باب الوكالـة
سُـئِـلَ شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن رجل وكل رجلا في قبض ديون له، ثم صرفه وطالبه بما بقي عليه، ثم إن الوكيل المتصرف كتب مبارأة بينه وبين من عليه الدين بغير أمر الموكل فهل يصح الإبراء؟
فأجاب:
إن لم يكن في وكالته إثبات ما يقتضي أنه مأذون له في الإبراء لم يصح إبراؤه من دين هو ثابت للموكل، وإن كان أقر بالإبراء قبل إقراره فيما وكيل فيه؛ كالتوكيل بالقبض إذا أقر بذلك. والله أعلم.
وسئل عن رجل يوكل الدلال في أن يشتري له سلعة، فيشتريها له، ويأخذ من البائع جعلا على أن باعها له بذلك الثمن.
/فأجاب:
لا يجوز ذلك؛ لأنه يشتريها لموكله بأكثر من قيمتها، فيزيد البائع على الربح المعتاد إذا اشتراها بتخبير الثمن، فيكون ذلك غشًا لموكله. هذا إذا حصل مواطأة من البائع، أو عرف بذلك. وأما لو وهبه البائع ذلك من غير أن يكون قد تقدم شعوره، فهذه مذكورة في غير هذا الموضع.
وسئل عن وكيل آجر أرض موكله بناقص عن شركته.
فأجاب:
إذا أجرها بنصف أجرة المثل كان الوكيل ضامنا للنقص. وهل للمالك إبطال الإجارة؟ فيه نزاع بين العلماء.
وسئل عن جماعة من الجند استأجروا وكيلا على إقطاعهم، وأمروه أن يخرج إلى ذلك الإقطاع، ويسجل بالقيمة، فواطأ الوكيل أصحابه، ووافق المزارعين على رأيهم، وسجل بدون القيمة الجاري بها العادة فهل يجوز تصرفه فيما لم يؤذن له فيه؛ لأجل ما بيده من الوكالة الشرعية؟
/فأجاب:
إذا أجر بدون أجرة المثل وسلم الأرض اليهم فهو ظالم معتد، ولأرباب الأرض أن يضمنوه تمام أجرة المثل؛ لأنه سلم أرضهم إلى من يتمتع بها.
وأما المستأجرون إن كانوا علموا أنه ظالم، وأنه حاباهم فلأصحاب الأرض تضمينهم أيضا. وإن كانوا استوفوا المنفعة فلهم منعهم من الزرع إن كانوا لم يزرعوا؛ فإن الإجارة حينئذ باطلة. وإن كانوا لم يعلموا بل المؤجر عرفهم، فهل لأصحاب الأرض تضمينهم؟ على قولين للعلماء. وإذا ضمنوهم فهل لهم الرجوع على هذا الغار بما لم يلزموا ضمانه بالعقد؟ على قولين أيضا. والثالثة في مذهب أحمد وغيره من العلماء.
وسئل ـ رضي الله عنه ـ عن امرأة وكلـت أخاها في المطالبة بحقوقهـا كلها، والدعوي لها، وفي فسخ نكاحها من زوجها، وثبت ذلك عند الحاكم، ثم ادعي الوكيل عند الحاكم المذكور بنفقة موكلته وكسوتها على زوجها المذكور، واعترف أنه عاجز عن ذلك ومضي على ذلك مدة، وأحضره مرارًا إلى الحاكم، وهو مُصرٌّ على الاعتراف بالعجز، فطلب الوكيل مـن الحـاكم المذكـور أن يمكـنه مـن فسـخ نكـاح موكلته مـن زوجهـا فمكنه من ذلك، ففسخ الوكيـل /نكاح موكلته من زوجها المذكور بحضور الزوج، بعد أن أمهل المهلة الشرعية قبل الفسخ فهل يصح الفسخ؟ وتقع الفرقة بين الزوجين بتمكين الحاكم الوكيل المذكور من فسخ نكاح موكلته، والحالة هذه؟ أم لا؟ أو يشترط حكم الحاكم بصحة الفسخ؟
فأجاب:
إذا فسخ الوكيل المأذون له في فسخ النكاح بعد تمكين الحاكم له من الفسخ صح فسخه، ولم يحتج بعد ذلك إلى حكمه بصحة الفسخ في مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
ولكن الحاكم نفسه إذا فعل فعلا مختلفا فيه من عقد وفسخ؛ كتزويج بلا ولي، وشراء عين غائبة ليتيم، ثم رفع إلى حاكم لا يراه، فهل له نقضه قبل أن يحكم به؟ أو يكون فعل الحاكم حكمًا؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد.
والفسخ للإعسار جائز في مذهب الثلاثة. والحاكم ليس هو فاسخًا، وإنما هو الآذن في الفسخ، والحاكم بجوازه، كما لو حكم لرجل بميراث وأذن له في التصرف، أو حكم لرجل بأنه ولي في النكاح، وأذن له في عقده، أو حكم لمشتر بأن له فسخ البيع لعيب ونحوه، ففي كل موضع حكم لشخص باستحقاق العقد أو الفسخ صح بلا نزاع في مثل هذا.
وإنما النزاع فيما إذا كان هو العاقد أو الفاسخ. ومع هذا / فالصحيح أنه لا يحتاج عقده وفسخه إلى حكم حاكم فيه. وهذا كله لو رفع مثل هذا إلى حاكم حنفي لا يري الفسخ بالإعسار. فأما إن كان الحاكم الثاني ممن يري ذلك، كمن يعتقد مذهب مالك، والشافعي، والإمام أحمد، لم يكن له نقض هذا الفسخ باتفاق الأئمة.
والعلماء الذين اشترطوا في فسخ النكاح بعيب أو إعسار ونحو ذلك من صور النزاع أن يكون بحكم حاكم، وفرقوا بين ذلك وبين فسخ المعتقة تحت عبد، قالوا: لأن هذا فسخ مجمع عليه، فلا يفتقر إلى حاكم، وذلك فسخ مختلف فيه. وسببه ـ أيضا ـ يدخله الاجتهاد، بخلاف العتق فإنه سبب ظاهر معلوم، فاشترطوا أن يكون الفسخ بحكم حاكم، لم يشترطوا أن يكون الحاكم قد حكم بصحة الفسخ بعد وقوعه؛ إذ هذا ليس من خصائص هذه المسائل، بل كل تصرف متنازع فيه إذا حكم الحاكم بصحته لم يكن لغيره نقضه، إذا لم يخالف نصا، ولا إجماعا.
