باب صلاة الجمعة
وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية إلى من يصل إليه كتابه من المؤمنين والمسلمين من أهل البحرين، وغيرهم عامة، ولأهل العلم والدين خاصة: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. وأسأله أن يصلي على خيرته من خلقه: محمد عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه، الذي بعثه بالبينات والهدي، ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفي بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
/أما بعد، فإن وفدًا قدموا من نحو أرضكم، فأخبرونا بنحو مما كنا نسمع عن أهل ناحيتكم من الاعتصام بالسنة والجماعة، والتزام شريعة الله التي شرعها على لسان رسوله، ومجانبة ما عليه كثير من الأعراب من الجاهلية التي كانوا عليها قبل الإسلام؛ من سفك بعضهم دماء بعض، ونهب أموالهم، وقطيعة الأرحام، والانسلال عن ربقة الإسلام، وتوريث الذكور دون الإناث، وإسبال الثياب، والتعزي بعزاء الجاهلية. وهو قولهم: يا لبني فلان، أو: يا لفلان. والتعصب للقبيلة بالباطل، وترك ما فرضه الله في النكاح من العدة ونحوها، ثم ما زينه الشيطان لفريق منهم من الأهواء التي باينوا بها عقائد السابقين الأولىن من المهاجرين والأنصار، وخالفوا شريعة الله لهم من الاستغفار للأولين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]. ووقعوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقيعة التي لا تصدر ممن وقر الإيمان في قلبه.
فالحمد لله الذي عافـانا وإيـاكم مما ابتلي به كثيرًا من خلقه، وفضـلنا على كثير ممـن خلـق تفضيلا، ونسأل الله العظيم المنان بديع السموات والأرض أن يتمم علينا وعليكم نعمته ويوفقنا وإياكم لما يحب ويرضاه من القول والعمل، ويجعلنا من التابعين بإحسان للسابقين الأولين.
/وليس هذا ببدع.فإن أهل البحرين ما زالوا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل إسلام وفضل، قد قدم وفدهم من عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وفيهم الأشج ـ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مرحبًا بالوفد. غير خزايا ولا ندامى). فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإن لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نعمل به ونأمر به من وراءنا: فقال: (آمركم بالإيمان بالله. أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم).ولم يكن قد فرض الحج إذ ذاك، وقال للأشج: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم، والأناءة) قال: خلقين: تخلقتُ بهما أو خلقين جُبِلتُ عليهما؟ قال: (خلقين جبلتَ عليهما)، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله.
ثم إنهم أقاموا الجمعة بأرضهم، فأول جمعة جمعت في الإسلام ـ بعد جمعة المدينة ـ جمعة بجُؤَاثي قرية من قرى البحرين.
ثم إنهم ثبتوا على الإسلام لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب، وقاتل بهم أميرهم العلاء بن الحضرمي ـ الرجل الصالح ـ أهل الردة، ولهم في السيرة أخبار حسان. / فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يوفق آخرهم، لما وفق له أولهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وقد حدثنا بعض الوفد: أنهم كانوا يجمعون ببعض أرضكم،ثم إن بعض أهل العراق أفتاهم بترك الجمعة، فسألناه عن صفة المكان، فقال: هنالك مسجد مبني بمدر، وحوله أقوام كثيرون، مقيمون مستوطنون لا يظعنون عن المكان، شتاء ولا صيفًا، إلا أن يخرجهم أحد بقهر، بل هم وآباؤهم وأجدادهم مستوطنون بهذا المكان، كاستيطان سائر أهل القري، لكن بيوتهم ليست مبنية بمدر، إنما هي مبنية بجريد النخل، ونحوه.
فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن مثل هذه الصورة تقام فيها الجمعة. فإن كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفًا، تقام فيه الجمعة، إذ كان مبنيا بما جرت به عادتهم؛ من مدر، وخشب، أو قصب، أو جريد، أو سعف، أو غير ذلك. فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك، إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر، ويتنقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا. وهذا مذهب جمهور العلماء.
/وبقصة أرضكم احتج الجمهور على أبي حنيفة ـ حيث قال:لا تقام الجمعة في القرى ـ بالحديث المأثور عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة بالبحرين بقرية يقال لها:جؤاثي من قري البحرين. وبأن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ وكان عامل عمر ـ رضي الله عنه على البحرين فكتب إلى أمير المؤمنين عمر يستأذنه في إقامة الجمعة بقري البحرين، فكتب إليه عمر: أقيموا الجمعة حيث كنتم.
ولعل الذين قالوا لكم: إن الجمعة لا تقام، قد تقلدوا قول من يري الجمعة لا تقام في القري، أو اعتقدوا أن معني قول الفقهاء في الكتب المختصرة: [إنما تقام بقرية مبنية بناء متصلاً أو متقاربًا، بحيث يشمله اسم واحد، فاعتقدوا أن البناء لا يكون إلا بالمدر من طين أو كلس أو حجارة أو لبن، وهذا غلط منهم، بل قد نص العلماء على أن البناء إنما يعتبر بما جرت به عادة أولئك المستوطنين، من أي شيء كان: قصب أو خشب ونحوه.
ولهذا،فالعلماء الأئمة إنما فرقوا بين الأعراب أهل العمد،وبين المقيمين، بأن أولئك يتنقلون ولا يستوطنون بقعة،بخلاف المستوطنين.وقد كان قوم من السلف يبنون لهم بيوتًا من قصب،والنبي صلى الله عليه وسلم سقف مسجده بجريد النخل،حتى كان يكف المسجد /إذا نزل المطر. قالوا:يا رسول الله،لو بنينا لك ـ يعنون بناء مشيدًا ـ فقال:(بل عريش كعريش موسى).
وقد نص على مسألتكم بعينها ـ وهي البيوت المصنوعة من جريد أو سعف ـ غير واحد من العلماء، منهم أصحاب الإمام أحمد كالقاضي أبي يعلى، وأبي الحسن الآمدي، وابن عقيل، وغيرهم. فإنهم ذكروا أن كل بيوت مبنية من آجر أو طين أو حجارة أو خشب أو قصب أو جريد أو سعف، فإنه تقام عندهم الجمعة، وكذلك ذكرها غير واحد من أصحاب الشافعي ـ رضي الله عنهم ـ من الخراسانيين، كصاحب [الوسيط] فيما أظن، ومن العراقيين ـ أيضًا ـ أن بيوت السعف تقام فيها الجمعة.
وخالف هؤلاء الماوردي في [الحاوي]، فذكر أن بيوت القصب والجريد لا تقام فيها الجمعة، بل تقام في بيوت الخشب الوثيقة. وهذا الفرق ضعيف، مخالف لما عليه الجمهور والقياس، ولما دلت عليه الآثار وكلام الأئمة. فإن أبا هريرة كتب إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ يسأله عن الجمعة ـ وهو بالبحرين ـ فكتب إليه عمر بن الخطاب: أن جَمِّعوا حيثما كنتم. وذهب الإمام أحمد إلى حديث عمر هذا.
