كتاب الفقــه
الجزء الرابع
من صلاة أهل الأعذار إلى الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم
باب صلاة أهل الأعذار
سُئِلَ شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ رحمه اللّه ـ عن رجل شيخ كبير وقد انحلت أعضاؤه، لا يستطيع أن يأكل أو يشرب، ولا يتحرك، ولا يستنجي بالماء، وإذا سجد ما يستطيع الرفع، فكيف يصلي؟
فأجاب:
أما الصلاة: فإنه يفعل ما يقدر عليه، ويصلي قاعـدًا إذا لم يستطع القيام، ويومئ برأسه إيماء بحسب حاله. وإن سجد على فخذه جاز، ويمسح بخرقة إذا تخلى، ويوضئه غيره إذا أمكن، ويجمع بين الصلاتين فيوضيه في آخر وقت الظهر، فيصلي الظهر والعصر بلا قصر، ثم إذا دخل وقت المغرب، صلى المغرب والعشاء، ويوضيه الفجر.
وإن لم يستطع الصلاة قاعدًا، صلى على جنبه، ووجهه إلى القبلة،/ وإن لم يكن عنده من يوضئه ولا ييممه، صلى على حسب حاله، سواء كان على قفاه ورجلاه إلى القبلة، أو على جنبه ووجهه إلى القبلة.
وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة صلى إلى أي جهة توجه، شرقًا، أو غربًا، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
وسئل شيخ الإسلام: هل تجوزصلاة المرأة قاعدة مع قدرتها على القيام؟
فأجاب:
فصل
وأما صلاة الفرض قاعدًا مع القدرة على القيام، فلا تصح، لا من رجل ولا امرأة، بل قد قال النبي صلىالله عليه وسلم: (صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك).
ولكن يجوز التطوع جالسًا، ويجوز التطوع على الراحلة في السفر قبل أي جهة توجهت بصاحبها، فإن النبي صلىالله عليه وسلم كان / يصلي على دابته قبل أي جهة توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
ويجوز للمريض إذا شق عليه القيام أن يصلي قاعدًا، فإن لم يستطع صلى على جنبه، وكذلك إذا كان رجل لا يمكنه النزول إلى الأرض، صلى على راحلته، والخائف من عدوه إذا نزل يصلي على راحلته. والله أعلم.
وسئل شيخ الإسلام:
هل القصر في السفر سنة أو عزيمة؟ وعن صحة الحديث الذي رواه الشافعي عن إبراهيم ابن محمد، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة، قالت: كل ذلك قد فعل النبي صلىالله عليه وسلم قصر الصلاة وأتم.
فأجاب:
أما القصر في السفر: فهو سنة النبي صلىالله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين؛ فإن النبي صلىالله عليه وسلم لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، وكذلك أبو بكر وعمر، وكذلك عثمان في السنة / الأولى من خلافته، لكنه في السنة الثانية أتمها بمنى لأعذار مذكورة في غير هذا الموضع.
وأما الحديث المذكور: فلا ريب أنه خطأ على عائشة. وإبراهيم بن محمد هو ابن أبي يحيى المدني القدري. وهو وطلحة بن عمرو المكي ضعيفان، باتفاق أهل الحديث لا يحتج بواحد منهما فيما هو دون هذا. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. وقيل لعروة: فلم أتمت عائشة الصلاة؟ قال: تأولت، كما تأول عثمان. فهذه عائشة تخبر بأن صلاة السفر ركعتان، وابن أختها عروة أعلم الناس بها يذكر أنها أتمت بالتأويل، لم يكن عندها بذلك سنة. وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصـلاة الفطـر ركعتان، وصـلاة الأضحى ركعتان، تمام غـير قصر على لسان نبيكم.
وأيضًا، فإن المسلمين قد نقلوا بالتواتر أن النبي صلىالله عليه وسلم لم يصل في السفر إلا ركعتين، ولم ينقل عنـه أحد أنه صلى أربعًا قط، ولكن الثابت عنه أن صام في السفر وأفطر، وكان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر.
/وأما القصر: فكل الصحابة كانوا يقصرون، منهم أهل مكة، وغير أهل مكة بمنى وعرفة وغيرهما، وقد تنازع العلماء في التربيع: هل هو محرم أو مكروه؟ أو ترك للأولى أو مستحب؟ أو هما سواء؟ على خمسة أقوال:
أحدها: قول من يقول: إن الإتمام أفضل، كقول للشافعي.
والثاني: قول من يسوى بينهما، كبعض أصحاب مالك.
والثالث: قول من يقول: القصر أفضل، كقول الشافعي الصحيح، وإحدى الروايتين عن أحمد.
والرابع: قول من يقول: الإتمام مكروه، كقول مالك في إحدى الروايتين، وأحمد في الرواية الأخرى.
والخامس: قول من يقول: إن القصر واجب، كقول أبي حنيفة ومالك في رواية.
وأظهر الأقوال قول من يقول: إنه سنة، وإن الإتمام مكروه؛ ولهذا لا تجب نية القصر عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في أحد القولين عنه في مذهبه.
/ وسئل: هل لمسافة القصر قدر محدود عن الشارع صلىالله عليه وسلم؟
فأجاب:
السنة أن يقصر المسافر الصلاة، فيصلي الرباعية ركعتين. هكذا فعل رسول الله صلىالله عليه وسلم في جميع أسفاره. هو وأصحابه، ولم يصل في السفر أربعًا قط. وما روي عنه: أنه صلى في السفر أربعًا في حياته. فهو حديث باطل عند أئمة الحديث.
وقد تنازع العلماء في المسافر إذا صلى أربعًا. فقيل: لا يجوز ذلك كما لا يجوز أن يصلي الفجر والجمعة والعيد أربعًا، وقيل: يجوز، ولكن القصر أفضل عند عامتهم ـ ليس فيه إلا خلاف شاذ، ولا يفتقر القصر إلى نية، بل لو دخل في الصلاة وهو ينوي أن يصلي أربعًا؛ اتباعًا لسنة رسول الله صلىالله عليه وسلم، وقد كان صلى الله عليه وسلم لما حج بالمسلمين حجة الوداع يصلي بهم ركعتين ركعتين، إلى أن رجع، وجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة، والمسلمون خلفه، ويصلي بصلاته أهل مكة وغيرهم: جمعًا وقصرًا. ولم يأمر أحدًا أن ينوى لا جمعًا ولا قصرًا.