فلو كان المعتبر هنا الحكم بعده لم يحتج إلى حكم الحاكم ابتداء، بل كل مستحق له أن يفسخه. ثم حكم الحاكم يمنع غيره من إبطال الفسخ، كما لو عقد عقدًا مختلفًا فيه، وحكم الحاكم بصحته. وهذا بين لمن عرف ما قاله الفقهاء في هذا. والله أعلم.
/
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل وكل رجلا في عمارة إقطاعه ببيت، فسجل طينه بالقيمة العادلة على الوجه المعتاد بالناحية، ويراعي الغبطة والمصلحة لموكله، فاتفق المزارعون، وخدعوا الوكيل لكونه غريبا من الناحية، عادم الخبرة والمعرفة بمواريها وخواصها، فسجلوا منه الطين بأقل من القيمة العادلة المعتادة من نسبة الشركة المقطعين بالناحية التي بينهم الطين بالسوية، دون الفرط الكثير، والغبن الفاحش. فهل يجوز للمقطع أن يطالب المزارعين بالخراج على القيمة العادلة أسوة شركائه المقطعين بالناحية؟
فأجاب:
إذا وكله في أن يسجله وكالة مطلقة، أو قال:مسجلة أسوة أمثاله، فسواء أطلق الوكالة، أو قيدها بأسوة أمثاله، ليس له أن يسجله إلا بقيمة المثل، كنظرائه، فإن فرط الوكيل بحيث سجله بدون الأجرة المعروفة، وسلم الأرض إلى المستأجر، كان له مطالبة الوكيل بما نقص.
وإذا كان المسجل قد قال للوكيل: هذه الأجرة هي أسوة الناس، ثم تبين /كذبه، فهنا يطالب المسجل بتمام الأجرة،0 إن كان قد زرع الأرض، ولكل واحد من الوكيل والموكل أن يطالب. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عمن وكل وكيلا في بيع دار، وفي قبض الثمن والتسليم والمكاتبة والإشهاد على الترسيم المعتاد، فباع الوكيل الدار لشخص وقبض الثمن، وثبت التبايع، وحكم حاكم بصحته، واستمرت الدار في يد المشتري مدة، ثم وقفها وشهد، وحكم حاكم بصحة الوقف في يد المشتري ـ أولا وآخرا ـ ثلاث سنين، وموكل البائع عالم بذلك كله، ولم يبد فيه مطعنًا، ثم بعد هذه المدة ادعي الموكل أنه عزل الوكيل قبل صدور البيع، ولم يعلم، وأقام بذلك بينة في بلد آخر، وحكم بها حاكم من غير دعوي على المشتري، ولا وكيله، ولا من بيده شيء من ريع العين المنتفعة. فهل يصح هذا الحكم، ويبطل البيع؟ وهل يجب على المشتري أجرة المثل، أو يكون انتفاعه شبهة؟ وهل يجب على الوكيل البائع إعادة الثمن؟ وإذا أقام الوكيل البائع بينة بوصول الثمن إلى موكله هل يكون ذلك رضي منه؟ وهل يفسق الموكل في ادعاء عزل الوكيل بعد ثلاث سنين، وسكوته عن ذلك، وغروره للمشتري، ووصول الثمن اليه؟
/فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة أولًا مبنية على عزل الوكيل: هل ينعزل قبل بلوغ العزل له؟ على قولين مشهورين للعلماء:
أحدهما: لا ينعزل حتي يعلم. وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وقول الشافعي، وأحد القولين في مذهب مالك بل أرجحهما. فعلى هذا تَصَرُّف الوكيل قبل العلم صحيح نافذ. وثبوت عزله قبل التصرف لا يقدح في تصرفه قبل العلم، فيصح البيع والوقف الواقع على الوجه المشروع، ولا يبطل ذلك، ولا حكم الحاكم به.
والقول الثاني: أنه ينعزل قبل العلم وهو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وهو مذهب مالك في إحدى الروايتين. فعلى هذا لا تقبل مجرد دعواه العزل بعد التصرف، وإذا أقام بذلك بينة ببلد آخر، وحكم به حاكم، كان ذلك حكمًا على الغائب، والحكم على الغائب إذا قيل بصحته فهو يصح مع بقاء كل ذي حجة على حجته، وللمحكوم عليه أن يقدح في الحكم والشهادة بما يسوغ قبوله، أما الطعن في الشهود، أو الحكم، أو غير ذلك؛ مثل أن يكون الحاكم الذي حكم بالعزل لا يري العزل قبل العلم. ولكن ليس عليه أن يقبل البينة الشاهدة بالعزل فاسقة أو متهمة بشيء يمنع قبول الشهادة.
ثم الحاكم الذي حكم بصحة البيع والوقف إن كان ممن لا يري عزل الوكيل قبل العلم، وقد بلغه ذلك، كان حكمه نافذًا، لا يجوز /نقضه بحال؛ بل الحكم الناقض له مردود. وإن كان لم يعلم ذلك، أو مذهبه عدم الحكم بالصحة، إذا ثبت كان وجود حكمه كعدمه.
والحاكم الثاني إذا لم يعلم بأن العـزل قبل العلم، أو علم بذلك وهو لا يراه، أو رآه وهو لا يري نقض الحكم المتقدم. وما ذكر من علم موكل الوكيل البائع بما جري وسكوته، كان وجـود حكمه كعدمـه، واستيثاق الحكم في القصـة وقبض الثمـن مـن الوكيل دليل في العادة على الإذن في البيـع والشـراء، وبقاء الوكالة،إذا لم يعارض ذلك معارض راجح.
وأكثر العلماء يقبلون مثل هذه الحجة ويدفعون بها دعوي الموكل للعزل؛ ليبطل البيع، لاسيما مع كثرة شهود الزور. ولو حكم ببطلان الوقف لم يجب على الوكيل ولا على المشتري ضمان ما استوفاه من المنفعة؛ فإن كان الوكيل والمشتري مغرورين غرهما الموكل لعدم إعلامه بالعزل، فالتفريط جاء من جهته فلا يضمن له المنفعة.