وعن نافع أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان يمر بالمياه التي / بين مكة والمدينة وهم يجمعون في تلك المنازل، فلا ينكر عليهم. فهذا عمر يأمر أهل البحرين بالتجميع حيث استوطنوا، مع العلم بأن بعض البيوت تكون من جريد، ولم يشترط بناء مخصوصًا. وكذلك ابن عمر أقر أهل المنازل التي بين مكة والمدينة على التجميع، ومعلوم أنها لم تكن من مدر، وإنما هي إما من جريد أو سعف.
وقال الإمام أحمد: ليس على البادية جمعة؛ لأنهم ينتقلون. فعلل سقوطها بالانتقال، فكل من كان مستوطنًا لا ينتقل باختياره فهو من أهل القري، والفرق بين هؤلاء وبين أهل الخيام من وجهين:
أحدهما: أن أولئك في العادة الغالبة لا يستوطنون مكانا بعينه، وإن استوطن فريق منهم مكانًا، فهم في مظنة الانتقال عنه، بخلاف هؤلاء المستوطنين الذين يحترثون، ويزدرعون، ولا ينتقلون. إلا كما ينتقل أهل أبنية المدر؛ إما لحاجة تعرض، أو ليد غالبة تنقلهم، كما تفعله الملوك مع الفلاحين.
الثاني: أن بيوت أهل الخيام ينقلونها معهم إذا انتقلوا، فصارت من المنقول لا من العقار، بخلاف الخشب والقصب والجريد، فإن أصحابها لا ينقلونها ليبنوا بها في المكان الذي ينتقلون إليه، وإنما يبنون / في كل مكان بما هو قريب منه، مع أن هذا ليس موضع استقصاء الأدلة في المسألة. وهذه المسألة ـ إقامة الجمعة بالقري ـ أول ما ابتدأت من ناحيتكم، فلا تقطعوا هذه الشريعة من أرضكم. فإن الله يجمع لكم جوامع الخير.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله وجمع لنا ولكم خـير الدنيا والآخـرة ـ أن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحـق، وأنزل عليه الكتاب، وكان قد بعث إلى ذوي أهواء متفرقة، وقلوب متشتتة، وآراء متباينة، فجمع به الشمل، وألف به بين القلوب، وعصم به من كيد الشيطان.
ثم إنه ـ سبحانه وتعالى ـ بين أن هذا الأصل ـ وهو الجماعة ـ عماد لدينه. فقال ـ سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عليكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 102ـ 107]. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ كيف دعا الله إلى الجماعة، ونهى عن الفرقة. وقال في الآية الأخري: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. فبرأ نبيه صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كما نهانا عن التفرق، والاختلاف، بقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105].
وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم من المجادلة ما يفضي إلى الاختلاف والتفرق، فخرج على قوم من أصحابه وهم يتجادلون في القدر، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، وقال: (أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض) قال عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ: فما اغبط نفسي كما غبطتها، ألا أكون في ذلك المجلس، روي هذا الحديث أبو داود في سننه، وغيره، وأصله في الصحيحين، والحديث المشهور عنه صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها أنه قال صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة، / كلهم في النار إلا واحدة) قيل: يا رسول الله، ومن هي؟قال:(من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).وفي رواية: (هي الجماعة)، وفي رواية: (يد الله على الجماعة). فوصف الفرقة الناجية بأنهم المستمسكون بسنته، وأنهم هم الجماعة.
وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة، وأخوة الدين. نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع.
فعائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأي ربه، وقالت: من زعم أن محمدًا رأي ربه فقد أعظم على الله ـ تعالى ـ الفرية. وجمهور الأمة على قول ابن عباس، مع أنهم لا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين ـ رضي الله عنها. وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي، لما قيل لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:/ (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، فقالت: إنما قال: إنهم ليعلمون الآن أن ما قلت لهم حق. ومع هذا، فلا ريب أن الموتي يسمعون خفق النعال، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام). صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من الأحاديث. وأم المؤمنين تأولت، والله يرضي عنها. وكذلك معاوية نقل عنه في أمر المعراج أنه قال: إنما كان بروحه، والناس على خلاف معاوية ـ رضي الله عنه ـ ومثل هذا كثير.
وأما الاختلاف في [الأحكام]، فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بني قريظة: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) فأدركتهم العصر في الطريق، فقال قوم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وفاتتهم العصر. وقال قوم: لم يرد منا تأخير الصلاة، فصلوا في الطريق، فلم يعب واحدًا من الطائفتين. أخرجاه في الصحيحين، من حديث ابن عمر. وهذا، وإن كان في الأحكام فما لم / يكن من الأصول المهمة، فهو ملحق بالأحكام.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟) قالوا: بلي يا رسول الله، قال: (صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين). رواه أبو داود من حديث الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه.
وصح عنه أنه قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)
نعم، صح عنه أنه هجر كعب بن مالك، وصاحبيه ـ رضي الله عنهم ـ لما تخلفوا عن غزوة تبوك، وظهرت معصيتهم، وخيف عليهم النفاق، فهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم، حتى أمرهم باعتزال أزواجهم من غير طلاق خمسين ليلة، إلى أن نزلت توبتهم من السماء. وكذلك أمر عمر ـ رضي الله عنه ـ المسلمين بهجر صَبِيغ بن عسل التميمي، لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب، إلى أن مضي عليه حول، وتبين صدقه في التوبة، فأمر المسلمين بمراجعته. فبهذا ونحوه رأي / المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترًا بمعصية أو مسرًا لبدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر، وإنما يهجر الداعي إلى البدعة؛ إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولا أو عملا.
وأما من أظهر لنا خيرًا، فإنا نقبل علانيته، ونَكِل سريرته إلى الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، لما جاؤوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون.
ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة: كمالك وغيره، لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه، بخلاف الساكت، وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رمي ببدعة من الساكتين، ولم يخرجوا عن الدعاة إلى البدع.
والذي أوجب هذا الكلام، أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم، حتى ذكروا: أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والله هو المسؤول أن يؤلف بين قلوبنا وقلوبكم، ويصلح ذات بيننا، ويهدينا سبل السلام، ويخرجنا /من الظلمات إلى النور، ويجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا ما أبقانا، ويجعلنا شاكرين لنعمه، مثنين بها عليه، قابليها، ويتممها علينا.
وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف في مسألة [رؤية الكفار ربهم] وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد، فالأمر في ذلك خفيف، ثم ذكر الجواب. وتقدم في كتاب [الأسماء والصفات].
/وَقَـال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه:
فصل
تنازع الناس في صلاة الجمعة والعيدين: هل تشترط لهما الإقامة أم تفعل في السفر؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: من شرطهما جميعًا الإقامة، فلا يشرعان في السفر. هذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه.
والثاني: يشترط ذلك في الجمعة دون العيد، وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية عنه.
والثالث: لا يشترط لا في هذا ولا هذا، كما يقوله من يقوله من الظاهرية، وهؤلاء عمدتهم مطلق الأمر، ولقوله: {إِذَا نُودِي} [الجمعة: 9] ونحو ذلك. وزعموا أنه ليس في الشرع ما يوجب الاختصاص بالمقيم. والذين فرقوا بين الجمعة والعيد قالوا: العيد إما نفل،وإما فرض على/ الكفاية،ولا يسقط به فرض آخر كما تسقط الظهر بالجمعة، والنوافل مشروعة للمقيم والمسافر كصلاة الضحي وقيام الليل والسنن الرواتب، وكذلك فرض الكفاية كصلاة الجنائز.