/وأقام بمنى يوم العيد، وأيام منى، يصلي بالمسلمين ركعتين ركعتين، والمسلمون خلفه. يصلي بصلاته أهل مكة وغيرهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، ولم يأمر النبي صلىالله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر أحدًا مـن أهل مكـة أن يصلي أربعًا، لا بمنى ولا بغيرها؛ فلهذا كان أصح قولي العلماء أن أهل مكة يجمعون بعرفة ومزدلفة، ويقصرون بها وبمنى. وهذا قول عامة فقهاء الحجاز، كمالك، وابن عيينة، وهو قول إسحاق بن راهويه واختيار طائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد، كأبي الخطاب في عباداته.
وقد قيل: يجمعون ولا يقصرون، وهو قول أبي حنيفة، وهو المنصوص عن أحمد. وقيل: لا يقصرون، ولا يجمعون، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو أضعف الأقوال.
والصواب المقطوع به أن أهل مكة يقصرون، ويجمعون هناك، كما كانوا يفعلون هناك مع النبي صلىالله عليه وسلم وخلفائه، ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه قال لهم هناك: (أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر). ولكن نقل أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى بهم داخل مكة. وكذلك كان عمر يأمر أهل مكة بالإتمام إذا صلى بهم في البلد، وأما بمنى، فلم يكن يأمرهم بذلك.
/وقد تنازع العلماء في قصر أهل مكة خلفه فقيل: كان ذلك لأجل النسك، فلا يقصر المسافر سفرًا قصيرًا هناك. وقيل: بل كان ذلك لأجل السفر، وكلا القولين قاله بعض أصحاب أحمد. والقول الثاني هو الصواب، وهو أنهم قصروا لأجل سفرهم، ولهذا لم يكونوا يقصرون بمكة، وكانوا محرمين، والقصر معلق بالسفر وجودًا وعدمًا، فلا يصلي ركعتين إلا مسافر، وكل مسافر يصلي ركعتين، كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه? ـ: صلاة المسافر ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة النحر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير نقص. أي: غير قصر على لسان نبيكم صلىالله عليه وسلم. وفي الصحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر.
وقد تنازع العلماء: هل يختص بسفر دون سفر؟ أم يجوز في كل سفر؟ وأظهر القولين أنه يجوز في كل سفر قصيرًا كان أو طويلا، كما قصر أهل مكة خلف النبي صلىالله عليه وسلم بعرفة ومنى، وبين مكة وعرفة نحو بريد: أربع فراسخ.
وأيضًا، فليس الكتاب والسنة يخصان بسفر دون سفر، لا بقصر ولا بفطر، ولا تيمم. ولم يحد النبي صلىالله عليه وسلم مسافة القصر بحد، لا زماني، ولا مكاني. والأقوال المذكورة في ذلك متعارضة، / ليس على شيء منها حجة، وهي متناقضة، ولا يمكن أن يحد ذلك بحد صحيح.
فإن الأرض لا تذرع بذرع مضبوط في عامة الأسفار، وحركة المسافر تختلف. والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع صلىالله عليه وسلم، ويقيد ما قيده، فيقصر المسافر الصلاة في كل سفر، وكذلك جميع الأحكام المتعلقة بالسفر من القصر والصلاة على الراحلة، والمسح على الخفين.
ومن قسم الأسفار إلى قصير وطويل، وخص بعض الأحكام بهذا وبعضها بهذا، وجعلها متعلقة بالسفر الطويل، فليس معه حجة يجب الرجوع إليها. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
إذا سافر إنسان سفرًا مقدار ثلاثة أيام، أو ثلاثة فراسخ: هل يباح له الجمع والقصر أم لا؟
فأجاب:
وأما الجمع والقصر في السفر القصير: ففيه ثلاثة أقوال، بل أربعة، بل خمسة في مذهب أحمد:
/أحدها: أنه لا يباح الجمع، ولا القصر.
والثاني: يباح الجمع دون القصر.
والثالث: يباح الجمع بعرفة ومزدلفة خاصة للمكى، وإن كان سفره قصيرًا.
والرابع: يباح الجمع والقصر بعرفة ومزدلفة.
والخامس: يباح ذلك مطلقًا. والذي يجمع للسفر: هل يباح له الجمع مطلقًا، أو لا يباح إلا إذا كـان مسافرًا؟ فيـه روايتان عـن أحمد مقيمًا أو مسافرًا، ولهذا نص أحمـد على أنـه يجمع إذا كان له شغل. قال القاضي أبو يعلى: كل عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة يبيح الجمع، ولهذا يجمع للمطر، والوحل، وللريح الشديدة الباردة؛ في ظاهر مذهب الإمام أحمد، ويجمع المريض والمستحاضة والمرضع، فإذا جد السير بالمسافر، جمع سواء كان سفره طويلاً أو قصيرًا، كما مضت سنة رسول الله صلىالله عليه وسلم. يجمع الناس بعرفة ومزدلفة، المكي وغير المكي، مع أن أهل مكة سفرهم قصير.
وكذلك جمع صلىالله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون بعرفة ومزدلفة ومتى قصروا يقصر خلفهم أهل مكـة، وغير أهـل مكـة، وعرفة مـن مكـة / بريد: أربعـة فراسخ؛ ولهذا قـال مالك وبعض أصحاب أحمد ـ كأبي الخطاب ـ في العبادات الخمس: إن أهل مكة يقصرون بعرفة ومزدلفة، وهذا القول هو الصواب، وإن كان المنصوص عن الأئمة الثلاثة بخلافه: أحمد والشافعي وأبي حنيفة.
ولهذا قال طائفة أخرى من أصحاب أحمد وغيرهم: إنه يقصر في السفر الطويل والقصير؛ لأن النبي صلىالله عليه وسلم لم يوقت للقصر مسافة، ولا وقتًا، وقد قصر خلفه أهل مكة بعرفة ومزدلفة، وهذا قول كثير من السلف والخلف، وهو أصح الأقوال في الدليل. ولكن لابد أن يكون ذلك مما يعد في العرف سفرًا، مثل أن يتزود له، ويبرز للصحراء، فأما إذا كان في مثل دمشق، وهو ينتقل من قراها الشجرية من قرية إلى قرية، كما ينتقل من الصالحية إلى دمشق، فهذا ليس بمسافر، كان أن مدينة النبي صلىالله عليه وسلم كانت بمنزلة القرى المتقاربة عند كل قوم نخيلهم ومقابرهم ومساجدهم، قباء وغير قباء، ولم يكن خروج الخارج إلى قباء سفرًا، ولهذا لم يكن النبي صلىالله عليه وسلم وأصحابه يقصرون في مثل ذلك، فإن الله تعالى قال: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبـة: 101]، فجميع الأبنيـة تدخل في مسمى المدينة، وما خرج عن أهلها، فهو من الأعراب أهل العمود. والمنتقل من المدينة من ناحية إلى ناحية، ليس بمسافر، ولا يقصر الصلاة، ولكن هذه مسائل اجتهاد،/فمن فعل منها بقول بعض العلماء، لم ينكر عليه، ولم يهجر.
