر عندهم إلا من العنب، ولا يحرمون القليل من المسكر، إلا أن يكون خمرًا من العنب، أو أن يكون من نبيذ التمر أو الزبيب النيئ، أو يكون من مطبوخ عصير العنب إذا لم يذهب ثلثاه. وهم في/ الأطعمة في غاية التحريم، حتى حرموا الخيل والضباب، وقيل: إن أبا حنيفة يكره الضب والضباع ونحوها.
فأخذ أهل الحديث في الأشربة بقول أهل المدينة وسائر أهل الأمصار ـ موافقة للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التحريم ـ وزادوا عليهم في متابعة السنة.
وصنف الإمام أحمد كتابًا كبيرًا في الأشربة ما علمت أحدًا صنف أكبر منه، وكتابًا أصغر منه. وهو أول من أظهر في العراق هذه السنة، حتى إنه دخل بعضهم بغداد فقال: هل فيها من يحرم النبيذ؟ فقالوا: لا، إلا أحمد بن حنبل دون غيره من الأئمة، وأخذ فيه بعامة السنة، حتى إنه حرم العصير والنبيذ بعد ثلاث. وإن لم يظهر فيه شدة، متابعة للسنة المأثورة في ذلك؛ لأن الثلاث مظنة ظهور الشدة غالبًا. والحكمة هنا مما تخفي، فأقيمت المظنة مقام الحكمة، حتى إنه كره الخليطين، إما كراهة تنزيه أو تحريم، على اختلاف الروايتين عنه. وحتى اختلف قوله في الانتباذ في الأوعية: هل هو مباح، أو محرم، أو مكروه؛ لأن أحاديث النهي كثيرة جدًا،وأحاديث النسخ قليلة، فاختلف اجتهاده: هل تنسخ الأخبار المستفيضة بمثل هذه الأخبار التي لا تخرج عن كونها أخبار آحاد ولم يخرج البخاري منها شيئًا؟
/وأخذوا في الأطعمة بقول أهل الكوفة؛لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحوم الحمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من تمسك في هذا الباب بعدم وجود نص التحريم في القرآن حيث قال: (لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه )، ( ألا وإني وتيت الكتاب ومثله معه)،( وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى)، وهذا المعني محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه.
وعلموا أن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو زيادة تحريم، ليس نسخًا للقرآن؛ لأن القرآن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير، وعدم التحريم ليس تحليلاً، وإنما هو بقاء للأمر على ما كان، وهذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق العلماء، ليس كما ظنه أصحاب مالك والشافعي أنها من آخر القرآن نزولا، وإنما سورة المائدة هي المتأخرة، وقد قال الله فيها: { أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } [المائدة: 5]، فعلم أن عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلاً، وإنما هو عفو، فتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع /للعفو ليس نسخًا للقرآن.
لكن لم يوافق أهل الحديث الكوفيين على جميع ما حرموه، بل أحلوا الخيل؛ لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحليلها يوم خيبر، وبأنهم ذبحوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسًا وأكلوا لحمه. وأحلوا الضب؛ لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قال: (لا أحرمه)، وبأنه أكل على مائدته وهو ينظر، ولم ينكر على من أكله، وغير ذلك مما جاءت فيه الرخصة.
فنقصوا عما حرمه أهل الكوفة من الأطعمة، كما زادوا على أهل المدينة في الأشربة؛ لأن النصوص الدالة على تحريم الأشربة المسكرة أكثر من النصوص الدالة على تحريم الأطعمة.
ولأهل المدينة سلف من الصحابة والتابعين في استحلال ما أحلوه، أكثر من سلف أهل الكوفة في استحلال المسكر. والمفاسد الناشئة من المسكر أعظم من مفاسد خبائث الأطعمة؛ ولهذا سميت الخمر أم الخبائث كما سماها عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وغيره، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد شاربها، وفعله هو وخلفاؤه، وأجمع عليه العلماء، دون المحرمات من الأطعمة، فإنه لم يحد فيها أحد من أهل العلم إلا ما بلغنا عن الحسن البصري، بل قد أمر صلى الله عليه وسلم/بقتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة، وإن كان الجمهور على أنه منسوخ. ونهي النبي صلى الله عليه وسلم ـ فيما صح عنه ـ عن تخليل الخمر، وأمر بشق ظروفها وكسر دِنَانِها، وإن كان قد اختلفت الرواية عن أحمد: هل هذا باق، أو منسوخ؟
ولما كان الله -سبحانه وتعالى- إنما حرم الخبائث لما فيها من الفساد؛ إما في العقول، أو الأخلاق أو غيرها، ظهر على الذين استحلوا بعض المحرمات من الأطعمة أو الأشربة من النقص بقدر ما فيها من المفسدة، ولولا التأويل لاستحقوا العقوبة.