والصواب ـ بلا ريب ـ هو القول الأول، وهو أن ذلك ليس بمشروع للمسافر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسافر أسفارًا كثيرة. قد اعتمر ثلاث عمر سوي عمرة حجته، وحج حجة الوداع ومعه ألوف مؤلفة، وغزا أكثر من عشرين غزاة ولم ينقل عنه أحد قط أنه صلى في السفر لا جمعة ولا عيدًا، بل كان يصلي ركعتين ركعتين في جميع أسفاره، ويوم الجمعة يصلي ركعتين كسائر الأيام، ولم ينقل عنه أحد قط أنه خطب يوم الجمعة وهو مسافر قبل الصلاة لا وهو قائم على قدميه ولا على راحلته، كما كان يفعله في خطبة العيد، ولا على منبر كما كان يخطب يوم الجمعة، وقد كان أحيانًا يخطب بهم في السفر خطبًا عارضة فينقلونها كما في حديث عبد الله بن عمرو ولم ينقل عنه قط أحد أنه خطب يوم الجمعة في السفر قبل الصلاة، بل ولا نقل عنه أحد أنه جهر بالقراءة يوم الجمعة، ومعلوم أنه لو غيَّر العادة فجهر وخطب لنقلوا ذلك، ويوم عرفة خطب بهم ثم نزل فصلى بهم ركعتين، ولم ينقل أحد أنه جهر، ولم تكن تلك الخطبة للجمعة؛/ فإنها لو كانت للجمعة، لخطب في غير ذلك اليوم من أيام الجمع، وإنما كانت لأجل النسك.
ولهذا كان علماء المسلمين قاطبة على أنه يخطب بعرفة وإن لم يكن يوم جمعة. فثبت بهذا النقل المتواتر أنها خطبة لأجل يوم عرفة، وإن لم يكن يوم جمعة، لا ليوم الجمعة، وكذلك ـ أيضًا ـ لم يصل العيد بمني لا هو ولا أحد من خلفائه الراشدين، فقد دخل مكة عام الفتح ودخلها في شهر رمضان فأدرك فيها عيد الفطر، ولم يصل بها يوم العيد صلاة العيد، ولم ينقل ذلك مسلم. ومن المعلوم أنهم لو كان صلى بهم صلاة العيد بمكة مع كثرة المسلمين معه كانوا أكثر من عشرة آلاف، لكان هذا من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، وكذلك بدر كانت في شهر رمضان وأدركه يوم العيد في السفر ولم يصل صلاة عيد في السفر.
وأيضًا، فإنه لم يكن أحد يصلي صلاة العيد بالمدينة إلا معه، كما لم يكونوا يصلون الجمعة إلا معه، وكان بالمدينة مساجد كثيرة لكل دار من دور الأنصار مسجد، ولهم إمام يصلي بهم، والأئمة يصلون بهم الصلوات الخمس، ولم يكونوا يصلون بهم لا جمعة ولا عيدًا. فعلم أن العيد كان عندهم من جنس الجمعة لا من جنس التطوع المطلق، ولا من جنس صلاة الجنازة. وقول القائل: إن صلاة العيد تطوع، ممنوع، / ولو سلم، قيل له: هذه مخصوصة بخصائص لا يشركها فيها غيرها، والسنة مضت بأن المسلمين كلهم يجتمعون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بعده، ولم يكونوا في سائر التطوع يفعلون هذا، وكان يخرج بهم إلى الصحراء، ويكبر فيها، ويخطب بعدها، وهذا مشروع في كل يوم عيد شريعة راتبة، والاستسقاء لم يختص بالصلاة بل كان مرة يستسقي بالدعاء فقط وهو في المدينة، ومرة يخرج إلى الصحراء ويستسقي بصلاة وبغير صلاة، حتى أن من العلماء من لم يعرف في الاستسقاء صلاة كأبي حنيفة، فلما كان الاستسقاء يشرع بغير صلاة ولا خطبة ولآحاد الناس، لم يلحق بالعيد الذي لا يكون إلا بصلاة وخطبة، وهو شريعة راتبة ليس مشروعا لأمر عارض كالكسوف والاستسقاء.
وأيضا، فإن على بن أبي طالب لما استخلف للناس من يصلي العيد بالضعفاء في المسجد الجامع أمره أن يصلي أربع ركعات، كما أن من لم يصل الجمعة، صلى أربعا، ولم يكن الناس يعرفون قبل علي أن يصلي أحد العيد إلا مع الإمام في الصحراء، فإذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، لم يكن فيها صلاة عيد إلا مع الإمام، بطل أن يكون بمنزلة ما كانوا يفعلونه وحدانًا وجماعة.
وأيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعها للنساء بل أمرهن أن يخرجن يوم العيد، حتى أمر بإخراج الحيض،فقالوا له:إن لم / يكن للمرأة جلباب؟ قال: (لتلبسها أختها من جلبابها) وهذا توكيد لخروجهن يوم العيد مع أنه في الجمعة والجماعة قال: (وبيوتهن خير لهن)، وذلك لأنه كان يمكنهن أن يصلين في البيوت يوم الجمعة كسائر الأيام، فيصلين ظهرًا، فلو كانت صلاة العيد مشروعة لهن في البيوت، لأغني ذلك عن توكيد خروجهن.
وأيضا، لو كان ذلك جائزا، لفعله النساء على عهده كما كن يصلين التطوعات. فلما لم ينقل أحد أن أحدا من النساء صلى العيد على عهده في البيت ولا من الرجال، بل كن يخرجن بأمره إلى المصلى، علم أن ذلك ليس من شرعه.
وأيضا، فعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قيل له: إن بالمدينة ضعفاء لا يمكنهم الخروج معك، فلو استخلفت من يصلي بهم؟ فاستخلف من صلى بهم. فلو كان الواحد يفعلها، لم يحتج إلى الاستخلاف الذي لم تمض به السنة ودل ما فعله أمير المؤمنين على على الفرق بين القادر على الخروج إلى المصلي، والعاجز عنه. فالقادر يخرج، والنساء قادرات على الخروج فيخرجن ولا يصلين وحدهن، وكذلك من كان من المسافرين في البلد، فإنه يمكنهم أن يصلوا مع الإمام فلا يصلون وحدهم بإمام، بخلاف الجمعة فإنهم إذا لم يصلوها، صلوا وحدهم، وإذا كانوا في بيوتهم صلوا بإمام كما يصلون في الصحراء، وأما مـن كان / يوم العيد مـريضا أو محبوسا وعادتـه يصلي العيد فهذا لا يمكنـه الخروج، فهؤلاء بمنزلة الذين استخلف على مـن يصلي بهم، فيصلون جماعة وفرادي، ويصلـون أربعا، كما يصلون يوم الجمعة بلا تكبير، ولا جهر بالقراءة، ولا أذان وإقامة؛ لأن العيد ليس له أذان وإقامة، فلا يكون في المبدل عنه، بخلاف الجمعة فإن فيها وفي الظهر أذان وإقامة. والجمعة كل من فاتته، صلى الظهر؛ لأن الظهر واجبة فلا تسقط إلا عمن صلى الجمعة، فلابد لكل من كان من أهل وجوب الصلاة أن يصلي يوم الجمعة: إما الجمعة، وإما الظهر، ولهذا كان النساء والمسافرون وغيرهم إذا لم يصلوا الجمعة صلوا ظهرا.