وإذا أنكر الموكل قبض الثمن، ولم يقم عليه بينة به، فإن كان الوكيل بلا جعل قبل قوله على الموكل؛ لأنه أمينه، كما يقبل قول المودع في رد الوديعة إلى مالكها. وإن كان بجعل، ففيه قولان مشهوران للعلماء، ولكن لا يقبل قول الوكيل على المشتري. فإن كان البيع باقيًا /فلا كلام، وإن كان البيع مفسوخًا فلهم أن يطالبوا الوكيل بالثمن، والوكيل يرجع على الموكل.
وسئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن رجل وكيل باع لموكله حصته من حانوت، ثم إن المشتري وقف تلك الحصة. وثبت البيع والوقف، وحكم بصحة الوقف، وبعد ذلك ثبت أن الوكيل كان معزولا بتاريخ متقدم على بيعه، محكوم بصحة عزله فهل يتبين بطلان البيع والوقف؟ أم هما صحيحان؟ وإذا بان البطلان، فهل للموكل الرجوع بأجرة تلك الحصة مدة مقامها في يد المشتري الواقف لها؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة فيها نزاع مشهور، وهو أن الوكيل إذا مات موكله، أو عزله، ولم يعلم بذلك حتي تصرف فهل ينعزل قبل العلم؟ على ثلاثة أقوال لأهل العلم في مذهب الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهما:
أحدها: أنه ينعزل قبل العلم، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وقول في مذهب مالك، فعلى هذا يتبين بطلان البيع، لكن على هذا لا ضمان على الوكيل؛ لأنه لم يفرط، وأما المشتري فهو /مغرور أيضا إذا لم يعلم. وفي تضمينه نزاع في مذهب أحمد وغيره، وأحد قولي الشافعي. وهذا الغَارُّ لا ضمان عليه، ولا يضمن واحد منهما، ولم يرجع على الغار في أشهر قولي الشافعي، والإمام أحمد في رواية. فعلى هذا يضمن المشتري، ولا يرجع على أحد.
والقول الثاني: أنه ينعزل بالموت، ولا ينعزل بالعزل حتي يعلم، وهذا مذهب أبي حنيفة، والمشهور في مذهب مالك، وأحد الأقوال في مذهب الشافعي، والإمام أحمد. فعلى هذا تصرفه قبل العلم صحيح. فيصح البيع إذا لم يكن الرجل عالما بالعزل، فأما إن تصرف بعد علمه بالعزل لم يكن تصرفه لازمـًا باتفاق المسلمين؛ بل يكون بمنزلة تصرف الفضولي، وهو مردود في مذهب الشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه. وموقوف على الإجازة في مذهب أبي حنيفة، والرواية الأخري عن الإمام أحمد، وحكي عن مالك. فمتي لم يجزه المستحق بطل بالإجماع.
والقول الثالث: أنه لا ينعزل في الموضعين قبل العلم، كقول الشافعي، والإمام أحمد ـ رضي الله عنهما ـ والحكم فيه كما تقدم. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
/
وسئل شيخ الإسلام عمن وكل رجلا في بيع سلعة، فباعها إلى أجل، وتوي بعض الثمن. فهل يطالب المالك بقيمتها حالة، أو بمثل الثمن المؤجل، وهو أكثر؟
فأجاب:
إذا لم يكن قد أذن له في البيع إلى أجل، فالمالك مخير بين أن يطالب البائع بقيمتها بنقد، وبين أن يطالب بالثمن المؤجل جميعه، ويحسب المنكسر على صاحب السلعة؛ لأن تصرفه بدون إذن كتصرف غاصب. والغاصب إذا تلفت العين عنده إلى بدل كان للمالك الخيرة بين المطالبة، وبين البدل المطلق، وهو المثل أو القيمة، وبين البدل المعين. وهذا يكون حيث لم يعرف المشتري بالغصب، فلا يثبت عليه إلا الثمن المسمي.
وإذا قلنا بوقف العقود على الإجازة ـ إذا لم يثبت الإجازة واصطلحا على الثمن، وتراضيا به ـ صح الصلح عن بدل المتلف بأكثر من قيمته في ضمانه. كما لو اتفقا على فرض المهر في مسألة التفويض.
/
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن الأمراء الذين يطلبون ما يحتاجون اليه من القماش وغيره من الأسواق، فيأخذون ما أعجبهم من ذلك، ويكتب الأمير لصاحبه خطا بذلك، أو ينزله ونوابه في دفتره، ويقترضون من أصحابهم دراهم، وكل ذلك بغير حجج تكتب، ولا إشهاد، وهذه عادتهم.
وإذا توفي الأمير وعلم ديوانه واستاداره بحقوق الناس. فهل يحل لهم منعهم؟ أو مطلهم؟ أم يلزمهم دفع حقوقهم التي علموها من التركة، والحالة هذه؟
فأجاب:
بل كل ما وجد بخط الأمير، أو أخبر به كاتبه، أو لفظ وكيله في ذلك، مثل كاتبه، واستاداره، فإنه يجب العمل بذلك. فإن إقرار الوكيل على موكله فيما وكله فيه مقبول؛ لأنه أمينه، وخط الميت كلفظه في الوصية والإقرار ونحوهما.
ومع ذلك لا يحتاج أصحاب الحقوق إلى بينة. وتكليفهم البينة إضاعة للحقوق، وتعذيب للأموات ببقائهم مرتهنين بالذنوب، ففيه ظلم للأموات /والأحياء، لاسيما في المعاملات التي لم تجر العادة فيها بالإشهاد، فتكليف البينة في ذلك خروج عن العدل المعروف. والله أعلم.
وسئل عن رجل متحدث لأمير في تحصيل أمواله. فهل يكون له العشر فيما حصله المقرر عن الوكالة عن كل ألف درهم مائة درهم؟ وهل له أن يتناول ذلك في حال حياته ومماته، وبإذنه أو غير إذنه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن كان الأمير قد وكله بالعشر، أو وكله توكيلا مطلقا على الوجه المعتاد الذي يقتضي في العرف أن له العشر فله ذلك؛ فإنه يستحق العشر بشرط لفظي، أو عرفي.