ثم إن الإمام أحمد وغيره من علماء الحديث زادوا في متابعة السنة على غيرهم بأن أمروا بما أمر الله به ورسوله مما يزيل ضرر بعض المباحات، مثل لحوم الإبل، فإنها حلال بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار اليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنها جن خلقت من جن).وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود:( الغضب من الشيطان،وإن الشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)، فأمر بالتوضؤ من الأمر العارض من الشيطان، فأكل لحمها يورث قوة شيطانية تزول بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحمها،كما صح ذلك عنه من غير وجه من حديث جابر بن سمرة،والبراء بن/ عازب، وأسيد بن الحضير، وذي الغُرَّة، وغيرهم فقال مرة: (توضؤوا من لحوم الإبل ولا تتوضؤوا من لحوم الغنم، وصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل)، فمن توضأ من لحومها اندفع عنه ما يصيب المدمنين ـ لأكلها من غير وضوء كالأعراب ـ من الحقد، وقسوة القلب، التي أشار اليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله المخرج عنه في الصحيحين: (إن الغلظة وقسوة القلوب في الفدَّاِدين أصحاب الإبل، وإن السكينة في أهل الغنم).
واختلف عن أحمد: هل يتوضأ من سائر اللحوم المحرمة؟ على روايتين، بناء على أن الحكم مختص بها، أو أن المحرم أولي بالتوضؤ منه من المباح الذي فيه نوع مضرة.
وسائر المصنفين ـ من أصحاب الشافعي وغيره ـ وافقوا أحمد على هذا الأصل، وعلموا أن من اعتقد أن هذا منسوخ بترك الوضوء مما مست النار فقد أبعد؛ لأنه فرق في الحديث بين اللحمين، ليتبين أن العلة هي الفارقة بينهما لا الجامع.
وكذلك قالوا بما اقتضاه الحديث: من أنه يتوضأ منه نيئًا ومطبوخًا، ولأن هذا الحديث كان بعد النسخ؛ ولهذا قال في لحم الغنم: (وإن شئت فلا تتوضأ)، ولأن النسخ لم يثبت إلا بالترك /من لحم غنم، فلا عموم له،وهذا معني قول جابر: كان آخر الأمرين منه، ترك الوضوء مما مست النار فإنه رآه يتوضأ، ثم رآه أكل لحم غنم ولم يتوضأ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم صيغة عامة في ذلك، ولو نقلها لكان فيه نسخ للخاص بالعام الذي لم يثبت شموله لذلك الخاص عينًا، وهو أصل لا يقول به أكثر المالكية والشافعية والحنبلية.
هذا، مع أن أحاديث الوضوء مما مست النار لم يثبت أنها منسوخة، بل قد قيل: إنها متأخرة، ولكن أحد الوجهين في مذهب أحمد: أن الوضوء منها مستحب ليس بواجب. والوجه الآخر: لا يستحب.
فلما جاءت السنة بتجنب الخبائث الجسمانية والتطهر منها، كذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحانية والتطهر منها، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه)، وقال: ( إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده؟)، فعلل الأمر بالغسل بمبيت الشيطان على خيشومه، فعلم أن ذلك سبب للطهارة من غير النجاسة الظاهرة، فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل.
/وكذلك نهي عن الصلاة في أعطان الإبل،وقال: (إنها جن خلقت من جن)، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)، وقد روي عنه: إن الحمام بيت الشيطان، وثبت عنه: أنه لما ارتحل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر قال: (إنه مكان حضرنا فيه الشيطان).
فعلل صلى الله عليه وسلم الأماكـن بالأرواح الخبيثـة، كما يعلل بالأجسام الخبيثـة، وبهـذا يقـول أحمـد وغيره من فقهاء الحديث، ومذهبه الظاهر عنه: إن ما كان مأوي للشياطين ـ كالمعاطن والحمامات ـ حرمت الصلاة فيه. وما عرض الشيطان فيه ـ كالمكان الذي ناموا فيه عن الصلاة ـ كرهت فيه الصلاة.
والفقهاء الذين لم ينهوا عن ذلك: إما لأنهم لم يسمعوا هذه النصوص سماعا تثبت به عندهم، أو سمعوها ولم يعرفوا العلة، فاستبعدوا ذلك عن القياس فتأولوه.
وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة خلاف هذه المسائل، وأنهم لم يكونوا يتوضؤون من لحوم الإبل، فقد غلط عليهم، وإنما توهم ذلك لما نقل عنهم: أنهم لم يكونوا يتوضؤون مما مست النار. وإنما المراد: أن أكل ما مس النار ليس هو سببًا عندهم لوجوب/الوضوء،والذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحوم الإبل ليس سببه مس النار، كما يقال: كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر. وإن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذي.