وهكذا اختلفوا في الجمع والقصر: هل يشترط له نية؟ فالجمهور لا يشترطون النية، كمالك، وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وهو مقتضى نصوصه.
والثاني: تشترط، كقول الشافعي، وكثير من أصحاب أحمد، كالخرقي وغيره، والأول أظهر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه.
وسئل عن سفر يوم من رمضان: هل يجوز أن يقصر فيه ويفطر أم لا؟
فأجاب:
هذا فيه نزاع بين العلماء، والأظهر أنه يجوز له القصر والفطر في يوم من رمضان، كما قصر أهل مكة خلف النبي صلىالله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة، وعرفة عن المسجد الحرام مسيرة بريد؛ ولأن السفر مطلق في الكتاب والسنة.
/ وسئل عن رجل مسافر إلى بلد، ومقصوده أن يقيم مدة شهر أو أكثر: فهل يتم الصلاة أم لا؟
فأجاب:
إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها، قصر الصلاة، كما فعل النبي صلىالله عليه وسلم لما دخل مكة، فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة. وإن كان أكثر ففيه نزاع. والأحوط أن يتم الصلاة.
وأما إن قال: غدًا أسافر، أو بعد غد أسافر، ولم ينو المقام، فإنه يقصر أبدًا. فإن النبي صلىالله عليه وسلم أقام بمكة بضعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. والله أعلم.
وسئل عن رجل جرد إلى الخربة لأجل الحمى وهو يعلم أنه يقيم مدة شهرين. فهل يجوز له القصر؟ وإذا جاز القصر، فالإتمام أفضل أم القصر؟
/فأجاب:
الحمد لله، هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء، منهم من يوجب الإتمام، ومنهم مـن يوجب القصر، والصحيح أن كلاهما سائغ. فمن قصر لا يُنكر عليه، ومن أتم لا يُنكر عليه.
وكذلك تنازعوا في الأفضل: فمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط، فالإتمام أفضل. وأما من تبينت له السنة، وعلم أن النبي صلىالله عليه وسلم لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو بمكان، ولا حد الإقامة ـ أيضًا ـ بزمن محدود، لا ثلاثة ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا خمسة عشر، فإنه يقصر. كما كان غير واحد من السلف يفعل، حتى كان مسروق قد ولوه ولاية لم يكن يختارها فأقام سنين يقصر الصلاة.
وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة، وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام، ولا أكثر. كما أقام النبي صلىالله عليه وسلم وأصحابه بعد فتح مكة قريبًا من عشرين يومًا يقصرون الصلاة، وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون في رمضان. وكان النبي صلىالله عليه وسلم لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام. وإذا كان التحديد لا أصل له، فما دام المسافر مسافرًا يقصر الصلاة، ولو أقام في مكان شهورًا. والله أعلم. كتبه: أحمد بن تيمية.
/ وسئل: هل الجمع بين الصلاتين في السفر أفضل أم القصر؟ وما أقوال العلماء في ذلك؟ وما حجة كل منهم؟ وما الراجح من ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، بل فعل كل صلاة في وقتها أفضل، إذا لم يكن به حاجة إلى الجمع، فإن غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصليها في السفر إنما يصليها في أوقاتها. وإنما كان الجمع منه مرات قليلة.
وفَرَّق كثير من الناس بين الجمع والقصر، وظنهم أن هذا يشرع سنة ثابتة، والجمع رخصة عارضة، وذلك أن النبي صلىالله عليه وسلم في جميع أسفاره كان يصلي الرباعية ركعتين، ولم ينقل أحد أنه صلى في سفره الرباعية أربعًا، بل وكذلك أصحابه معه.
والحديث الذي يروى عن عائشة: أنها أتمت معه وأفطرت، حديث ضعيف، بل قد ثبت عنها في الصحيح: أن الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر، وأقرت / صلاة السفر. وثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلىالله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101] فإن نفي الجناح لبيان الحكم، وإزالة الشبهة، لا يمنع أن يكون القصر هو السنة. كما قال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، نفي الجناح لأجل الشبهة التي عرضت لهم من الطواف بينهما؛ لأجل ما كانوا عليه في الجاهلية من كراهة بعضهم للطواف بينهما، والطواف بينهما مأمور به باتفاق المسلمين، وهو إما ركن، وإما واجب، وإما سنة مؤكدة.
وهو ـ سبحانه ـ ذكر الخوف والسفر؛ لأن القصر يتناول قصر العدد وقصر الأركان، فالخوف يبيح قصر الأركان، والسفر يبيح قصر العدد. فإذا اجتمعا، أبيح القصر بالوجهين، وإن انفرد السفر، أبيح أحد نوعي القصر. والعلماء متنازعون في المسافر: هل فرضه الركعتان؟ ولا يحتاج قصره إلى نية؟ أم لا يقصر إلا بنية؟ على قولين:
/والأول: قول أكثرهم، كأبي حنيفة، ومالك، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، اختاره أبو بكر وغيره.
والثاني: قول الشافعي، وهو القول الآخر في مذهب أحمد، اختاره الخِرَقي وغيره.
والأول هو الصحيح الذي تدل عليه سنة النبي صلىالله عليه وسلم، فإنه كان يقصر بأصحابه، ولا يعلمهم قبل الدخول في الصلاة أنه يقصر، ولا يأمرهم بنية القصر. ولهذا لما سلم من ركعتين ناسيًا قال له ذو اليدين:أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: (لم أنس،ولم تقصر). قال: بلى! قد نسيت. وفي رواية: (لو كان شيء لأخبرتكم به). ولم يقل: لو قصرت لأمرتكم أن تنووا القصر. وكذلك لما جمع بهم لم يعلمهم أنه جمع قبل الدخول، بل لم يكونوا يعلمون أنه يجمع حتى يقضي الصلاة الأولى، فعلم ـ أيضًا ـ أن الجمع لا يفتقر إلى أن ينوى حين الشروع في الأولى، كقول الجمهور. والمنصوص عن أحمد يوافق ذلك.
وقد تنازع العلماء في التربيع في السفر: هل هو حرام أو مكروه؟ أو ترك الأولى أو هو الراجح؟ فمذهب أبي حنيفة، وقول في مذهب مالك: أن القصر واجب، وليس له أن يصلي أربعًا./ ومذهب مالك في الرواية الأخرى وأحمد في أحد القولين ـ بل أنصهما ـ أن الإتمام مكروه.ومذهبه في الرواية الأخرى ومذهب الشافعي في أظهر قوليه: أن القصر هو الأفضل،والتربيع ترك الأولى.وللشافعي قول أن التربيع أفضل، وهذا أضعف الأقوال.