والاستئجار: كاستئجار الأرض للزراعة بجزء من زرعها، وهي مسألة [قفيز الطحان] . ومن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهي عن قفيز الطحان، فقد غلط.
واستيفاء المال بجزء مشاع منه جائز، في أظهر قولي العلماء، وإن كان قد عمل له على أن يعطيه عوضًا؛ ولم يبين له ذلك. فله أيضا أجرة المثل الذي جرت به العادة، فإن استحق عليه شيئًا فله أن /يستوفيه مطلقًا من تركته، وبدون إذنه، وإن لم يستحقه عليه لم يجز أن يأخذ شيئًا إلا بإذنه. والله أعلم.
وسئل عن رجل وكل رجلا وكالة مطلقة؛ بناء على أنه لا يتصرف إلا بالمصلحة والغبطة، فأجر له أرضا تساوي إجارتها عشرة آلاف بخمسة آلاف. فهل تصح هذه الإجارة؟ أم لا؟ وإذا صحت هل يلزم الوكيل التفاوت؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس له أن يؤجرها بمثل هذا الغبن، وله أن يضمن الوكيل المفرط ما فوته عليه.
وأما صحة الإجارة: فأكثر الفقهاء يقولون: إجارة باطلة، كما هو مذهب الشافعي، وأحمد في أحد القولين، لكن إذا كان المستأجر مغرورًا لم يعلم بحال الوكيل، مثل أن يظن أنه مالك عالم بالقيمة، فله أن يرجع على من غره بما يلزمه في أصح قولي العلماء. وزرعه زرع محترم، لا يجوز قطعه مجانًا؛ بل ينزل بأجرة المثل، بما لا يتغابن الناس به، فهنا هو ظالم، وزرعه زرع غاصب.
وهل للمالك قلعه مجانًا؟ على قولين مشهورين للعلماء.وهل يملكه /بنفقته؟ على قولين أيضا.
وظاهر مذهب أحمد أن له تملكه بنفقته. وأما إبقاؤه بأجرة المثل فيملكه بالاتفاق. وإذا ادعي على المستأجر أنه عالم بالحال فأنكر، فالقول قوله مع يمينه.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل وكل غلامه في إيجار حانوت لشخص، ثم إن المستأجر أجره لشخص فهل للوكيل أن يقبل الزيادة في أجرة الحانوت؟ أم لا؟ وهل له مطالبة المستأجر الثاني؟ أم لا؟ وإذا غصب المستأجر الثاني وأخذ منه الأجرة، فهل للمستأجر أن يستعيد منه؟ أم لا؟ وإذا كان هذا الغلام يتصرف لهذا الموكل بإيجار حوانيته، وقبض الأجرة، ويدعي بذلك عند القضاة لموكله، وسيده يعلم بذلك كله، ويقره عليه: فهل يقبل قوله أنه لم يوكله؟ وإذا أكره الموكل المستأجر الثاني على غير الإجارة الأولي. فهل تصح هذه الإجارة الثانية أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ليس للموكل ـ والحالة هذه ـ أن يؤجر الحانوت لأحد لا بزيادة، ولا غير زيادة، ولا للمستأجر الأول ذلك، وليس للموكل مطالبة المستأجر الثاني، وإذا أخذ منه الأجرة /غصبًا فله استرجاع ذلك منه، ولا يقبل قوله في إنكار الوكالة مع كونه يتصرف له تصرف الوكلاء، مع علمه بذلك، وكونه معروفًا بأنه وكيله بين الناس، حتي لو قدر أنه لم يوكله ـ والحالة هذه ـ فتفريطه وتسليطه عدوان منه يوجب الضمان. والإجارة الثانية التي أكره الموكل عليها للمستأجر الثاني باطلة. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن قوم أرسلوا قومًا في مصالح لهم ويعطونهم نفقة. فهل يحل لهم أكل ذلك؟ واستدانة تمام نفقتهم ومخالطتهم؟
فأجاب:
إذا أعطاهم الذين بعثوهم ما ينفقونه جاز ذلك، وعليهم تمام نفقتهم ما داموا في حوائجهم، ويجوز مخالطتهم.
/
وسئل ـ رحمه الله ـ عن نوبة الوكلاء لحفظ الغلال على الفلاحين. هل هي حلال؟
فأجاب:
إذا كان يحفظ الزرع لصاحب الأرض والفلاح فله أجرته عليها، فإذا كانت المؤنة التي يأخذها من الفلاح بقدر حقه عليه فلا بأس بذلك. والله أعلم.
وسئل عن رجل وكل رجلا في شراء، ولم يوكله في الإقالة، فأقال. هل تصح؟
فأجاب:
إذا وكل الإنسان وكيلا في شراء شيء ولم يوكله في الإقالة، لم يكن للوكيل الإقالة، ولا تنفذ إقالته بدون إذن الموكل، باتفاق العلماء. أعلم.
/
وسئل ـ رحمه الله ـ عن وكيل في مبلغ لوالده يجبي الديون التي له على الناس، فإذا جاء إلى أحد قال: إني وقعته لأبيك، ثم قال: إن أبريتني وصالحتني على شيء وقع الاتفاق بيني وبينك، ثم صالحه من جملة ألف بثلاثمائة درهم. ثم أقر بالدين بعد الصلح، وأخذ بيده الإبراء. فهل تجوز دعواه عليه بعد إقراره، والشهـود على رب الديـن بالإبـراء؟ أم لا؟
فأجاب:
الوكيل في الاستيفاء لا يصح إبراؤه، ولا مصالحته على بعض الحق، ولو كان وكيلا في ذلك.