ومن تمام هذا: أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي ذر وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ وجاء من حديث غيرهما ـ أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار). وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكلب الأسود والأحمر والأبيض؛ بأن الأسود شيطان. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان تفلت على البارحة ليقطع صلاتي، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد) ـ الحديث، فأخبر أن الشيطان أراد أن يقطع عليه صلاته. فهذا ـ أيضًا ـ يقتضي أن مرور الشيطان يقطع الصلاة؛ فلذلك أخذ أحمد بذلك في الكلب الأسود، واختلف قوله في المرأة والحمار؛ لأنه عارض هذا الحديث حديث عائشة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهي في قبلته، وحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لما اجتاز على أتانه بين يدي بعض الصف، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه بمنى، مع أن المتوجه أن الجميع يقطع، وأنه يفرق بين المار واللابث، كما فرق بينهما في الرجل في كراهة مروره، دون لبثه في القبلة إذا استدبره المصلي ولم يكن متحدثًا / وأن مروره ينقص ثواب الصلاة دون اللبث.
واختلف المتقدمون من أصحاب أحمد في الشيطان الجني إذا علم بمروره: هل يقطع الصلاة؟ والأوجه أنه يقطعها بتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبظاهر قوله: (يقطع صلاتي)؛ لأن الأحكام التي جاءت بها السنة في الأرواح الخبيثة من الجن وشياطين الدواب في الطهارة والصلاة في أمكنتهم وممرهم، ونحو ذلك قوية في الدليل نصًا وقياسًا؛ ولذلك أخذ بها فقهاء الحديث، ولكن مدرك علمها أثرًا هو لأهل الحديث، ومدركه قياسًا هو في باطن الشريعة وظاهرها، دون التفقه في ظاهرها فقط.
ولو لم يكن في الأئمة من استعمل هذه السنن الصحيحة النافعة، لكان وصمة على الأمة ترك مثل ذلك، والأخذ بما ليس بمثله لا أثرًا ولا رأيًا.
ولقد كان أحمد ـ رحمه الله ـ يَعْجَبُ ممن يدع حديث (الوضوء من لحوم الإبل) ـ مع صحته التي لا شك فيها، وعدم المعارض له ـ ويتوضأ من مس الذكر ـ مع تعارض الأحاديث فيه، وأن أسانيدها ليست كأحاديث الوضوء من لحوم الإبل؛ ولذلك أعرض عنها الشيخان: البخاري ومسلم، وإن كان أحمد ـ على المشهور عنه ـ يرجح أحاديث الوضوء /من مس الذكر، لكن غرضه أن الوضوء من لحوم الإبل أقوي في الحجة من الوضوء من مس الذكر.
وقد ذكرت ما يبين أنه أَظْهر في القياس منه، فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة؛ ولهذا كان كل نجس محرم الأكل، وليس كل محرم الأكل نجسًًا.
وكان أحمد يعجب ـ أيضًا ـ ممن لا يتوضأ من لحوم الإبل ويتوضأ من الضحك في الصلاة، مع أنه أبعد عن القياس والأثر، والأثر فيه مرسل، قد ضعفه أكثر الناس، وقد صح عن الصحابة ما يخالفه.
والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم، وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه، أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقطع الصلاة شيء) أو بما روي في ذلك عن الصحابة ـ وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة ـ أو برأي ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة، خصوصًا مذهب أحمد.
فهذا أصل في الخبائث الجسمانية والروحانية.
وأصل آخر، وهو: أن الكوفيين قد عرف تخفيفهم في العفو/ عن النجاسة، فيعفون من المغلظة عن قدر الدرهم البغلي، ومن المخففة عن ربع المحل المتنجس.
والشافعي بإزائهم في ذلك، فلا يعفو عن النجاسات إلا عن أثر الاستنجاء، وونيم الذباب ونحوه، ولا يعفو عن دم ولا عن غيره، إلا عن دم البراغيث ونحوه، مع أنه ينجس أرواث البهائم وأبوالها وغير ذلك! فقوله في النجاسات نوعًا وقدرًا أشد أقوال الأئمة الأربعة.
ومالك متوسط في نوع النجاسة وفي قدرها، فإنه لا يقول بنجاسة الأرواث والأبوال مما يؤكل لحمه، ويعفو عن يسير الدم وغيره.