وقد ذهب بعض الخوارج إلى أنه لا يجوز القصر إلا مع الخوف، ويذكر هذا قولا للشافعي، وما أظنه يصح عنه، فإنه قد ثبت ـ بالسنة المتواترة ـ: أن النبي صلىالله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه بمنى ركعتين ركعتين آمن ما كان الناس. وكذلك بعده أبو بكر، وكذلك بعده عمر.
وإذا كان كذلك فكيف يسوى بين الجمع والقصر؟! وفعل كل صلاة في وقتها أفضل، إذا لم يكن حاجة عند الأئمة كلهم، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبيهما، بل تنازعوا في جواز الجمع على ثلاثة أقوال.
فمذهب أبي حنيفة: أنه لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة. ومذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين: أنه لا يجمع المسافر إذا كان نازلاً، وإنما يجمع إذا كان سائرًا. بل عند مالك إذا جد به السير. ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: أنه يجمع المسافر، وإن كان نازلاً.
/وسبب هذا النزاع ما بلغهم من أحاديث الجمع، فإن أحاديث الجمع قليلة، فالجمع بعرفة ومزدلفة متفق عليه، وهو منقول بالتواتر فلم يتنازعوا فيه. وأبو حنيفة لم يقل بغيره لحديث ابن مسعود الذي في الصحيح أنه قال: ما رأيت رسول الله صلىالله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة، وصلاة المغرب ليلة جمع. وأراد بقوله: (في الفجر لغير وقتها) التي كانت عادته أن يصليها فيه، فإنه جاء في الصحيح عن جابر: أنه صلى الفجر بمزدلفة بعد أن برق الفجر. وهذا متفق عليه بين المسلمين أن الفجر لا يصلي حتى يطلع الفجر، لا بمزدلفة ولا غيرها، لكن بمزدلفة غَلَسَ بها تغليسًا شديدًا.
وأما أكثر الأئمة: فبلغتهم أحاديث في الجمع صحيحة، كحديث أنس وابن عباس وابن عمر ومعاذ وكلها من الصحيح. ففي الصحيحين عن أنس: أن النبي صلىالله عليه وسلم، كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فصلاهما جميعًا. وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر ثم ركب. وفي لفظ في الصحيح: كان النبي صلىالله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر، أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع بينهما. وفي الصحيحين عن ابن عمر: أن النبي صلىالله عليه وسلم كان إذا عَجِل به السير، جمع بين المغرب والعشاء. وفي لفظ في الصحيح: أن / ابن عمر كان إذا جد به السير، جمع بين المغرب والعشاء، بعد أن يغيب الشفق. ويقول: إن رسول الله صلىالله عليه وسلم كان إذا جد به السير، جمع بين المغرب والعشاء.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن النبي صلىالله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته. وكذلك في صحيح مسلم عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل قال: جمع رسول الله صلىالله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. قال: فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته. بل قد ثبت عنه أنه جمع في المدينة كما في الصحيحين عن ابن عباس قال: صلى لنا رسول الله صلىالله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا من غير خوف ولاسفر. وفي لفظ في الصحيحين عن ابن عباس: أن النبي صلىالله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا، جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال أيوب: لعله في ليلة مطيرة. وكان أهل المدينة يجمعون في الليلة المطيرة بين المغرب والعشاء، ويجمع معهم عبد الله بن عمر. وروى ذلك مرفوعًا إلى النبي صلىالله عليه وسلم. وهذا العمل من الصحابة.
/قولهم: [أراد ألا يحرج أمته] يبين أنه ليس المراد بالجمع تأخير الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الثانية في أول وقتها. فإن مراعاة مثل هذا فيه حرج عظيم. ثم إن هذا جائز لكل أحد في كل وقت، ورفع الحرج إنما يكون عند الحاجة، فلابد أن يكون قد رخص لأهل الأعذار فيما يرفع به عنهم الحرج، دون غير أرباب الأعذار.
وهذا ينبني على أصل كان عليه رسول الله صلىالله عليه وسلم وهو: أن المواقيت لأهل الأعذار ثلاثة، ولغيرهم خمسة. فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]. فذكر ثلاثة مواقيت. والطرف الثاني يتناول الظهر والعصر. والزلف يتناول المغرب والعشاء. وكذلك قال: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]. والدلوك هو الزوال، في أصح القولين. يقال: دلكت الشمس، وزالت، وزاغت، ومالت. فذكر الدلوك والغسق وبعد الدلوك يصلي الظهر والعصر، وفي الغسق تصلى المغرب والعشاء، ذكر أول الوقت وهو الدلوك، وآخر الوقت وهو الغسق، والغسق اجتماع الليل وظلمته.
ولهذا قال الصحابة ـ كعبد الرحمن بن عوف وغيره ـ: إن المرأة الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر، صلت المغرب والعشاء. وإذا طهرت قبل غروب الشمس، صلت الظهر والعصر. وهذا مذهب جمهور الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد.
/وأيضًا، فجمع النبي صلىالله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة يدل على جواز الجمع بغيرهما للعذر، فإنه قد كان من الممكن أن يصلي الظهر ويؤخر العصر إلى دخول وقتها، ولكن لأجل النسك والاشتغال بالوقوف قدم العصر. ولهذا كان القول المرضي عند جماهير العلماء: أنه يجمع بمزدلفة وعرفة من كان أهله على مسافة القصر، ومن لم يكن أهله كذلك، فإن النبي صلىالله عليه وسلم لما صلى صلى معه جميع المسلمين أهل مكة وغيرهم، ولم يأمر أحدًا منهم بتأخير العصر، ولا بتقديم المغرب، فمن قال من أصحاب الشافعي وأحمد: إن أهل مكة لا يجمعون، فقوله ضعيف في غاية الضعف. مخالف للسنة البينة الواضحة التي لا ريب فيها، وعذرهم في ذلك أنهم اعتقدوا أن سبب الجمع هو السفر الطويل، والصواب أن الجمع لا يختص بالسفر الطويل، بل يجمع للمطر، ويجمع للمرض، كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة، فإن النبي صلىالله عليه وسلم أمرها بالجمع في حديثين.
وأيضًا، فكون الجمع يختص بالطويل، فيه قولان للعلماء، وهما وجهان في مذهب أحمد:
أحدهما: يجمع في القصر، وهو المشهور، ومذهب الشافعي لا.