ثم إن الغريم إذا جحد الحق حتي صولح كان الصلح في حقه باطلا، ولم تبرأ ذمته، وإذا كان المدعي إنما صالحه خوفًا من ذهاب جميع الحق فهو مكره على ذلك، فلا يصح صلحه، وله أن يطالبه بالحق بعد ذلك، إذا أقر به، أو قامت به بينة؟ [b]
سُـئِـلَ شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن رجل وكل رجلا في قبض ديون له، ثم صرفه وطالبه بما بقي عليه، ثم إن الوكيل المتصرف كتب مبارأة بينه وبين من عليه الدين بغير أمر الموكل فهل يصح الإبراء؟
فأجاب:
إن لم يكن في وكالته إثبات ما يقتضي أنه مأذون له في الإبراء لم يصح إبراؤه من دين هو ثابت للموكل، وإن كان أقر بالإبراء قبل إقراره فيما وكيل فيه؛ كالتوكيل بالقبض إذا أقر بذلك. والله أعلم.
وسئل عن رجل يوكل الدلال في أن يشتري له سلعة، فيشتريها له، ويأخذ من البائع جعلا على أن باعها له بذلك الثمن.
/فأجاب:
لا يجوز ذلك؛ لأنه يشتريها لموكله بأكثر من قيمتها، فيزيد البائع على الربح المعتاد إذا اشتراها بتخبير الثمن، فيكون ذلك غشًا لموكله. هذا إذا حصل مواطأة من البائع، أو عرف بذلك. وأما لو وهبه البائع ذلك من غير أن يكون قد تقدم شعوره، فهذه مذكورة في غير هذا الموضع.
وسئل عن وكيل آجر أرض موكله بناقص عن شركته.
فأجاب:
إذا أجرها بنصف أجرة المثل كان الوكيل ضامنا للنقص. وهل للمالك إبطال الإجارة؟ فيه نزاع بين العلماء.
وسئل عن جماعة من الجند استأجروا وكيلا على إقطاعهم، وأمروه أن يخرج إلى ذلك الإقطاع، ويسجل بالقيمة، فواطأ الوكيل أصحابه، ووافق المزارعين على رأيهم، وسجل بدون القيمة الجاري بها العادة فهل يجوز تصرفه فيما لم يؤذن له فيه؛ لأجل ما بيده من الوكالة الشرعية؟
/فأجاب:
إذا أجر بدون أجرة المثل وسلم الأرض اليهم فهو ظالم معتد، ولأرباب الأرض أن يضمنوه تمام أجرة المثل؛ لأنه سلم أرضهم إلى من يتمتع بها.
وأما المستأجرون إن كانوا علموا أنه ظالم، وأنه حاباهم فلأصحاب الأرض تضمينهم أيضا. وإن كانوا استوفوا المنفعة فلهم منعهم من الزرع إن كانوا لم يزرعوا؛ فإن الإجارة حينئذ باطلة. وإن كانوا لم يعلموا بل المؤجر عرفهم، فهل لأصحاب الأرض تضمينهم؟ على قولين للعلماء. وإذا ضمنوهم فهل لهم الرجوع على هذا الغار بما لم يلزموا ضمانه بالعقد؟ على قولين أيضا. والثالثة في مذهب أحمد وغيره من العلماء.
وسئل ـ رضي الله عنه ـ عن امرأة وكلـت أخاها في المطالبة بحقوقهـا كلها، والدعوي لها، وفي فسخ نكاحها من زوجها، وثبت ذلك عند الحاكم، ثم ادعي الوكيل عند الحاكم المذكور بنفقة موكلته وكسوتها على زوجها المذكور، واعترف أنه عاجز عن ذلك ومضي على ذلك مدة، وأحضره مرارًا إلى الحاكم، وهو مُصرٌّ على الاعتراف بالعجز، فطلب الوكيل مـن الحـاكم المذكـور أن يمكـنه مـن فسـخ نكـاح موكلته مـن زوجهـا فمكنه من ذلك، ففسخ الوكيـل /نكاح موكلته من زوجها المذكور بحضور الزوج، بعد أن أمهل المهلة الشرعية قبل الفسخ فهل يصح الفسخ؟ وتقع الفرقة بين الزوجين بتمكين الحاكم الوكيل المذكور من فسخ نكاح موكلته، والحالة هذه؟ أم لا؟ أو يشترط حكم الحاكم بصحة الفسخ؟
فأجاب:
إذا فسخ الوكيل المأذون له في فسخ النكاح بعد تمكين الحاكم له من الفسخ صح فسخه، ولم يحتج بعد ذلك إلى حكمه بصحة الفسخ في مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
ولكن الحاكم نفسه إذا فعل فعلا مختلفا فيه من عقد وفسخ؛ كتزويج بلا ولي، وشراء عين غائبة ليتيم، ثم رفع إلى حاكم لا يراه، فهل له نقضه قبل أن يحكم به؟ أو يكون فعل الحاكم حكمًا؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد.
والفسخ للإعسار جائز في مذهب الثلاثة. والحاكم ليس هو فاسخًا، وإنما هو الآذن في الفسخ، والحاكم بجوازه، كما لو حكم لرجل بميراث وأذن له في التصرف، أو حكم لرجل بأنه ولي في النكاح، وأذن له في عقده، أو حكم لمشتر بأن له فسخ البيع لعيب ونحوه، ففي كل موضع حكم لشخص باستحقاق العقد أو الفسخ صح بلا نزاع في مثل هذا.
وإنما النزاع فيما إذا كان هو العاقد أو الفاسخ. ومع هذا / فالصحيح أنه لا يحتاج عقده وفسخه إلى حكم حاكم فيه. وهذا كله لو رفع مثل هذا إلى حاكم حنفي لا يري الفسخ بالإعسار. فأما إن كان الحاكم الثاني ممن يري ذلك، كمن يعتقد مذهب مالك، والشافعي، والإمام أحمد، لم يكن له نقض هذا الفسخ باتفاق الأئمة.
والعلماء الذين اشترطوا في فسخ النكاح بعيب أو إعسار ونحو ذلك من صور النزاع أن يكون بحكم حاكم، وفرقوا بين ذلك وبين فسخ المعتقة تحت عبد، قالوا: لأن هذا فسخ مجمع عليه، فلا يفتقر إلى حاكم، وذلك فسخ مختلف فيه. وسببه ـ أيضا ـ يدخله الاجتهاد، بخلاف العتق فإنه سبب ظاهر معلوم، فاشترطوا أن يكون الفسخ بحكم حاكم، لم يشترطوا أن يكون الحاكم قد حكم بصحة الفسخ بعد وقوعه؛ إذ هذا ليس من خصائص هذه المسائل، بل كل تصرف متنازع فيه إذا حكم الحاكم بصحته لم يكن لغيره نقضه، إذا لم يخالف نصا، ولا إجماعا.