وأحمد كذلك، فإنه متوسط في النجاسات، فلا ينجس الأرواث والأبوال، ويعفو عن اليسير من النجاسات التي يشق الاحتراز عنها، حتى إنه ـ في إحدي الروايتين عنه ـ يعفو عن يسير روث البغل والحمار وبول الخفاش، وغير ذلك مما يشق الاحتراز عنه، بل يعفو ـ في إحدي الروايتين ـ عن اليسير من الروث والبول من كل حيوان طاهر، كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في شرح المذهب، وهو مع ذلك يوجب اجتناب النجاسة في الصلاة في الجملة من غير خلاف عنه، لم يختلف قوله في ذلك كما اختلف مالك، ولو صلي بها جاهلاً أو ناسيًا لم تجب عليه الإعادة في أصح الروايتين، كقول مالك، كما دل عليه حديث /النبي صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في أثناء الصلاة لأجل الأذي الذي فيهما، ولم يستقبل الصلاة، ولما صلي الفجر فوجد في ثوبه نجاسة أمر بغسلها ولم يعد الصلاة.والرواية الأخري:تجب الإعادة، كقول أبي حنيفة والشافعي.
وأصل آخر في إزالتها: فمذهب أبي حنيفة: تزال بكل مزيل من المائعات والجامدات.
والشافعي لا يري إزالتها إلا بالماء، حتى ما يصيب أسفل الخف والحذاء والذيل لايجزئ فيه إلا الغسل بالماء، وحتى نجاسة الأرض.
ومذهب أحمد فيه متوسط، فكل ما جاءت به السنة قال به: يجوز ـ في الصحيح عنه ـ مسحها بالتراب ونحوه من النعل ونحوه، كما جاءت به السنة، كما يجوز مسحها من السبيلين؛ فإن السبيلين بالنسبة إلى سائر الأعضاء كأسفل الخف بالنسبة إلى سائر الثياب في تكرر النجاسة على كل منها.
واختلف أصحابه في أسفل الذيل: هل هو كأسفل الخف كما جاءت به السنة واستوائها للأثر في ذلك؟
والقياس: إزالتها عن الأرض بالشمس والريح... يجب التوسط فيه.
فإن التشديد في النجاسات جنسًا وقدرًا، هو دين اليهود، والتساهل/هو دين النصاري، ودين الإسلام هو الوسط. فكل قول يكون فيه شيء من هذا الباب يكون أقرب إلى دين الإسلام.
وأصل آخر:
وهو اختلاط الحلال بالحرام، كاختلاط المائع الطاهر بالنجس، فقول الكوفيين فيه من الشدة ما لا خفاء به.
وسر قولهم: إلحاق الماء بسائر المائعات، وأن النجاسة إذا وقعت في مائع لم يمكن استعماله إلا باستعمال الخبث، فيحرم الجميع، مع أن تنجيس المائع -غير الماء- الآثار فيه قليلة.
وبإزائهم مالك وغيره من أهل المدينة؛ فإنهم ـ في المشهور ـ لا ينجسون الماء إلا بالتغير، ولا يمنعون من المستعمل ولا غيره، مبالغة في طهورية الماء، مع فرقهم بينه وبين غيره من المائعات.
ولأحمد قول كمذهبهم، لكن المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله وكثيره كقول الشافعي.
واختلف قوله في المائعات غير الماء: هل يلحق بالماء، أو لا يلحق به كقول مالك والشافعي؟ أو يفرق بين الماء وغير الماء إلا بالتغير، ولا يمنعون من المستعمل ولا غيره، مبالغة في طهورية الماء، مع فرقهم بينه وبين غيره من المائعات.
ولأحمد قول كمذهبهم المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله وكثيره كقول الشافعي.
/واختلف قوله في المائعات غير الماء: هل يلحق بالماء، أو لا يلحق به كقول مالك والشافعي؟ أو يفرق بين الماء وغير الماء كخل العنب؟ على ثلاث روايات.
وفي هذه الأقوال من التوسط ـ أثرًا ونظرًا ـ ما لا خفاء به، مع أن قول أحمد الموافق لقول مالك راجح في الدليل.
وأصل آخـر: وهو أن للناس في أجزاء الميتة التي لا رطوبة فيها ـ كالشعر والظفر والريش ـ مذاهب: هل هو طاهر، أو نجس؟ ثلاثة أقوال:
أحدها: نجاستها مطلقًا كقول الشافعي ورواية عن أحمد؛ بناء على أنها جزء من الميتة.
والثاني: طهارتها مطلقًا، كقول أبي حنيفة وقول في مذهب أحمد؛ بناء على أن الموجب للنجاسة هو الرطوبات وهي إنما تكون فيما يجري فيه الدم؛ ولهذا حكم بطهارة ما لا نفس له سائلة، فما لا رطوبة فيه من الأجزاء بمنزلة ما لا نفس له سائلة.
والثالث: نجاسة ما كان فيه حس، كالعظم؛ إلحاقًا له باللحم اليابس، وعدم نجاسة ما لم يكن فيه إلا النماء كالشعر؛ إلحاقًا له بالنبات.