والأول أصح لما تقدم. والل
ه أعلم.الجزء الرابع
من صلاة أهل الأعذار إلى الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم
باب صلاة أهل الأعذار
سُئِلَ شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ رحمه اللّه ـ عن رجل شيخ كبير وقد انحلت أعضاؤه، لا يستطيع أن يأكل أو يشرب، ولا يتحرك، ولا يستنجي بالماء، وإذا سجد ما يستطيع الرفع، فكيف يصلي؟
فأجاب:
أما الصلاة: فإنه يفعل ما يقدر عليه، ويصلي قاعـدًا إذا لم يستطع القيام، ويومئ برأسه إيماء بحسب حاله. وإن سجد على فخذه جاز، ويمسح بخرقة إذا تخلى، ويوضئه غيره إذا أمكن، ويجمع بين الصلاتين فيوضيه في آخر وقت الظهر، فيصلي الظهر والعصر بلا قصر، ثم إذا دخل وقت المغرب، صلى المغرب والعشاء، ويوضيه الفجر.
وإن لم يستطع الصلاة قاعدًا، صلى على جنبه، ووجهه إلى القبلة،/ وإن لم يكن عنده من يوضئه ولا ييممه، صلى على حسب حاله، سواء كان على قفاه ورجلاه إلى القبلة، أو على جنبه ووجهه إلى القبلة.
وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة صلى إلى أي جهة توجه، شرقًا، أو غربًا، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
وسئل شيخ الإسلام: هل تجوزصلاة المرأة قاعدة مع قدرتها على القيام؟
فأجاب:
فصل
وأما صلاة الفرض قاعدًا مع القدرة على القيام، فلا تصح، لا من رجل ولا امرأة، بل قد قال النبي صلىالله عليه وسلم: (صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك).
ولكن يجوز التطوع جالسًا، ويجوز التطوع على الراحلة في السفر قبل أي جهة توجهت بصاحبها، فإن النبي صلىالله عليه وسلم كان / يصلي على دابته قبل أي جهة توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
ويجوز للمريض إذا شق عليه القيام أن يصلي قاعدًا، فإن لم يستطع صلى على جنبه، وكذلك إذا كان رجل لا يمكنه النزول إلى الأرض، صلى على راحلته، والخائف من عدوه إذا نزل يصلي على راحلته. والله أعلم.
وسئل شيخ الإسلام:
هل القصر في السفر سنة أو عزيمة؟ وعن صحة الحديث الذي رواه الشافعي عن إبراهيم ابن محمد، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة، قالت: كل ذلك قد فعل النبي صلىالله عليه وسلم قصر الصلاة وأتم.
فأجاب:
أما القصر في السفر: فهو سنة النبي صلىالله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين؛ فإن النبي صلىالله عليه وسلم لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، وكذلك أبو بكر وعمر، وكذلك عثمان في السنة / الأولى من خلافته، لكنه في السنة الثانية أتمها بمنى لأعذار مذكورة في غير هذا الموضع.
وأما الحديث المذكور: فلا ريب أنه خطأ على عائشة. وإبراهيم بن محمد هو ابن أبي يحيى المدني القدري. وهو وطلحة بن عمرو المكي ضعيفان، باتفاق أهل الحديث لا يحتج بواحد منهما فيما هو دون هذا. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. وقيل لعروة: فلم أتمت عائشة الصلاة؟ قال: تأولت، كما تأول عثمان. فهذه عائشة تخبر بأن صلاة السفر ركعتان، وابن أختها عروة أعلم الناس بها يذكر أنها أتمت بالتأويل، لم يكن عندها بذلك سنة. وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصـلاة الفطـر ركعتان، وصـلاة الأضحى ركعتان، تمام غـير قصر على لسان نبيكم.
وأيضًا، فإن المسلمين قد نقلوا بالتواتر أن النبي صلىالله عليه وسلم لم يصل في السفر إلا ركعتين، ولم ينقل عنـه أحد أنه صلى أربعًا قط، ولكن الثابت عنه أن صام في السفر وأفطر، وكان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر.
/وأما القصر: فكل الصحابة كانوا يقصرون، منهم أهل مكة، وغير أهل مكة بمنى وعرفة وغيرهما، وقد تنازع العلماء في التربيع: هل هو محرم أو مكروه؟ أو ترك للأولى أو مستحب؟ أو هما سواء؟ على خمسة أقوال:
أحدها: قول من يقول: إن الإتمام أفضل، كقول للشافعي.
والثاني: قول من يسوى بينهما، كبعض أصحاب مالك.
والثالث: قول من يقول: القصر أفضل، كقول الشافعي الصحيح، وإحدى الروايتين عن أحمد.
والرابع: قول من يقول: الإتمام مكروه، كقول مالك في إحدى الروايتين، وأحمد في الرواية الأخرى.
والخامس: قول من يقول: إن القصر واجب، كقول أبي حنيفة ومالك في رواية.
وأظهر الأقوال قول من يقول: إنه سنة، وإن الإتمام مكروه؛ ولهذا لا تجب نية القصر عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في أحد القولين عنه في مذهبه.
/ وسئل: هل لمسافة القصر قدر محدود عن الشارع صلىالله عليه وسلم؟
فأجاب:
السنة أن يقصر المسافر الصلاة، فيصلي الرباعية ركعتين. هكذا فعل رسول الله صلىالله عليه وسلم في جميع أسفاره. هو وأصحابه، ولم يصل في السفر أربعًا قط. وما روي عنه: أنه صلى في السفر أربعًا في حياته. فهو حديث باطل عند أئمة الحديث.
وقد تنازع العلماء في المسافر إذا صلى أربعًا. فقيل: لا يجوز ذلك كما لا يجوز أن يصلي الفجر والجمعة والعيد أربعًا، وقيل: يجوز، ولكن القصر أفضل عند عامتهم ـ ليس فيه إلا خلاف شاذ، ولا يفتقر القصر إلى نية، بل لو دخل في الصلاة وهو ينوي أن يصلي أربعًا؛ اتباعًا لسنة رسول الله صلىالله عليه وسلم، وقد كان صلى الله عليه وسلم لما حج بالمسلمين حجة الوداع يصلي بهم ركعتين ركعتين، إلى أن رجع، وجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة، والمسلمون خلفه، ويصلي بصلاته أهل مكة وغيرهم: جمعًا وقصرًا. ولم يأمر أحدًا أن ينوى لا جمعًا ولا قصرًا.