فلو كان المعتبر هنا الحكم بعده لم يحتج إلى حكم الحاكم ابتداء، بل كل مستحق له أن يفسخه. ثم حكم الحاكم يمنع غيره من إبطال الفسخ، كما لو عقد عقدًا مختلفًا فيه، وحكم الحاكم بصحته. وهذا بين لمن عرف ما قاله الفقهاء في هذا. والله أعلم.
/
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل وكل رجلا في عمارة إقطاعه ببيت، فسجل طينه بالقيمة العادلة على الوجه المعتاد بالناحية، ويراعي الغبطة والمصلحة لموكله، فاتفق المزارعون، وخدعوا الوكيل لكونه غريبا من الناحية، عادم الخبرة والمعرفة بمواريها وخواصها، فسجلوا منه الطين بأقل من القيمة العادلة المعتادة من نسبة الشركة المقطعين بالناحية التي بينهم الطين بالسوية، دون الفرط الكثير، والغبن الفاحش. فهل يجوز للمقطع أن يطالب المزارعين بالخراج على القيمة العادلة أسوة شركائه المقطعين بالناحية؟
فأجاب:
إذا وكله في أن يسجله وكالة مطلقة، أو قال:مسجلة أسوة أمثاله، فسواء أطلق الوكالة، أو قيدها بأسوة أمثاله، ليس له أن يسجله إلا بقيمة المثل، كنظرائه، فإن فرط الوكيل بحيث سجله بدون الأجرة المعروفة، وسلم الأرض إلى المستأجر، كان له مطالبة الوكيل بما نقص.
وإذا كان المسجل قد قال للوكيل: هذه الأجرة هي أسوة الناس، ثم تبين /كذبه، فهنا يطالب المسجل بتمام الأجرة،0 إن كان قد زرع الأرض، ولكل واحد من الوكيل والموكل أن يطالب. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عمن وكل وكيلا في بيع دار، وفي قبض الثمن والتسليم والمكاتبة والإشهاد على الترسيم المعتاد، فباع الوكيل الدار لشخص وقبض الثمن، وثبت التبايع، وحكم حاكم بصحته، واستمرت الدار في يد المشتري مدة، ثم وقفها وشهد، وحكم حاكم بصحة الوقف في يد المشتري ـ أولا وآخرا ـ ثلاث سنين، وموكل البائع عالم بذلك كله، ولم يبد فيه مطعنًا، ثم بعد هذه المدة ادعي الموكل أنه عزل الوكيل قبل صدور البيع، ولم يعلم، وأقام بذلك بينة في بلد آخر، وحكم بها حاكم من غير دعوي على المشتري، ولا وكيله، ولا من بيده شيء من ريع العين المنتفعة. فهل يصح هذا الحكم، ويبطل البيع؟ وهل يجب على المشتري أجرة المثل، أو يكون انتفاعه شبهة؟ وهل يجب على الوكيل البائع إعادة الثمن؟ وإذا أقام الوكيل البائع بينة بوصول الثمن إلى موكله هل يكون ذلك رضي منه؟ وهل يفسق الموكل في ادعاء عزل الوكيل بعد ثلاث سنين، وسكوته عن ذلك، وغروره للمشتري، ووصول الثمن اليه؟
/فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة أولًا مبنية على عزل الوكيل: هل ينعزل قبل بلوغ العزل له؟ على قولين مشهورين للعلماء:
أحدهما: لا ينعزل حتي يعلم. وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وقول الشافعي، وأحد القولين في مذهب مالك بل أرجحهما. فعلى هذا تَصَرُّف الوكيل قبل العلم صحيح نافذ. وثبوت عزله قبل التصرف لا يقدح في تصرفه قبل العلم، فيصح البيع والوقف الواقع على الوجه المشروع، ولا يبطل ذلك، ولا حكم الحاكم به.
والقول الثاني: أنه ينعزل قبل العلم وهو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وهو مذهب مالك في إحدى الروايتين. فعلى هذا لا تقبل مجرد دعواه العزل بعد التصرف، وإذا أقام بذلك بينة ببلد آخر، وحكم به حاكم، كان ذلك حكمًا على الغائب، والحكم على الغائب إذا قيل بصحته فهو يصح مع بقاء كل ذي حجة على حجته، وللمحكوم عليه أن يقدح في الحكم والشهادة بما يسوغ قبوله، أما الطعن في الشهود، أو الحكم، أو غير ذلك؛ مثل أن يكون الحاكم الذي حكم بالعزل لا يري العزل قبل العلم. ولكن ليس عليه أن يقبل البينة الشاهدة بالعزل فاسقة أو متهمة بشيء يمنع قبول الشهادة.
ثم الحاكم الذي حكم بصحة البيع والوقف إن كان ممن لا يري عزل الوكيل قبل العلم، وقد بلغه ذلك، كان حكمه نافذًا، لا يجوز /نقضه بحال؛ بل الحكم الناقض له مردود. وإن كان لم يعلم ذلك، أو مذهبه عدم الحكم بالصحة، إذا ثبت كان وجود حكمه كعدمه.
والحاكم الثاني إذا لم يعلم بأن العـزل قبل العلم، أو علم بذلك وهو لا يراه، أو رآه وهو لا يري نقض الحكم المتقدم. وما ذكر من علم موكل الوكيل البائع بما جري وسكوته، كان وجـود حكمه كعدمـه، واستيثاق الحكم في القصـة وقبض الثمـن مـن الوكيل دليل في العادة على الإذن في البيـع والشـراء، وبقاء الوكالة،إذا لم يعارض ذلك معارض راجح.
وأكثر العلماء يقبلون مثل هذه الحجة ويدفعون بها دعوي الموكل للعزل؛ ليبطل البيع، لاسيما مع كثرة شهود الزور. ولو حكم ببطلان الوقف لم يجب على الوكيل ولا على المشتري ضمان ما استوفاه من المنفعة؛ فإن كان الوكيل والمشتري مغرورين غرهما الموكل لعدم إعلامه بالعزل، فالتفريط جاء من جهته فلا يضمن له المنفعة.