وأما يوم العيد، فليس فيه صلاة مشروعة غير صلاة العيد، وإنما تشرع مع الإمام، فمن كان قادرا على صلاتها مع الإمام من النساء والمسافرين فعلوها معه، وهم مشروع لهم ذلك، بخلاف الجمعة فإنهم إن شاؤوا صلوها مع الإمام، وإن شاؤوا صلوها ظهرا، بخلاف العيد فإنهم إذا فوتوه، فوتوه إلى غير بدل، فكان صلاة العيد للمسافر والمرأة أوكد من صلاة يوم الجمعة، والجمعة لها بدل، بخلاف العيد. وكل من العيدين إنما يكون في العام مرة، والجمعة تتكرر في العام خمسين جمعة وأكثر، فلم يكن تفويت بعض الجمع كتفويت العيد.
ومن يجعل العيد واجبا على الأعيان، لم يبعد أن يوجبه على من / كان في البلد من المسافرين والنساء كما كان، فإن جميع المسلمين ـ الرجال والنساء ـ كانوا يشهدون العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقول بوجوبه على الأعيان أقوي من القول بأنه فرض على الكفاية.
وأما قول من قال: إنه تطوع، فهذا ضعيف جدا؛ فإن هذا مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وداوم عليه هو وخلفاؤه والمسلمون بعده، ولم يعرف قط دار إسلام يترك فيها صلاة العيد، وهو من أعظم شعائر الإسلام. وقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، ونحو ذلك من الأمر بالتكبير في العيدين أمر بالصلاة المشتملة على التكبير الراتب والزائد بطريق الأولى والأحري، وإذا لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في تركه للنساء فكيف للرجال.
ومن قال: هو فرض على الكفاية، قيل له: هذا إنما يكون فيما تحصل مصلحته بفعل البعض، كدفن الميت، وقهر العدو، وليس يوم العيد مصلحة معينة يقوم بها البعض، بل صلاة يوم العيد شرع لها الاجتماع أعظم من الجمعة، فإنه أمر النساء بشهودها ولم يؤمرن بالجمعة بل أذن لهن فيها، وقال: (صلاتكن في بيوتكن خير لكن). ثم هذه المصلحة بأي عدد تحصل؟ فمهما قدر من ذلك، كان تحكما، سواء قيل: بواحد، أو اثنين، أو ثلاثة. وإذا قيل: بأربعين، فهو قياس على الجمعة، وهو فرض على الأعيان، فليس لأحد أن يتخلف عن العيد
/ إلا لعجزه عنه، وإن تخلف عن الجمعة لسفر أو أنوثة، والله أعلم.
وكذلك يحتمل أن يقال بوجوب الجمعة على من في المصر من المسافرين، وإن لم يجب عليهم الإتمام، كما لو صلوا خلف من يتم فإن عليهم الإتمام تبعا للإمام، كذلك تجب عليهم الجمعة تبعا للمقيمين، كما أوجبها على المقيم غير المستوطن تبعا مَنْ أثبت نوعا ثالثا بين المقيم المستوطن وبين المسافر ـ وهو المقيم غير المستوطن ـ فقال: تجب عليه، ولا تنعقد به. وقد بين في غير هذا الموضع أنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله إلا مقيم ومسافر. والمقيم هو المستوطن، ومن سوي هؤلاء، فهو مسافر يقصر الصلاة، وهؤلاء تجب عليهم الجمعة؛ لأن قوله: {إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ} [الجمعة: 9]، ونحوها يتناولهم، وليس لهم عذر، ولا ينبغي أن يكون في مصر المسلمين من لا يصلي الجمعة إلا من هو عاجز عنها كالمريض، والمحبوس، وهؤلاء قادرون عليها؛ لكن المسافرين لا يعقدون جمعة، لكن إذا عقدها أهل المصر، صلوا معهم، وهذا أولى من إتمام الصلاة خلف الإمام المقيم.
وكذلك، وجوبها على العبد قوي: إما مطلقا، وإما إذا أذن له السيد. والمسافر في المصر لا يصلي على الراحلة وإن كان يقصر الصلاة، فكذلك الجمعة. وأما إفطاره: فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في شهر رمضان، وكان هو والمسلمون مفطرين، وما نقل أنهم أمروا بابتداء /الصوم، فالفطر كالقصر؛ لأن الفطر مشروع للمسافر في الإقامات التي تتخلل السفر كالقصر بخلاف الصلاة على الراحلة فإنه لا يشرع إلا في حال السير، ولأن الله علق الفطر والقصر بمسمي السفر، بخلاف الصلاة على الراحلة، فليس فيه لفظ إتمام، بل فيه الفعل الذي لا عموم له، فهو من جنس الجمع بين الصلاتين الذي يباح للعذر مطلقا، كما أن الصلاة على الراحلة تباح للعذر في السفر في الفريضة مع العذر المانع من النزول، والمتطوع محتاج إلى دوام التطوع، وهذا لا يمكن مع النزول والسفر، وإذا جاز التطوع قاعدا مع إمكان القيام، فعلى الراحلة للمسافر أجوز.
وكانوا في العيد يأخذون من الصبيان من يأخذوه، كما شهد ابن عباس العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قد احتلم. وأما من كان عاجزا عن شهودها مع الإمام، فهذا أهل أن يفعل ما يقدر عليه. فإن الشريعة فرقت في المأمورات كلها بين القادر والعاجز. فالقادر عليها إذا لم يأت بشروطها، لم يكن له فعلها، والعاجز إذا عجز عن بعض الشروط، سقط عنه، فمن كان قادرا على الصلاة إلى القبلة قائما بطهارة، لم يكن له أن يصلي بدون ذلك، بخلاف العاجز فإنه يصلي بحسب حاله كيف ما أمكنه، فيصلي عريانا، وإلى غير القبلة، وبالتيمم إذا لم يمكنه إلا ذلك، فهكذا يوم العيد إذا لم يمكنه الخروج مع الإمام سقط عنه ذلك وجوز له أن / يفعل ما يقدر عليه، ليحصل له من العبادة في هذا اليوم مايقدر عليه فيصلي أربعا وتكون الركعتان بدل الخطبة التي لم يصل بها، كما كانت الخطبة يوم الجمعة قائمة مقام ركعتين، والتكبير إنما شرع في الصلاة الثنائية التي تكون معها خطبة، وكذلك الجهر بالقراءة، كما أنه في الجمعة يجهر الإمام في الثنائية ولا يجهر من يصلي الأربع، كذلك يوم العيد لا يجهر من يصلي الأربع، فالمحبوس، والمريض، والذي خرج ليصلي ففاتته الصلاة مع الإمام، يصلون يوم العيد، بخلاف من تعمد الترك، فهذا أصل عظيم مضت به السنة في الفرق بين الجمعة والعيد، وقد اختلفت الرواية عن أحمد في من فاته العيد، هل يصلي أربعا أو ركعتين أو يخير بينهما؟ على ثلاث روايات.