/وأقام بمنى يوم العيد، وأيام منى، يصلي بالمسلمين ركعتين ركعتين، والمسلمون خلفه. يصلي بصلاته أهل مكة وغيرهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، ولم يأمر النبي صلىالله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر أحدًا مـن أهل مكـة أن يصلي أربعًا، لا بمنى ولا بغيرها؛ فلهذا كان أصح قولي العلماء أن أهل مكة يجمعون بعرفة ومزدلفة، ويقصرون بها وبمنى. وهذا قول عامة فقهاء الحجاز، كمالك، وابن عيينة، وهو قول إسحاق بن راهويه واختيار طائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد، كأبي الخطاب في عباداته.
وقد قيل: يجمعون ولا يقصرون، وهو قول أبي حنيفة، وهو المنصوص عن أحمد. وقيل: لا يقصرون، ولا يجمعون، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو أضعف الأقوال.
والصواب المقطوع به أن أهل مكة يقصرون، ويجمعون هناك، كما كانوا يفعلون هناك مع النبي صلىالله عليه وسلم وخلفائه، ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه قال لهم هناك: (أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر). ولكن نقل أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى بهم داخل مكة. وكذلك كان عمر يأمر أهل مكة بالإتمام إذا صلى بهم في البلد، وأما بمنى، فلم يكن يأمرهم بذلك.
/وقد تنازع العلماء في قصر أهل مكة خلفه فقيل: كان ذلك لأجل النسك، فلا يقصر المسافر سفرًا قصيرًا هناك. وقيل: بل كان ذلك لأجل السفر، وكلا القولين قاله بعض أصحاب أحمد. والقول الثاني هو الصواب، وهو أنهم قصروا لأجل سفرهم، ولهذا لم يكونوا يقصرون بمكة، وكانوا محرمين، والقصر معلق بالسفر وجودًا وعدمًا، فلا يصلي ركعتين إلا مسافر، وكل مسافر يصلي ركعتين، كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه? ـ: صلاة المسافر ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة النحر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير نقص. أي: غير قصر على لسان نبيكم صلىالله عليه وسلم. وفي الصحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر.
وقد تنازع العلماء: هل يختص بسفر دون سفر؟ أم يجوز في كل سفر؟ وأظهر القولين أنه يجوز في كل سفر قصيرًا كان أو طويلا، كما قصر أهل مكة خلف النبي صلىالله عليه وسلم بعرفة ومنى، وبين مكة وعرفة نحو بريد: أربع فراسخ.
وأيضًا، فليس الكتاب والسنة يخصان بسفر دون سفر، لا بقصر ولا بفطر، ولا تيمم. ولم يحد النبي صلىالله عليه وسلم مسافة القصر بحد، لا زماني، ولا مكاني. والأقوال المذكورة في ذلك متعارضة، / ليس على شيء منها حجة، وهي متناقضة، ولا يمكن أن يحد ذلك بحد صحيح.
فإن الأرض لا تذرع بذرع مضبوط في عامة الأسفار، وحركة المسافر تختلف. والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع صلىالله عليه وسلم، ويقيد ما قيده، فيقصر المسافر الصلاة في كل سفر، وكذلك جميع الأحكام المتعلقة بالسفر من القصر والصلاة على الراحلة، والمسح على الخفين.
ومن قسم الأسفار إلى قصير وطويل، وخص بعض الأحكام بهذا وبعضها بهذا، وجعلها متعلقة بالسفر الطويل، فليس معه حجة يجب الرجوع إليها. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
إذا سافر إنسان سفرًا مقدار ثلاثة أيام، أو ثلاثة فراسخ: هل يباح له الجمع والقصر أم لا؟
فأجاب:
وأما الجمع والقصر في السفر القصير: ففيه ثلاثة أقوال، بل أربعة، بل خمسة في مذهب أحمد:
/أحدها: أنه لا يباح الجمع، ولا القصر.
والثاني: يباح الجمع دون القصر.
والثالث: يباح الجمع بعرفة ومزدلفة خاصة للمكى، وإن كان سفره قصيرًا.
والرابع: يباح الجمع والقصر بعرفة ومزدلفة.
والخامس: يباح ذلك مطلقًا. والذي يجمع للسفر: هل يباح له الجمع مطلقًا، أو لا يباح إلا إذا كـان مسافرًا؟ فيـه روايتان عـن أحمد مقيمًا أو مسافرًا، ولهذا نص أحمـد على أنـه يجمع إذا كان له شغل. قال القاضي أبو يعلى: كل عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة يبيح الجمع، ولهذا يجمع للمطر، والوحل، وللريح الشديدة الباردة؛ في ظاهر مذهب الإمام أحمد، ويجمع المريض والمستحاضة والمرضع، فإذا جد السير بالمسافر، جمع سواء كان سفره طويلاً أو قصيرًا، كما مضت سنة رسول الله صلىالله عليه وسلم. يجمع الناس بعرفة ومزدلفة، المكي وغير المكي، مع أن أهل مكة سفرهم قصير.
وكذلك جمع صلىالله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون بعرفة ومزدلفة ومتى قصروا يقصر خلفهم أهل مكـة، وغير أهـل مكـة، وعرفة مـن مكـة / بريد: أربعـة فراسخ؛ ولهذا قـال مالك وبعض أصحاب أحمد ـ كأبي الخطاب ـ في العبادات الخمس: إن أهل مكة يقصرون بعرفة ومزدلفة، وهذا القول هو الصواب، وإن كان المنصوص عن الأئمة الثلاثة بخلافه: أحمد والشافعي وأبي حنيفة.
ولهذا قال طائفة أخرى من أصحاب أحمد وغيرهم: إنه يقصر في السفر الطويل والقصير؛ لأن النبي صلىالله عليه وسلم لم يوقت للقصر مسافة، ولا وقتًا، وقد قصر خلفه أهل مكة بعرفة ومزدلفة، وهذا قول كثير من السلف والخلف، وهو أصح الأقوال في الدليل. ولكن لابد أن يكون ذلك مما يعد في العرف سفرًا، مثل أن يتزود له، ويبرز للصحراء، فأما إذا كان في مثل دمشق، وهو ينتقل من قراها الشجرية من قرية إلى قرية، كما ينتقل من الصالحية إلى دمشق، فهذا ليس بمسافر، كان أن مدينة النبي صلىالله عليه وسلم كانت بمنزلة القرى المتقاربة عند كل قوم نخيلهم ومقابرهم ومساجدهم، قباء وغير قباء، ولم يكن خروج الخارج إلى قباء سفرًا، ولهذا لم يكن النبي صلىالله عليه وسلم وأصحابه يقصرون في مثل ذلك، فإن الله تعالى قال: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبـة: 101]، فجميع الأبنيـة تدخل في مسمى المدينة، وما خرج عن أهلها، فهو من الأعراب أهل العمود. والمنتقل من المدينة من ناحية إلى ناحية، ليس بمسافر، ولا يقصر الصلاة، ولكن هذه مسائل اجتهاد،/فمن فعل منها بقول بعض العلماء، لم ينكر عليه، ولم يهجر.