وإذا أنكر الموكل قبض الثمن، ولم يقم عليه بينة به، فإن كان الوكيل بلا جعل قبل قوله على الموكل؛ لأنه أمينه، كما يقبل قول المودع في رد الوديعة إلى مالكها. وإن كان بجعل، ففيه قولان مشهوران للعلماء، ولكن لا يقبل قول الوكيل على المشتري. فإن كان البيع باقيًا /فلا كلام، وإن كان البيع مفسوخًا فلهم أن يطالبوا الوكيل بالثمن، والوكيل يرجع على الموكل.
وسئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن رجل وكيل باع لموكله حصته من حانوت، ثم إن المشتري وقف تلك الحصة. وثبت البيع والوقف، وحكم بصحة الوقف، وبعد ذلك ثبت أن الوكيل كان معزولا بتاريخ متقدم على بيعه، محكوم بصحة عزله فهل يتبين بطلان البيع والوقف؟ أم هما صحيحان؟ وإذا بان البطلان، فهل للموكل الرجوع بأجرة تلك الحصة مدة مقامها في يد المشتري الواقف لها؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة فيها نزاع مشهور، وهو أن الوكيل إذا مات موكله، أو عزله، ولم يعلم بذلك حتي تصرف فهل ينعزل قبل العلم؟ على ثلاثة أقوال لأهل العلم في مذهب الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهما:
أحدها: أنه ينعزل قبل العلم، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وقول في مذهب مالك، فعلى هذا يتبين بطلان البيع، لكن على هذا لا ضمان على الوكيل؛ لأنه لم يفرط، وأما المشتري فهو /مغرور أيضا إذا لم يعلم. وفي تضمينه نزاع في مذهب أحمد وغيره، وأحد قولي الشافعي. وهذا الغَارُّ لا ضمان عليه، ولا يضمن واحد منهما، ولم يرجع على الغار في أشهر قولي الشافعي، والإمام أحمد في رواية. فعلى هذا يضمن المشتري، ولا يرجع على أحد.
والقول الثاني: أنه ينعزل بالموت، ولا ينعزل بالعزل حتي يعلم، وهذا مذهب أبي حنيفة، والمشهور في مذهب مالك، وأحد الأقوال في مذهب الشافعي، والإمام أحمد. فعلى هذا تصرفه قبل العلم صحيح. فيصح البيع إذا لم يكن الرجل عالما بالعزل، فأما إن تصرف بعد علمه بالعزل لم يكن تصرفه لازمـًا باتفاق المسلمين؛ بل يكون بمنزلة تصرف الفضولي، وهو مردود في مذهب الشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه. وموقوف على الإجازة في مذهب أبي حنيفة، والرواية الأخري عن الإمام أحمد، وحكي عن مالك. فمتي لم يجزه المستحق بطل بالإجماع.
والقول الثالث: أنه لا ينعزل في الموضعين قبل العلم، كقول الشافعي، والإمام أحمد ـ رضي الله عنهما ـ والحكم فيه كما تقدم. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
/
وسئل شيخ الإسلام عمن وكل رجلا في بيع سلعة، فباعها إلى أجل، وتوي بعض الثمن. فهل يطالب المالك بقيمتها حالة، أو بمثل الثمن المؤجل، وهو أكثر؟
فأجاب:
إذا لم يكن قد أذن له في البيع إلى أجل، فالمالك مخير بين أن يطالب البائع بقيمتها بنقد، وبين أن يطالب بالثمن المؤجل جميعه، ويحسب المنكسر على صاحب السلعة؛ لأن تصرفه بدون إذن كتصرف غاصب. والغاصب إذا تلفت العين عنده إلى بدل كان للمالك الخيرة بين المطالبة، وبين البدل المطلق، وهو المثل أو القيمة، وبين البدل المعين. وهذا يكون حيث لم يعرف المشتري بالغصب، فلا يثبت عليه إلا الثمن المسمي.
وإذا قلنا بوقف العقود على الإجازة ـ إذا لم يثبت الإجازة واصطلحا على الثمن، وتراضيا به ـ صح الصلح عن بدل المتلف بأكثر من قيمته في ضمانه. كما لو اتفقا على فرض المهر في مسألة التفويض.
/
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن الأمراء الذين يطلبون ما يحتاجون اليه من القماش وغيره من الأسواق، فيأخذون ما أعجبهم من ذلك، ويكتب الأمير لصاحبه خطا بذلك، أو ينزله ونوابه في دفتره، ويقترضون من أصحابهم دراهم، وكل ذلك بغير حجج تكتب، ولا إشهاد، وهذه عادتهم.
وإذا توفي الأمير وعلم ديوانه واستاداره بحقوق الناس. فهل يحل لهم منعهم؟ أو مطلهم؟ أم يلزمهم دفع حقوقهم التي علموها من التركة، والحالة هذه؟
فأجاب:
بل كل ما وجد بخط الأمير، أو أخبر به كاتبه، أو لفظ وكيله في ذلك، مثل كاتبه، واستاداره، فإنه يجب العمل بذلك. فإن إقرار الوكيل على موكله فيما وكله فيه مقبول؛ لأنه أمينه، وخط الميت كلفظه في الوصية والإقرار ونحوهما.
ومع ذلك لا يحتاج أصحاب الحقوق إلى بينة. وتكليفهم البينة إضاعة للحقوق، وتعذيب للأموات ببقائهم مرتهنين بالذنوب، ففيه ظلم للأموات /والأحياء، لاسيما في المعاملات التي لم تجر العادة فيها بالإشهاد، فتكليف البينة في ذلك خروج عن العدل المعروف. والله أعلم.
وسئل عن رجل متحدث لأمير في تحصيل أمواله. فهل يكون له العشر فيما حصله المقرر عن الوكالة عن كل ألف درهم مائة درهم؟ وهل له أن يتناول ذلك في حال حياته ومماته، وبإذنه أو غير إذنه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن كان الأمير قد وكله بالعشر، أو وكله توكيلا مطلقا على الوجه المعتاد الذي يقتضي في العرف أن له العشر فله ذلك؛ فإنه يستحق العشر بشرط لفظي، أو عرفي.