/ وسئل عن قوم مقيمين بقرية، وهم دون أربعين، ماذا يجب عليهم: أجمعة أم ظهر؟
فأجاب:
أما إذا كان في القرية أقل من أربعين رجلا، فإنهم يصلون ظهرا عند أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد في المشهور عنه، وكذلك أبو حنيفة، لكن الشافعي وأحمد وأكثر العلماء يقولون: إذا كانوا أربعين صلوا جمعة.
/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة، هل فعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو أحد من الصحابة والتابعين والأئمة أم لا؟ وهل هو منصوص في مذهب من مذاهب الأئمة المتفق عليهم؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)، هل هو مخصوص بيوم الجمعة أم هو عام في جميع الأوقات؟
فأجاب ـ رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين، أما النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئا، ولا نقل هذا عنه أحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على المنبر. ويؤذن بلال، ثم يخطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبتين، ثم يقيم بلال فيصلي النبي صلى الله عليه وسلم بالناس. فما كان يمكن أن يصلي بعد الأذان، لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه صلى الله عليه وسلم. ولا نقل عنه أحد أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة، ولا وقت بقوله: صلاة / مقدرة قبل الجمعة، بل ألفاظه صلى الله عليه وسلم فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة، من غير توقيت. كقوله: (من بكر وابتكر، ومشي ولم يركب، وصلى ما كتب له).
وهذا هو المأثور عن الصحابة، كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر، فمنهم من يصلي عشر ركعات ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة، ومنهم من يصلي ثمان ركعات، ومنهم من يصلي أقل من ذلك. ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت، مقدرة بعدد؛ لأن ذلك إنما يثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أو فعله. وهو لم يسن في ذلك شيئا، لا بقوله ولا فعله، وهذا مذهب مالك، ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه، وهو المشهور في مذهب أحمد.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن قبلها سنة، فمنهم من جعلها ركعتين، كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد. ومنهم من جعلها أربعا، كما نقل عن أصحاب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب أحمد وقد نقل عن الإمام أحمد ما استدل به على ذلك.
وهؤلاء منهم من يحتج بحديث ضعيف، ومنهم من يقول: هي / ظهر مقصورة، وتكون سنة الظهر سنتها، وهذا خطأ من وجهين:
أحدهما: أن الجمعة مخصوصة بأحكام تفارق بها ظهر كل يوم باتفاق المسلمين، وإن سميت ظهرا مقصورة. فإن الجمعة يشترط لها الوقت، فلا تقضي، والظهر تقضي. والجمعة يشترط لها العدد والاستيطان، وإذن الإمام، وغير ذلك. والظهر لا يشترط لها شيء من ذلك. فلا يجوز أن تتلقي أحكام الجمعة من أحكام الظهر، مع اختصاص الجمعة بأحكام تفارق بها الظهر، فإنه إذا كانت الجمعة تشارك الظهر في حكم، وتفارقها في حكم، لم يمكن إلحاق مورد النزاع بأحدهما إلا بدليل، فليس جعل السنة من موارد الاشتراك بأولى من جعلها من موارد الافتراق.
الوجه الثاني: أن يقال: هب أنها ظهر مقصورة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي في سفره سنة الظهر المقصورة، لا قبلها ولا بعدها، وإنما كان يصليها إذا أتم الظهر فصلى أربعا، فإذا كانت سنته التي فعلها في الظهر المقصورة خلاف التامة، كان ما ذكروه حجة عليهم لا لهم، وكان السبب المقتضي لحذف بعض الفريضة أولى بحذف السنة الراتبة، كما قال بعض الصحابة: لو كنت متطوعا، لأتممت الفريضة. فإنه لو استحب للمسافر أن يصلي أربعا، لكانت صلاته للظهر أربعا أولى من أن يصلي ركعتين فرضا، وركعتين سنة.
/وهذا لأنه قد ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه كان لا يصلي في السفر إلا ركعتين: الظهر، والعصر، والعشاء. وكذلك لما حج بالناس عام حجة الوداع، لم يصل بهم بمني وغيرها إلا ركعتين. وكذلك أبو بكر بعده لم يصل إلا ركعتين وكذلك عمر بعده لم يصل إلا ركعتين.
ومن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الظهر أو العصر أو العشاء في السفر أربعا، فقد أخطأ. والحديث المروي في ذلك عن عائشة هو حديث ضعيف في الأصل، مع ما وقع فيه من التحريف. فإن لفظ الحديث: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أفطرتَ وصمتُ وقصرتَ وأتممتُ فقال: (أصبت يا عائشة) فهذا مع ضعفه وقيام الأدلة على أنه باطل. روي أن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر ويصوم، ويقصر ويتم، فظن بعض الأئمة أن الحديث فيه: أنها روت الأمرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا: أن السنة للمسافر أن يصلي ركعتين، والأئمة متفقون على أن هذا هو الأفضل، إلا قولا مرجوحا للشافعي. وأكثر الأئمة يكرهون التربيع للمسافر، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في أنص الروايتين عنه. ثم من هؤلاء من يقول: لا يجوز التربيع، / كقول أبي حنيفة. ومنهم من يقول: يجوز مع الكراهة، كقول مالك، وأحمد. فيقال: لو كان الله يحب للمسافر أن يصلي ركعتين، ثم ركعتين، لكان يستحب له أن يصلي الفرض أربعا، فإن التقرب إليه ببعض الظهر أفضل من التقرب إليه بالتطوع مع الظهر. ولهذا أوجب على المقيم أربعا، فلو أراد المقيم أن يصلي ركعتين فرضا، وركعتين تطوعا، لم يجز له ذلك. والله ـ تعالى ـ لا يوجب عليه وينهاه عن شيء إلا والذي أمره به خير من الذي نهاه عنه، فعلم أن صلاة الظهر أربعا خير عند الله من أن يصليها ركعتين مع ركعتين تطوعا. فلما كان ـ سبحانه ـ لم يستحب للمسافر التربيع بخير الأمرين عنده، فلأن لا يستحب التربيع بالأمر المرجوح عنده أولى.
فثبت بهذا الاعتبار الصحيح أن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أكمل الأمور، وأن هديه خير الهدي، وأن المسافر إذا اقتصر على ركعتي الفرض، كان أفضل له من أن يقرن بهما ركعتي السنة.
وبهذا يظهر أن الجمعة إذا كانت ظهرا مقصورة، لم يكن من السنة أن يقرن بها سنة ظهر المقيم، بل تجعل كظهر المسافر المقصورة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر ركعتي الفجر والوتر، ويصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه / لا يصلي عليها المكتوبة. وهذا لأن الفجر لم تقصر في السفر، فبقيت سنتها على حالها، بخلاف المقصورات في السفر، والوتر مستقل بنفسه كسائر قيام الليل، وهو أفضل الصلاة بعد المكتوبة، وسنة الفجر تدخل في صلاة الليل من بعض الوجوه. فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليه في السفر، لاستقلاله وقيام المقتضي له.