وأصل آخر: وهو طهارة الأحداث التي هي الوضوء والغسل فإن مذهب فقهاء الحديث: استعملوا فيها من السنن ما لا يوجد لغيرهم،/ويكفي المسح على الخفين وغيرهما من اللباس والحوائل. فقد صنف الإمام أحمد كتاب [المسح على الخفين]، وذكر فيه من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المسح على الخفين والجوربين وعلى العمامة، بل على خُمر النساء ـ كما كانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها تفعله ـ وعلى القلانس ـ كما كان أبو موسي وأنس يفعلانه ـ ما إذا تأمله العالم علم فضل علم أهل الحديث على غيرهم، مع أن القياس يقتضي ذلك اقتضاء ظاهرًا. وإنما توقف عنه من توقف من الفقهاء؛ لأنهم قالوا بما بلغهم من الأثر، وجبنوا عن القياس ورعًا.
ولم يختلف قول أحمد فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، كأحاديث المسح على العمائم والجوربين، والتوقيت في المسح، وإنما اختلف قوله فيما جاء عن الصحابة، كخمُر النساء، وكالقلانس الدنيات.
ومعلوم أن في هذا الباب من الرخصة التي تشبه أصول الشريعة وتوافق الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
واعلم أن كل من تأول في هذه الأخبار تأويلاً ـ مثل كون المسح على العمامة مع بعض الرأس هو المجزئ ونحو ذلك ـ لم يقف على مجموع الأخبار، وإلا فمن وقف على مجموعها أفادته علمًا يقينًا بخلاف ذلك.
/وأصل آخر في التيمم: فإن أصح حديث فيه، حديث عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ المصرح بأنه يجزئ ضربة واحدة للوجه والكفين، وليس في الباب حديث يعارضه من جنسه، وقد أخذ به فقهاء الحديث ـ أحمد وغيره. وهذا أصح من قول من قال: يجب ضربتان وإلى المرفقين؛ كقول أبي حنيفة والشافعي في الجديد، أو ضربتان إلى الكوعين.
وأصل آخر في الحيض والاستحاضة: فإن مسائل الاستحاضة من أشكل أبواب الطهارة، وفي الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنن: سنة في المعتادة: أنها ترجع إلى عادتها. وسنة في المميزة: أنها تعمل بالتمييز. وسنة في المتحيزة ـ التي ليست لها عادة ولا تمييز ـ بأنها تتحيض غالب عادات النساء: ستًا أو سبعًا، وأن تجمع بين الصلاتين إن شاءت.
فأما السُّـنَّتان الأولتان ففي الصحيح. وأما الثالثة: فحديث حَمْنَة بنت جحش، رواه أهل السنن، وصححه الترمذي. وكذلك قد روي أبو داود وغيره في سهلة بنت سهيل بعض معناه.
وقد استعمل أحمد هذه السنن الثلاث في المعتادة المميزة والمتحيرة. فإن اجتمعت العادة والتمييز، قدم العادة ـ في أصح الروايتين ـ كما جاء في أكثر الأحاديث.
/فأما أبو حنيفة، فيعتبر العادة إن كانت، ولا يعتبر التمييز ولا الغالب، بل إن لم تكن عادة إن كانت مبتدأة حيضها حيضة الأكثر، وإلا حيضة الأقل.
ومالك يعتبر التمييز ولا يعتبر العادة ولا الأغلب، فإن لم يعتبر العادة ولا الأغلب فلا يحضها، بل تصلي أبدًا إلا في الشهر الأول، فهل تحيض أكثر الحيض، أو عادتها وتستظهر ثلاثة أيام؟ على روايتين.
والشافعي يستعمل التمييز والعادة دون الأغلب، فإن اجتمع قَدَّم التمييز، وإن عُدِم صلت أبدًا. واستعمل من الاحتياط في الإيجاب والتحريم والإباحة ما فيه مشقة عظيمة علمًا وعملا.
فالسنن الثلاث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالات الفقهية، استعملها فقهاء الحديث، ووافقهم في كل منها طائفة من الفقهاء.