وهكذا اختلفوا في الجمع والقصر: هل يشترط له نية؟ فالجمهور لا يشترطون النية، كمالك، وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وهو مقتضى نصوصه.
والثاني: تشترط، كقول الشافعي، وكثير من أصحاب أحمد، كالخرقي وغيره، والأول أظهر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه.
وسئل عن سفر يوم من رمضان: هل يجوز أن يقصر فيه ويفطر أم لا؟
فأجاب:
هذا فيه نزاع بين العلماء، والأظهر أنه يجوز له القصر والفطر في يوم من رمضان، كما قصر أهل مكة خلف النبي صلىالله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة، وعرفة عن المسجد الحرام مسيرة بريد؛ ولأن السفر مطلق في الكتاب والسنة.
/ وسئل عن رجل مسافر إلى بلد، ومقصوده أن يقيم مدة شهر أو أكثر: فهل يتم الصلاة أم لا؟
فأجاب:
إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها، قصر الصلاة، كما فعل النبي صلىالله عليه وسلم لما دخل مكة، فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة. وإن كان أكثر ففيه نزاع. والأحوط أن يتم الصلاة.
وأما إن قال: غدًا أسافر، أو بعد غد أسافر، ولم ينو المقام، فإنه يقصر أبدًا. فإن النبي صلىالله عليه وسلم أقام بمكة بضعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. والله أعلم.
وسئل عن رجل جرد إلى الخربة لأجل الحمى وهو يعلم أنه يقيم مدة شهرين. فهل يجوز له القصر؟ وإذا جاز القصر، فالإتمام أفضل أم القصر؟
/فأجاب:
الحمد لله، هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء، منهم من يوجب الإتمام، ومنهم مـن يوجب القصر، والصحيح أن كلاهما سائغ. فمن قصر لا يُنكر عليه، ومن أتم لا يُنكر عليه.
وكذلك تنازعوا في الأفضل: فمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط، فالإتمام أفضل. وأما من تبينت له السنة، وعلم أن النبي صلىالله عليه وسلم لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو بمكان، ولا حد الإقامة ـ أيضًا ـ بزمن محدود، لا ثلاثة ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا خمسة عشر، فإنه يقصر. كما كان غير واحد من السلف يفعل، حتى كان مسروق قد ولوه ولاية لم يكن يختارها فأقام سنين يقصر الصلاة.
وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة، وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام، ولا أكثر. كما أقام النبي صلىالله عليه وسلم وأصحابه بعد فتح مكة قريبًا من عشرين يومًا يقصرون الصلاة، وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون في رمضان. وكان النبي صلىالله عليه وسلم لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام. وإذا كان التحديد لا أصل له، فما دام المسافر مسافرًا يقصر الصلاة، ولو أقام في مكان شهورًا. والله أعلم. كتبه: أحمد بن تيمية.
/ وسئل: هل الجمع بين الصلاتين في السفر أفضل أم القصر؟ وما أقوال العلماء في ذلك؟ وما حجة كل منهم؟ وما الراجح من ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، بل فعل كل صلاة في وقتها أفضل، إذا لم يكن به حاجة إلى الجمع، فإن غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصليها في السفر إنما يصليها في أوقاتها. وإنما كان الجمع منه مرات قليلة.
وفَرَّق كثير من الناس بين الجمع والقصر، وظنهم أن هذا يشرع سنة ثابتة، والجمع رخصة عارضة، وذلك أن النبي صلىالله عليه وسلم في جميع أسفاره كان يصلي الرباعية ركعتين، ولم ينقل أحد أنه صلى في سفره الرباعية أربعًا، بل وكذلك أصحابه معه.
والحديث الذي يروى عن عائشة: أنها أتمت معه وأفطرت، حديث ضعيف، بل قد ثبت عنها في الصحيح: أن الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر، وأقرت / صلاة السفر. وثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلىالله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101] فإن نفي الجناح لبيان الحكم، وإزالة الشبهة، لا يمنع أن يكون القصر هو السنة. كما قال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، نفي الجناح لأجل الشبهة التي عرضت لهم من الطواف بينهما؛ لأجل ما كانوا عليه في الجاهلية من كراهة بعضهم للطواف بينهما، والطواف بينهما مأمور به باتفاق المسلمين، وهو إما ركن، وإما واجب، وإما سنة مؤكدة.
وهو ـ سبحانه ـ ذكر الخوف والسفر؛ لأن القصر يتناول قصر العدد وقصر الأركان، فالخوف يبيح قصر الأركان، والسفر يبيح قصر العدد. فإذا اجتمعا، أبيح القصر بالوجهين، وإن انفرد السفر، أبيح أحد نوعي القصر. والعلماء متنازعون في المسافر: هل فرضه الركعتان؟ ولا يحتاج قصره إلى نية؟ أم لا يقصر إلا بنية؟ على قولين:
/والأول: قول أكثرهم، كأبي حنيفة، ومالك، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، اختاره أبو بكر وغيره.
والثاني: قول الشافعي، وهو القول الآخر في مذهب أحمد، اختاره الخِرَقي وغيره.
والأول هو الصحيح الذي تدل عليه سنة النبي صلىالله عليه وسلم، فإنه كان يقصر بأصحابه، ولا يعلمهم قبل الدخول في الصلاة أنه يقصر، ولا يأمرهم بنية القصر. ولهذا لما سلم من ركعتين ناسيًا قال له ذو اليدين:أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: (لم أنس،ولم تقصر). قال: بلى! قد نسيت. وفي رواية: (لو كان شيء لأخبرتكم به). ولم يقل: لو قصرت لأمرتكم أن تنووا القصر. وكذلك لما جمع بهم لم يعلمهم أنه جمع قبل الدخول، بل لم يكونوا يعلمون أنه يجمع حتى يقضي الصلاة الأولى، فعلم ـ أيضًا ـ أن الجمع لا يفتقر إلى أن ينوى حين الشروع في الأولى، كقول الجمهور. والمنصوص عن أحمد يوافق ذلك.
وقد تنازع العلماء في التربيع في السفر: هل هو حرام أو مكروه؟ أو ترك الأولى أو هو الراجح؟ فمذهب أبي حنيفة، وقول في مذهب مالك: أن القصر واجب، وليس له أن يصلي أربعًا./ ومذهب مالك في الرواية الأخرى وأحمد في أحد القولين ـ بل أنصهما ـ أن الإتمام مكروه.ومذهبه في الرواية الأخرى ومذهب الشافعي في أظهر قوليه: أن القصر هو الأفضل،والتربيع ترك الأولى.وللشافعي قول أن التربيع أفضل، وهذا أضعف الأقوال.