والصواب أن يقال: ليس قبل الجمعة سنة راتبة مقدرة، ولو كان الأذانان على عهده؛ فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة). ثم قال في الثالثة: (لمن شاء)؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة. فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الصلاة مشروعة قبل العصر، وقبل العشاء الآخرة، وقبل المغرب، وأن ذلك ليس بسنة راتبة. وكذلك قد ثبت أن أصحابه كانوا يصلون بين أذاني المغرب، وهو يراهم فلا ينهاهم، ولا يأمرهم، ولا يفعل هو ذلك. فدل على أن ذلك فعل جائز.
وقد احتج بعض الناس على الصلاة قبل الجمعة بقوله: (بين كل أذانين صلاة) وعارضه غيره فقال: الأذان الذي على المنائر لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عثمان أمر به لما كثر الناس على عهده ولم يكن يبلغهم الأذان حين خروجه وقعوده على المنبر. ويتوجه أن يقال: هذا الأذان لما سنه عثمان، / واتفق المسلمون عليه، صار أذانا شرعيا. وحينئذ، فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة، وليست سنة راتبة، كالصلاة قبل صلاة المغرب. وحينئذ، فمن فعل ذلك لم ينكر عليه، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه. وهذا أعدل الأقوال، وكلام الإمام أحمد يدل عليه.
وحينئذ، فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يظنون أن هذه سنة راتبة، أو أنها واجبة، فتترك حتى يعرف الناس أنها ليست سنة راتبة، ولا واجبة، لا سيما إذا داوم الناس عليها فينبغي تركها أحيانا حتى لا تشبه الفرض، كما استحب أكثر العلماء ألا يداوم على قراءة السجدة يوم الجمعة، مع أنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، فإذا كان يكره المداومة على ذلك، فترك المداومة على ما لم يسنه النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وإن صلاها الرجل بين الأذانين أحيانا؛ لأنها تطوع مطلق، أو صلاة بين الأذانين، كما يصلي قبل العصر والعشاء، لا لأنها سنة راتبة فهذا جائز. وإن كان الرجل مع قوم يصلونها، فإن كان مطاعا إذا تركها ـ وبين لهم السنة ـ لم ينكروا عليه، بل عرفوا السنة فتركها حسن، وإن لم يكن مطاعا ورأي أن في صلاتها تاليفا لقلوبهم إلى ما هو أنفع، أو دفعا للخصام والشر لعدم التمكن من بيان الحق لهم، وقبولهم له، / ونحو ذلك، فهذا ـ أيضًا ـ حسن.
فالعمل الواحد يكون فعله مستحبا تارة، وتركه تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه، بحسب الأدلة الشرعية. والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين، بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه) والحديث في الصحيحين. فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح، وهو حدثان عهد قريش بالإسلام لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة.
ولذلك استحب الأئمة ـ أحمد وغيره ـ أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل، إذا كان فيه تاليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل، بأن يسلم في الشفع، ثم يصلي ركعة الوتر، وهو يؤم قوما لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل، كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه، وكذلك لو كان ممن يري المخافتة بالبسملة أفضل، أو الجهر بها، وكان المأمومون على خلاف رأيه، / ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتاليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزا حسنا.
وكذلك لو فعل خلاف الأفضل لأجل بيان السنة وتعليمها لمن لم يعلمها، كان حسنًا، مثل أن يجهر بالاستفتاح أو التعوذ أو البسملة ليعرف الناس أن فعل ذلك حسن مشروع في الصلاة، كما ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب جهر بالاستفتاح، فكان يكبر ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. قال الأسود بن يزيد: صليت خلف عمر أكثر من سبعين صلاة، فكان يكبر، ثم يقول ذلك. رواه مسلم في صحيحه. ولهذا شاع هذا الاستفتاح حتى عمل به أكثر الناس. وكذلك كان ابن عمر وابن عباس يجهران بالاستعاذة، وكان غير واحد من الصحابة يجهر بالبسملة وهذا عند الأئمة الجمهور الذين لا يرون الجهر بها سنة راتبة كان ليعلم الناس أن قراءتها في الصلاة سنة، كما ثبت في الصحيح أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن جهرًا، وذكر أنه فعل ذلك ليعلم الناس أنها سنة. وذلك أن الناس في صلاة الجنازة على قولين:
منهم من لا يري فيها قراءة بحال، كما قاله كثير من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.
/ومنهم من يري القراءة فيها سنة،كقول الشافعي،وأحمد لحديث ابن عباس هذا وغيره.
ثم من هؤلاء من يقول: القراءة فيها واجبة كالصلاة.
ومنهم من يقول: بل هي مستحبة، ليست واجبة. وهذا أعدل الأقوال الثلاثة. فإن السلف فعلوا هذا، وهذا، وكان كلا الفعلين مشهورا بينهم، كانوا يصلون على الجنازة بقراءة وغير قراءة، كما كانوا يصلون تارة بالجهر بالبسملة، وتارة بغير جهر بها، وتارة باستفتاح، وتارة بغير استفتاح، وتارة برفع اليدين في المواطن الثلاثة، وتارة بغير رفع اليدين، وتارة يسلمون تسليمتين، وتارة تسليمة واحدة. وتارة يقرؤون خلف الإمام بالسر، وتارة لا يقرؤون. وتارة يكبرون على الجنازة أربعا، وتارة خمسا، وتارة سبعا. كان فيهم من يفعل هذا، وفيهم من يفعل هذا. كل هذا ثابت عن الصحابة.
كما ثبت عنهم أن منهم من كان يرجع في الأذان، ومنهم من لم يرجع فيه.
ومنهم من كان يوتر الإقامة، ومنهم من كان يشفعها، وكلاهما ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم
/فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر،فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزا. وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة، كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانا لمصلحة راجحة. وهذا واقع في عامة الأعمال، فإن العمل الذي هو في جنسه أفضل، قد يكون في مواطن غيره أفضل منه، كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء. ثم الصلاة بعد الفجر والعصر منهي عنها، والقراءة والذكر والدعاء أفضل منها في تلك الأوقات وكذلك القراءة في الركوع والسجود منهي عنها، والذكر هناك أفضل منها، والدعاء في آخر الصلاة بعد التشهد، أفضل من الذكر وقد يكون العمل المفضول أفضل بحسب حال الشخص المعين؛ لكونه عاجزا عن الأفضل، أو لكون محبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه بالمفضول أكثر، فيكون أفضل في حقه لما يقترن به من مزيد عمله وحبه وإرادته وانتفاعه، كما أن المريض ينتفع بالدواء الذي يشتهيه ما لا ينتفع بما لا يشتهيه، وإن كان جنس ذلك أفضل.
ومن هذا الباب، صار الذكر لبعض الناس في بعض الأوقات خيرا من القراءة، والقراءة لبعضهم في بعض الأوقات خيرًا من الصلاة وأمثال ذلك، لكمال انتفاعه به، لا لأنه في جنسه أفضل.