/ وسئل عن مسائل كثير وقوعها، ويحصل الابتلاء بها، ويحصل الضيق والحرج والعمل بها على رأي إمام بعينه؟ منها مسألة المياه اليسرة، ووقوع النجاسة فيها من غير تغير وتغييرها بالطاهرات؟
فأجاب ـ رحمه الله تعالى:
الحمد لله رب العالمين، أما مسألة تغير الماء اليسير أو الكثير بالطاهرات ـ كالأشنان والصابون والسدر والخطمي والتراب والعجين، وغير ذلك مما قد يغير الماء، مثل الإناء إذا كان فيه أثر سدر أو خطمي ووضع فيه ماء، فتغير به، مع بقاء اسم الماء ـ فهذا فيه قولان معروفان للعلماء:
أحدهما: أنه لا يجوز التطهير به، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدي الروايتين عنه التي اختارها الخرقي والقاضي، وأكثر متأخري أصحابه؛ لأن هذا ليس بماء مطلق، فلا يدخل في قوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } [المائدة: 6]. ثم إن أصحاب هذا القول استثنوا من هذا أنواعًا، بعضها متفق عليه بينهم، وبعضها مختلف فيه، فما كان من التغير حاصلاً بأصل الخلقة أو بما يشق صون الماء عنه، فهو طهور/ باتفاقهم. وما تغير بالأدهان والكافور ونحو ذلك، ففيه قولان معروفان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. وما كان تغيره يسيرًا: فهل يعفي عنه أو لا يعفي عنه، أو يفرق بين الرائحة وغيرها؟ على ثلاثة أوجه، إلى غير ذلك من المسائل.
والقول الثاني: أنه لا فرق بين المتغير بأصل الخلقة وغيره، ولا بما يشق الاحتراز عنه، ولا بما لا يشق الاحتراز عنه، فما دام يسمي ماء ولم يغلب عليه أجزاء غيره كان طهورًا، كما هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخري عنه، وهي التي نص عليها في أكثر أجوبته. وهذا القول هو الصواب؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال: { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } [المائدة: 6]، وقوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } نكرة في سياق النفي، فيعم كل ما هو ماء، لا فرق في ذلك بين نوع ونوع.
فإن قيل: إن المتغير لا يدخل في اسم الماء؟
قيل: تناول الاسم لمسماه لا فرق فيه بين التغير الأصلي والطارئ ولا بين التغير الذي يمكن الاحتراز منه والذي لا يمكن الاحتراز منه، فإن الفرق بين هذا وهذا إنما هو من جهة القياس لحاجة الناس إلى/استعمال هذا المتغير، دون هذا، فأما من جهة اللغة وعموم الاسم وخصوصه فلا فرق بين هذا وهذا؛ ولهذا لو وكله في شراء ماء، أو حلف لا يشرب ماء أو غير ذلك، لم يفرق بين هذا وهذا، بل إن دخل هذا دخل هذا،وإن خرج هذا خرج هذا، فلما حصل الاتفاق على دخول المتغير تغيرًا أصليا، أو حادثًا بما يشق صونه عنه، علم أن هذا النوع داخل في عموم الآية. وقد ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) والبحر متغير الطعم تغيرًا شديدًا؛ لشدة ملوحته. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن ماءه طهور ـ مع هذا التغير ـ كان ما هو أخف ملوحة منه أولي أن يكون طهورًا، وإن كان الملح وضع فيه قصدًا؛ إذ لا فرق بينهما في الاسم من جهة اللغة. وبهذا يظهر ضعف حجة المانعين؛ فإنه لو استقي ماء، أو وكله في شراء ماء لم يتناول ذلك ماء البحر، ومع هذا فهو داخل في عموم الآية، فكذلك ما كان مثله في الصفة.
وأيضًا، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل المحرم بماء وسدر. وأمر بغسل ابنته بماء وسدر. وأمر الذي أسلم أن يغتسل بماء وسِدر. ومن المعلوم: أن السدر لابد أن يغير الماء، فلو كان التغير يفسد الماء لم يأمر به.
/وقـول القائل: إن هذا تغير في محل الاستعمال، فلا يؤثر، تفريق بوصف غير مؤثر، لا في اللغـة ولا في الشرع؛ فإن المتغير إن كان يسمي ماء مطلقًا، وهو على البدن، فيسمي مـاء مطلقًا وهـو في الإنـاء. وإن لم يسـم مـاء مطلقًا في أحدهما، لم يسم مطلقًا في الموضـع الآخـر فإنـه مـن المعلـوم أن أهـل اللغة لا يفرقون في التسمية بين محل ومحل.
وأمـا الشـرع: فـإن هـذا فرق لم يـدل عليه دليـل شـرعي، فـلا يلتفت اليه. والقياس عليه إذا جمـع أو فرق، أن يبين أن مـا جعلـه مناط الحكم جمعًا أوفرقًا مما دل عليه الشـرع، وإلا فمـن علـق الأحكام بأوصاف ـ جمعًا وفرقًـا بغير دليل شرعي ـ كان واضعًـا لشرع من تلقاء نفسه، شارعًا في الدين ما لم يأذن به الله.
ولهذا كان على القائس أن يبين تأثير الوصف المشترك الذي جعله مناط الحكم، بطريق من الطرق الدالة على كون الوصف المشترك هو علة الحكم. وكذلك في الوصف الذي فرق فيه بين الصورتين، عليه أن يبين تأثيره بطريق من الطرق الشرعية.
وأيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ من قصعة فيها أثـر العجين، ومن المعلوم أنـه لابد ـ في العادة ـ من تغير الماء بذلك، لاسيما في /آخر الأمر، إذا قل الماء وانحل العجين.
فإن قيل: ذلك التغير كان يسيرًا؟
قيل: وهـذا ـ أيضًا ـ دليل في المسألة؛ فـإنـه إن سـوَّي بين التغـير اليسـير والكثير مطلقًا، كان مخالفًا للنص. وإن فرق بينهما، لم يكن للفرق بينهما حد منضبط، لا بلغة ولا شـرع، ولا عقـل ولا عـرف، ومن فرق بين الحـلال والحرام بفرق غير معلوم لم يكـن قولـه صحيحًا.
وأيضًا، فإن المانعين مضطربون اضطرابًا يدل على فساد أصل قولهم، منهم من يفرق بين الكافور والدهن وغيره، ويقول: إن هذا التغير عن مجاورة لا عن مخالطة. ومنهم من يقول: بل نحن نجد في الماء أثر ذلك، ومنهم من يفرق بين الورق الربيعي والخريفي، ومنهم من يسوي بينهما، ومنهم من يسوي بين الملحين: الجبلي والمائي. ومنهم من يفرق بينهما.
وليس على شيء من هذه الأقوال دليل يعتمد عليه، لا من نص ولا قياس ولا إجماع؛ إذ لم يكن الأصل الذي تفرعت عليه مأخوذًا من جهة الشرع، وقد قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [النساء: 82]، وهذا بخلاف ما جاء من عند/ الله، فإنه محفوظ، كما قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، فدل ذلك على ضعف هذا القول.
وأيضًا، فإن القول بالجواز موافق للعموم اللفظي والمعنوي، مدلول عليه بالظواهر والمعاني، فإن تناول اسم الماء لمواقع الإجماع، كتناوله لموارد النزاع في اللغة، وصفات هذا كصفات هذا في الجنس، فتجب التسوية بين المتماثلين.
وأيضًا، فإنه على قول المانعين، يلزم مخالفة الأصل، وترك العمل بالدليل الشرعي لمعارض راجح؛ إذ كان يقتضي القياس عندهم أنه لا يجوز استعمال شيء من المتغيرات في طهارتي الحدث والخبث، لكن استثني المتغير بأصل الخلقة، وبما يشق صون الماء عنه للحرج والمشقة فكان هذا موضع استحسان ترك له القياس، وتعارض الأدلة على خلاف الأصل. وعلى القول الأول: يكون رخصة ثابتة على وفق القياس من غير تعارض بين أدلة الشرع، فيكون هذا أقوي.
/ فصْــل
وأما الماء إذا تغير بالنجاسات، فإنه ينجس بالاتفاق.
وأما ما لم يتغير ففيه أقوال معروفة:
أحدها: لا ينجس. وهو قول أهل المدينة، ورواية المدنيين عن مالك وكثير من أهل الحديث، وإحدي الروايات عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، ونصرها ابن عقيل في المفردات، وابن البناء وغيرهما.
والثاني: ينجس قليل الماء بقليل النجاسة، وهي رواية البصريين عن مالك.
والثالث: وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخري اختارها طائفة من ـ أصحابه ـ الفرق بين القُلتَّينٍ وغيرهما. فمالك لا يحد الكثير بالقلتين، والشافعي وأحمد يحدان الكثير بالقلتين.
والرابع: الفرق بين البول والعذرة المائعة وغيرهما، فالأول ينجس/ منه ما أمكن نزحه، دون ما لم يمكن نزحه، بخلاف الثاني فإنه لا ينجس القلتين فصاعداً. وهذا أشهر الروايات عن أحمد، واختيار أكثر أصحابه.
والخامس: أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة، سواء كان قليلا أو كثيراً وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، لكن ما لم يصل اليه لا ينجسه.
ثم حدوا ما لا يصل اليه: بما لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر.
ثم تنازعوا: هل يحد بحركة المتوضئ أو المغتسل؟ وقدر ذلك محمد بن الحسن بمسجده، فوجدوه عشرة أذرع في عشرة أذرع.
وتنازعوا في الآبار إذا وقعت فيها نجاسة: هل يمكن تطهيرها؟ فزعم المُزَني: أنه لا يمكن. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يمكن تطهيرها بالنزح، ولهم في تقدير الدِّلاء أقوال معروفة.
والسادس : قول أهل الظاهر، الذين ينجسون ما بال فيه البائل، دون ما ألقي فيه البول، ولا ينجسون ما سوى ذلك إلا بالتغيُّر.