وقد ذهب بعض الخوارج إلى أنه لا يجوز القصر إلا مع الخوف، ويذكر هذا قولا للشافعي، وما أظنه يصح عنه، فإنه قد ثبت ـ بالسنة المتواترة ـ: أن النبي صلىالله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه بمنى ركعتين ركعتين آمن ما كان الناس. وكذلك بعده أبو بكر، وكذلك بعده عمر.
وإذا كان كذلك فكيف يسوى بين الجمع والقصر؟! وفعل كل صلاة في وقتها أفضل، إذا لم يكن حاجة عند الأئمة كلهم، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبيهما، بل تنازعوا في جواز الجمع على ثلاثة أقوال.
فمذهب أبي حنيفة: أنه لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة. ومذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين: أنه لا يجمع المسافر إذا كان نازلاً، وإنما يجمع إذا كان سائرًا. بل عند مالك إذا جد به السير. ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: أنه يجمع المسافر، وإن كان نازلاً.
/وسبب هذا النزاع ما بلغهم من أحاديث الجمع، فإن أحاديث الجمع قليلة، فالجمع بعرفة ومزدلفة متفق عليه، وهو منقول بالتواتر فلم يتنازعوا فيه. وأبو حنيفة لم يقل بغيره لحديث ابن مسعود الذي في الصحيح أنه قال: ما رأيت رسول الله صلىالله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة، وصلاة المغرب ليلة جمع. وأراد بقوله: (في الفجر لغير وقتها) التي كانت عادته أن يصليها فيه، فإنه جاء في الصحيح عن جابر: أنه صلى الفجر بمزدلفة بعد أن برق الفجر. وهذا متفق عليه بين المسلمين أن الفجر لا يصلي حتى يطلع الفجر، لا بمزدلفة ولا غيرها، لكن بمزدلفة غَلَسَ بها تغليسًا شديدًا.
وأما أكثر الأئمة: فبلغتهم أحاديث في الجمع صحيحة، كحديث أنس وابن عباس وابن عمر ومعاذ وكلها من الصحيح. ففي الصحيحين عن أنس: أن النبي صلىالله عليه وسلم، كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فصلاهما جميعًا. وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر ثم ركب. وفي لفظ في الصحيح: كان النبي صلىالله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر، أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع بينهما. وفي الصحيحين عن ابن عمر: أن النبي صلىالله عليه وسلم كان إذا عَجِل به السير، جمع بين المغرب والعشاء. وفي لفظ في الصحيح: أن / ابن عمر كان إذا جد به السير، جمع بين المغرب والعشاء، بعد أن يغيب الشفق. ويقول: إن رسول الله صلىالله عليه وسلم كان إذا جد به السير، جمع بين المغرب والعشاء.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن النبي صلىالله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته. وكذلك في صحيح مسلم عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل قال: جمع رسول الله صلىالله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. قال: فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته. بل قد ثبت عنه أنه جمع في المدينة كما في الصحيحين عن ابن عباس قال: صلى لنا رسول الله صلىالله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا من غير خوف ولاسفر. وفي لفظ في الصحيحين عن ابن عباس: أن النبي صلىالله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا، جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال أيوب: لعله في ليلة مطيرة. وكان أهل المدينة يجمعون في الليلة المطيرة بين المغرب والعشاء، ويجمع معهم عبد الله بن عمر. وروى ذلك مرفوعًا إلى النبي صلىالله عليه وسلم. وهذا العمل من الصحابة.
/قولهم: [أراد ألا يحرج أمته] يبين أنه ليس المراد بالجمع تأخير الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الثانية في أول وقتها. فإن مراعاة مثل هذا فيه حرج عظيم. ثم إن هذا جائز لكل أحد في كل وقت، ورفع الحرج إنما يكون عند الحاجة، فلابد أن يكون قد رخص لأهل الأعذار فيما يرفع به عنهم الحرج، دون غير أرباب الأعذار.
وهذا ينبني على أصل كان عليه رسول الله صلىالله عليه وسلم وهو: أن المواقيت لأهل الأعذار ثلاثة، ولغيرهم خمسة. فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]. فذكر ثلاثة مواقيت. والطرف الثاني يتناول الظهر والعصر. والزلف يتناول المغرب والعشاء. وكذلك قال: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]. والدلوك هو الزوال، في أصح القولين. يقال: دلكت الشمس، وزالت، وزاغت، ومالت. فذكر الدلوك والغسق وبعد الدلوك يصلي الظهر والعصر، وفي الغسق تصلى المغرب والعشاء، ذكر أول الوقت وهو الدلوك، وآخر الوقت وهو الغسق، والغسق اجتماع الليل وظلمته.
ولهذا قال الصحابة ـ كعبد الرحمن بن عوف وغيره ـ: إن المرأة الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر، صلت المغرب والعشاء. وإذا طهرت قبل غروب الشمس، صلت الظهر والعصر. وهذا مذهب جمهور الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد.
/وأيضًا، فجمع النبي صلىالله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة يدل على جواز الجمع بغيرهما للعذر، فإنه قد كان من الممكن أن يصلي الظهر ويؤخر العصر إلى دخول وقتها، ولكن لأجل النسك والاشتغال بالوقوف قدم العصر. ولهذا كان القول المرضي عند جماهير العلماء: أنه يجمع بمزدلفة وعرفة من كان أهله على مسافة القصر، ومن لم يكن أهله كذلك، فإن النبي صلىالله عليه وسلم لما صلى صلى معه جميع المسلمين أهل مكة وغيرهم، ولم يأمر أحدًا منهم بتأخير العصر، ولا بتقديم المغرب، فمن قال من أصحاب الشافعي وأحمد: إن أهل مكة لا يجمعون، فقوله ضعيف في غاية الضعف. مخالف للسنة البينة الواضحة التي لا ريب فيها، وعذرهم في ذلك أنهم اعتقدوا أن سبب الجمع هو السفر الطويل، والصواب أن الجمع لا يختص بالسفر الطويل، بل يجمع للمطر، ويجمع للمرض، كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة، فإن النبي صلىالله عليه وسلم أمرها بالجمع في حديثين.
وأيضًا، فكون الجمع يختص بالطويل، فيه قولان للعلماء، وهما وجهان في مذهب أحمد:
أحدهما: يجمع في القصر، وهو المشهور، ومذهب الشافعي لا.
والأول أصح لما تقدم. والل