والاستئجار: كاستئجار الأرض للزراعة بجزء من زرعها، وهي مسألة [قفيز الطحان] . ومن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهي عن قفيز الطحان، فقد غلط.
واستيفاء المال بجزء مشاع منه جائز، في أظهر قولي العلماء، وإن كان قد عمل له على أن يعطيه عوضًا؛ ولم يبين له ذلك. فله أيضا أجرة المثل الذي جرت به العادة، فإن استحق عليه شيئًا فله أن /يستوفيه مطلقًا من تركته، وبدون إذنه، وإن لم يستحقه عليه لم يجز أن يأخذ شيئًا إلا بإذنه. والله أعلم.
وسئل عن رجل وكل رجلا وكالة مطلقة؛ بناء على أنه لا يتصرف إلا بالمصلحة والغبطة، فأجر له أرضا تساوي إجارتها عشرة آلاف بخمسة آلاف. فهل تصح هذه الإجارة؟ أم لا؟ وإذا صحت هل يلزم الوكيل التفاوت؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس له أن يؤجرها بمثل هذا الغبن، وله أن يضمن الوكيل المفرط ما فوته عليه.
وأما صحة الإجارة: فأكثر الفقهاء يقولون: إجارة باطلة، كما هو مذهب الشافعي، وأحمد في أحد القولين، لكن إذا كان المستأجر مغرورًا لم يعلم بحال الوكيل، مثل أن يظن أنه مالك عالم بالقيمة، فله أن يرجع على من غره بما يلزمه في أصح قولي العلماء. وزرعه زرع محترم، لا يجوز قطعه مجانًا؛ بل ينزل بأجرة المثل، بما لا يتغابن الناس به، فهنا هو ظالم، وزرعه زرع غاصب.
وهل للمالك قلعه مجانًا؟ على قولين مشهورين للعلماء.وهل يملكه /بنفقته؟ على قولين أيضا.
وظاهر مذهب أحمد أن له تملكه بنفقته. وأما إبقاؤه بأجرة المثل فيملكه بالاتفاق. وإذا ادعي على المستأجر أنه عالم بالحال فأنكر، فالقول قوله مع يمينه.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل وكل غلامه في إيجار حانوت لشخص، ثم إن المستأجر أجره لشخص فهل للوكيل أن يقبل الزيادة في أجرة الحانوت؟ أم لا؟ وهل له مطالبة المستأجر الثاني؟ أم لا؟ وإذا غصب المستأجر الثاني وأخذ منه الأجرة، فهل للمستأجر أن يستعيد منه؟ أم لا؟ وإذا كان هذا الغلام يتصرف لهذا الموكل بإيجار حوانيته، وقبض الأجرة، ويدعي بذلك عند القضاة لموكله، وسيده يعلم بذلك كله، ويقره عليه: فهل يقبل قوله أنه لم يوكله؟ وإذا أكره الموكل المستأجر الثاني على غير الإجارة الأولي. فهل تصح هذه الإجارة الثانية أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ليس للموكل ـ والحالة هذه ـ أن يؤجر الحانوت لأحد لا بزيادة، ولا غير زيادة، ولا للمستأجر الأول ذلك، وليس للموكل مطالبة المستأجر الثاني، وإذا أخذ منه الأجرة /غصبًا فله استرجاع ذلك منه، ولا يقبل قوله في إنكار الوكالة مع كونه يتصرف له تصرف الوكلاء، مع علمه بذلك، وكونه معروفًا بأنه وكيله بين الناس، حتي لو قدر أنه لم يوكله ـ والحالة هذه ـ فتفريطه وتسليطه عدوان منه يوجب الضمان. والإجارة الثانية التي أكره الموكل عليها للمستأجر الثاني باطلة. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن قوم أرسلوا قومًا في مصالح لهم ويعطونهم نفقة. فهل يحل لهم أكل ذلك؟ واستدانة تمام نفقتهم ومخالطتهم؟
فأجاب:
إذا أعطاهم الذين بعثوهم ما ينفقونه جاز ذلك، وعليهم تمام نفقتهم ما داموا في حوائجهم، ويجوز مخالطتهم.
/
وسئل ـ رحمه الله ـ عن نوبة الوكلاء لحفظ الغلال على الفلاحين. هل هي حلال؟
فأجاب:
إذا كان يحفظ الزرع لصاحب الأرض والفلاح فله أجرته عليها، فإذا كانت المؤنة التي يأخذها من الفلاح بقدر حقه عليه فلا بأس بذلك. والله أعلم.
وسئل عن رجل وكل رجلا في شراء، ولم يوكله في الإقالة، فأقال. هل تصح؟
فأجاب:
إذا وكل الإنسان وكيلا في شراء شيء ولم يوكله في الإقالة، لم يكن للوكيل الإقالة، ولا تنفذ إقالته بدون إذن الموكل، باتفاق العلماء. أعلم.
/
وسئل ـ رحمه الله ـ عن وكيل في مبلغ لوالده يجبي الديون التي له على الناس، فإذا جاء إلى أحد قال: إني وقعته لأبيك، ثم قال: إن أبريتني وصالحتني على شيء وقع الاتفاق بيني وبينك، ثم صالحه من جملة ألف بثلاثمائة درهم. ثم أقر بالدين بعد الصلح، وأخذ بيده الإبراء. فهل تجوز دعواه عليه بعد إقراره، والشهـود على رب الديـن بالإبـراء؟ أم لا؟
فأجاب:
الوكيل في الاستيفاء لا يصح إبراؤه، ولا مصالحته على بعض الحق، ولو كان وكيلا في ذلك.
ثم إن الغريم إذا جحد الحق حتي صولح كان الصلح في حقه باطلا، ولم تبرأ ذمته، وإذا كان المدعي إنما صالحه خوفًا من ذهاب جميع الحق فهو مكره على ذلك، فلا يصح صلحه، وله أن يطالبه بالحق بعد ذلك، إذا أقر به، أو قامت به بينة؟ [b]