/وأصل هذه المسألة من جهة المعني: أن اختلاط الخبيث ـ وهو النجاسة ـ بالماء هل يوجب تحريم الجميع، أم يقال: بل قد استحال في الماء، فلم يبق له حكم؟
فالمنجِّسون ذهبوا إلى القول الأول، ثم من استثنى الكثير قال: هذا يشق الاحتراز من وقوع النجاسة فيه، فجعلوا ذلك موضع استحسان، كما ذهب إلى ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد.
وأما أصحاب أبي حنيفة، فبنوا الأمر على وصول النجاسة وعدم وصولها، وقدروه بالحركة أو بالمساحة في الطول والعرض دون العمق.
والصواب: هو القول الأول، وأنه متى علم أن النجاسة قد استحالت فالماء طاهر، سواء كان قليلا أو كثيرًا، وكذلك في المائعات كلها؛ وذلك لأن اللّه ـ تعالى ـ أباح الطيبات وحرم الخبائث، والخبيث متميز عن الطيب بصفاته، فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث، وجب دخوله في الحلال دون الحرام.
وأيضًا، فقد ثبت من حديث أبي سعيد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أنتوضأ من بئر بُضَاعَة، وهي بئر يلقى فيها الحيض/ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: (الماء طهور، لا ينجسه شيء)، قال أحمد: حديث بئر بُضَاعَة صحيح. وهو في المسند ـ أيضًا ـ عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الماء طَهور لا ينجسه شيء)، وهذا اللفظ عام في القليل والكثير، وهو عام في جميع النجاسات.
وأما إذا تغير بالنجاسة، فإنما حرم استعماله؛ لأن جرم النجاسة باق. ففي استعماله استعمالها، بخلاف ما إذا استحالت النجاسة فإن الماء طهور، وليس هناك نجاسة قائمة.
ومما يُبين ذلك: أنه لو وقع خمر في ماء واستحالت، ثم شربها شارب لم يكن شاربًا للخمر، ولم يجب عليه حد الخمر؛ إذ لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها، ولو صب لبن امرأة في ماء واستحال حتى لم يبق له أثر وشرب طفل ذلك الماء، لم يصر ابنها من الرضاعة بذلك.
وأيضًا، فإن هذا باق على أوصاف خلقته، فيدخل في عموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ} [المائدة: 6]، فإن الكلام إنما هو فيما لم يتغير بالنجاسة لا طعمه ولا لونه ولا ريحه.
فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهي عن البول /في الماء الدائم وعن الاغتسال فيه.
قيل: نهيه عن البول في الماء الدائم لا يدل على أنه ينجس بمجرد البول؛ إذ ليس في اللفظ ما يدل على ذلك، بل قد يكون نهيه سدا للذريعة؛ لأن البول ذريعة إلى تنجيسه؛ فإنه إذا بال هذا ثم بال هذا تغير الماء بالبول، فكان نهيه سدا للذريعة. أو يقال: إنه مكروه بمجرد الطبع لا لأجل أنه ينجسه.
وأيضًا، فيـدل نهيـه عـن البـول في المـاء الدائم أنه يعـم القليـل والكثـير فيقال لصاحب القلتين: أتجوز بوله فيما فوق القلتين؟ إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص؛ وإن حرمته فقد نقضت دليلك.
وكذلك يقال لمن فرق بين ما يمكن نزحه وما لا يمكن: أتسوغ للحجاج أن يبولوا في المصانع المبنية بطريق مكة؟ إن جوزته خالفت ظاهر النص؛ فإن هذا ماء دائم والحديث لم يفرق بين القليل والكثير وإلا نقضت قولك.
وكذلك يقال للمقدر بعشرة أذرع: إذا كان لأهل القرية غدير مستطيل أكثر من عشرة أذرع رقيق أتسوغ لأهل القرية البول فيه؟ فإن سوغته خالفت ظاهر النص وإلا نقضت قولك، فإذا كان النص/ـ بل والإجماع ـ دل على أنه نهي عن البول فيما ينجسه البول، بل تقدير الماء وغير ذلك فيما يشترك فيه القليل والكثير، كان هذا الوصف المشترك بين القليل والكثير مستقلا بالنهي، فلم يجز تعليل النهي بالنجاسة، ولا يجوز أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم إنما نهي عن البول فيه؛ لأن البول ينجسه، فإن هذا خلاف النص والإجماع.
وأما من فرق بين البول فيه وبين صب البول فقوله ظاهر الفساد؛ فإن صب البول أبلغ من أن ينهي عنه من مجرد البول؛ إذا الإنسان قد يحتاج إلى أن يبول، وأما صب الأبوال في المياه فلا حاجة إليه.
فإن قيل: ففي حديث القلتين أنه سئل عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: (إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث)، وفي لفظ|: (لم ينجسه شيء)، قيل: حديث القلتين فيه كلام قد بسط في غير هذا الموضع، وبُيِّن أنه من كلام ابن عمر لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.[center][b]