/وهذا الباب ـ باب تفضيل بعض الأعمال على بعض ـ إن لم يعرف فيه التفضيل، وأن ذلك قد يتنوع بتنوع الأحوال في كثير من الأعمال، وإلا وقع فيها اضطراب كثير. فإن في الناس من إذا اعتقد استحباب فعل ورجحانه، يحافظ عليه ما لا يحافظ على الواجبات، حتى يخرج به الأمر إلى الهوي والتعصب والحمية الجاهلية، كما تجده فيمن يختار بعض هذه الأمور فيراها شعارا لمذهبه.
ومنهم من إذا رأي ترك ذلك هو الأفضل، يحافظ ـ أيضا ـ على هذا الترك أعظم من محافظته على ترك المحرمات، حتى يخرج به الأمر إلى اتباع الهوي والحمية الجاهلية، كما تجده فيمن يري الترك شعارا لمذهبه، وأمثال ذلك، وهذا كله خطأ.
والواجب أن يعطي كل ذي حق حقه، ويوسع ما وسعه الله ورسوله، ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله، ويراعي في ذلك ما يحبه الله ورسوله
وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية إلى من يصل إليه كتابه من المؤمنين والمسلمين من أهل البحرين، وغيرهم عامة، ولأهل العلم والدين خاصة: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. وأسأله أن يصلي على خيرته من خلقه: محمد عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه، الذي بعثه بالبينات والهدي، ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفي بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
/أما بعد، فإن وفدًا قدموا من نحو أرضكم، فأخبرونا بنحو مما كنا نسمع عن أهل ناحيتكم من الاعتصام بالسنة والجماعة، والتزام شريعة الله التي شرعها على لسان رسوله، ومجانبة ما عليه كثير من الأعراب من الجاهلية التي كانوا عليها قبل الإسلام؛ من سفك بعضهم دماء بعض، ونهب أموالهم، وقطيعة الأرحام، والانسلال عن ربقة الإسلام، وتوريث الذكور دون الإناث، وإسبال الثياب، والتعزي بعزاء الجاهلية. وهو قولهم: يا لبني فلان، أو: يا لفلان. والتعصب للقبيلة بالباطل، وترك ما فرضه الله في النكاح من العدة ونحوها، ثم ما زينه الشيطان لفريق منهم من الأهواء التي باينوا بها عقائد السابقين الأولىن من المهاجرين والأنصار، وخالفوا شريعة الله لهم من الاستغفار للأولين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]. ووقعوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقيعة التي لا تصدر ممن وقر الإيمان في قلبه.
فالحمد لله الذي عافـانا وإيـاكم مما ابتلي به كثيرًا من خلقه، وفضـلنا على كثير ممـن خلـق تفضيلا، ونسأل الله العظيم المنان بديع السموات والأرض أن يتمم علينا وعليكم نعمته ويوفقنا وإياكم لما يحب ويرضاه من القول والعمل، ويجعلنا من التابعين بإحسان للسابقين الأولين.
/وليس هذا ببدع.فإن أهل البحرين ما زالوا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل إسلام وفضل، قد قدم وفدهم من عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وفيهم الأشج ـ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مرحبًا بالوفد. غير خزايا ولا ندامى). فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإن لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نعمل به ونأمر به من وراءنا: فقال: (آمركم بالإيمان بالله. أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم).ولم يكن قد فرض الحج إذ ذاك، وقال للأشج: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم، والأناءة) قال: خلقين: تخلقتُ بهما أو خلقين جُبِلتُ عليهما؟ قال: (خلقين جبلتَ عليهما)، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله.
ثم إنهم أقاموا الجمعة بأرضهم، فأول جمعة جمعت في الإسلام ـ بعد جمعة المدينة ـ جمعة بجُؤَاثي قرية من قرى البحرين.
ثم إنهم ثبتوا على الإسلام لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب، وقاتل بهم أميرهم العلاء بن الحضرمي ـ الرجل الصالح ـ أهل الردة، ولهم في السيرة أخبار حسان. / فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يوفق آخرهم، لما وفق له أولهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وقد حدثنا بعض الوفد: أنهم كانوا يجمعون ببعض أرضكم،ثم إن بعض أهل العراق أفتاهم بترك الجمعة، فسألناه عن صفة المكان، فقال: هنالك مسجد مبني بمدر، وحوله أقوام كثيرون، مقيمون مستوطنون لا يظعنون عن المكان، شتاء ولا صيفًا، إلا أن يخرجهم أحد بقهر، بل هم وآباؤهم وأجدادهم مستوطنون بهذا المكان، كاستيطان سائر أهل القري، لكن بيوتهم ليست مبنية بمدر، إنما هي مبنية بجريد النخل، ونحوه.
فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن مثل هذه الصورة تقام فيها الجمعة. فإن كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفًا، تقام فيه الجمعة، إذ كان مبنيا بما جرت به عادتهم؛ من مدر، وخشب، أو قصب، أو جريد، أو سعف، أو غير ذلك. فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك، إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر، ويتنقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا. وهذا مذهب جمهور العلماء.
/وبقصة أرضكم احتج الجمهور على أبي حنيفة ـ حيث قال:لا تقام الجمعة في القرى ـ بالحديث المأثور عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة بالبحرين بقرية يقال لها:جؤاثي من قري البحرين. وبأن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ وكان عامل عمر ـ رضي الله عنه على البحرين فكتب إلى أمير المؤمنين عمر يستأذنه في إقامة الجمعة بقري البحرين، فكتب إليه عمر: أقيموا الجمعة حيث كنتم.
ولعل الذين قالوا لكم: إن الجمعة لا تقام، قد تقلدوا قول من يري الجمعة لا تقام في القري، أو اعتقدوا أن معني قول الفقهاء في الكتب المختصرة: [إنما تقام بقرية مبنية بناء متصلاً أو متقاربًا، بحيث يشمله اسم واحد، فاعتقدوا أن البناء لا يكون إلا بالمدر من طين أو كلس أو حجارة أو لبن، وهذا غلط منهم، بل قد نص العلماء على أن البناء إنما يعتبر بما جرت به عادة أولئك المستوطنين، من أي شيء كان: قصب أو خشب ونحوه.
ولهذا،فالعلماء الأئمة إنما فرقوا بين الأعراب أهل العمد،وبين المقيمين، بأن أولئك يتنقلون ولا يستوطنون بقعة،بخلاف المستوطنين.وقد كان قوم من السلف يبنون لهم بيوتًا من قصب،والنبي صلى الله عليه وسلم سقف مسجده بجريد النخل،حتى كان يكف المسجد /إذا نزل المطر. قالوا:يا رسول الله،لو بنينا لك ـ يعنون بناء مشيدًا ـ فقال:(بل عريش كعريش موسى).
وقد نص على مسألتكم بعينها ـ وهي البيوت المصنوعة من جريد أو سعف ـ غير واحد من العلماء، منهم أصحاب الإمام أحمد كالقاضي أبي يعلى، وأبي الحسن الآمدي، وابن عقيل، وغيرهم. فإنهم ذكروا أن كل بيوت مبنية من آجر أو طين أو حجارة أو خشب أو قصب أو جريد أو سعف، فإنه تقام عندهم الجمعة، وكذلك ذكرها غير واحد من أصحاب الشافعي ـ رضي الله عنهم ـ من الخراسانيين، كصاحب [الوسيط] فيما أظن، ومن العراقيين ـ أيضًا ـ أن بيوت السعف تقام فيها الجمعة.
وخالف هؤلاء الماوردي في [الحاوي]، فذكر أن بيوت القصب والجريد لا تقام فيها الجمعة، بل تقام في بيوت الخشب الوثيقة. وهذا الفرق ضعيف، مخالف لما عليه الجمهور والقياس، ولما دلت عليه الآثار وكلام الأئمة. فإن أبا هريرة كتب إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ يسأله عن الجمعة ـ وهو بالبحرين ـ فكتب إليه عمر بن الخطاب: أن جَمِّعوا حيثما كنتم. وذهب الإمام أحمد إلى حديث عمر هذا.
وعن نافع أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان يمر بالمياه التي / بين مكة والمدينة وهم يجمعون في تلك المنازل، فلا ينكر عليهم. فهذا عمر يأمر أهل البحرين بالتجميع حيث استوطنوا، مع العلم بأن بعض البيوت تكون من جريد، ولم يشترط بناء مخصوصًا. وكذلك ابن عمر أقر أهل المنازل التي بين مكة والمدينة على التجميع، ومعلوم أنها لم تكن من مدر، وإنما هي إما من جريد أو سعف.
وقال الإمام أحمد: ليس على البادية جمعة؛ لأنهم ينتقلون. فعلل سقوطها بالانتقال، فكل من كان مستوطنًا لا ينتقل باختياره فهو من أهل القري، والفرق بين هؤلاء وبين أهل الخيام من وجهين:
أحدهما: أن أولئك في العادة الغالبة لا يستوطنون مكانا بعينه، وإن استوطن فريق منهم مكانًا، فهم في مظنة الانتقال عنه، بخلاف هؤلاء المستوطنين الذين يحترثون، ويزدرعون، ولا ينتقلون. إلا كما ينتقل أهل أبنية المدر؛ إما لحاجة تعرض، أو ليد غالبة تنقلهم، كما تفعله الملوك مع الفلاحين.
الثاني: أن بيوت أهل الخيام ينقلونها معهم إذا انتقلوا، فصارت من المنقول لا من العقار، بخلاف الخشب والقصب والجريد، فإن أصحابها لا ينقلونها ليبنوا بها في المكان الذي ينتقلون إليه، وإنما يبنون / في كل مكان بما هو قريب منه، مع أن هذا ليس موضع استقصاء الأدلة في المسألة. وهذه المسألة ـ إقامة الجمعة بالقري ـ أول ما ابتدأت من ناحيتكم، فلا تقطعوا هذه الشريعة من أرضكم. فإن الله يجمع لكم جوامع الخير.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله وجمع لنا ولكم خـير الدنيا والآخـرة ـ أن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحـق، وأنزل عليه الكتاب، وكان قد بعث إلى ذوي أهواء متفرقة، وقلوب متشتتة، وآراء متباينة، فجمع به الشمل، وألف به بين القلوب، وعصم به من كيد الشيطان.
ثم إنه ـ سبحانه وتعالى ـ بين أن هذا الأصل ـ وهو الجماعة ـ عماد لدينه. فقال ـ سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عليكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 102ـ 107]. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ كيف دعا الله إلى الجماعة، ونهى عن الفرقة. وقال في الآية الأخري: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. فبرأ نبيه صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كما نهانا عن التفرق، والاختلاف، بقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105].
وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم من المجادلة ما يفضي إلى الاختلاف والتفرق، فخرج على قوم من أصحابه وهم يتجادلون في القدر، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، وقال: (أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض) قال عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ: فما اغبط نفسي كما غبطتها، ألا أكون في ذلك المجلس، روي هذا الحديث أبو داود في سننه، وغيره، وأصله في الصحيحين، والحديث المشهور عنه صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها أنه قال صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة، / كلهم في النار إلا واحدة) قيل: يا رسول الله، ومن هي؟قال:(من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).وفي رواية: (هي الجماعة)، وفي رواية: (يد الله على الجماعة). فوصف الفرقة الناجية بأنهم المستمسكون بسنته، وأنهم هم الجماعة.
وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة، وأخوة الدين. نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع.
فعائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأي ربه، وقالت: من زعم أن محمدًا رأي ربه فقد أعظم على الله ـ تعالى ـ الفرية. وجمهور الأمة على قول ابن عباس، مع أنهم لا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين ـ رضي الله عنها. وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي، لما قيل لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:/ (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، فقالت: إنما قال: إنهم ليعلمون الآن أن ما قلت لهم حق. ومع هذا، فلا ريب أن الموتي يسمعون خفق النعال، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام). صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من الأحاديث. وأم المؤمنين تأولت، والله يرضي عنها. وكذلك معاوية نقل عنه في أمر المعراج أنه قال: إنما كان بروحه، والناس على خلاف معاوية ـ رضي الله عنه ـ ومثل هذا كثير.
وأما الاختلاف في [الأحكام]، فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بني قريظة: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) فأدركتهم العصر في الطريق، فقال قوم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وفاتتهم العصر. وقال قوم: لم يرد منا تأخير الصلاة، فصلوا في الطريق، فلم يعب واحدًا من الطائفتين. أخرجاه في الصحيحين، من حديث ابن عمر. وهذا، وإن كان في الأحكام فما لم / يكن من الأصول المهمة، فهو ملحق بالأحكام.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟) قالوا: بلي يا رسول الله، قال: (صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين). رواه أبو داود من حديث الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه.
وصح عنه أنه قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)
نعم، صح عنه أنه هجر كعب بن مالك، وصاحبيه ـ رضي الله عنهم ـ لما تخلفوا عن غزوة تبوك، وظهرت معصيتهم، وخيف عليهم النفاق، فهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم، حتى أمرهم باعتزال أزواجهم من غير طلاق خمسين ليلة، إلى أن نزلت توبتهم من السماء. وكذلك أمر عمر ـ رضي الله عنه ـ المسلمين بهجر صَبِيغ بن عسل التميمي، لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب، إلى أن مضي عليه حول، وتبين صدقه في التوبة، فأمر المسلمين بمراجعته. فبهذا ونحوه رأي / المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترًا بمعصية أو مسرًا لبدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر، وإنما يهجر الداعي إلى البدعة؛ إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولا أو عملا.
وأما من أظهر لنا خيرًا، فإنا نقبل علانيته، ونَكِل سريرته إلى الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، لما جاؤوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون.
ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة: كمالك وغيره، لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه، بخلاف الساكت، وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رمي ببدعة من الساكتين، ولم يخرجوا عن الدعاة إلى البدع.
والذي أوجب هذا الكلام، أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم، حتى ذكروا: أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والله هو المسؤول أن يؤلف بين قلوبنا وقلوبكم، ويصلح ذات بيننا، ويهدينا سبل السلام، ويخرجنا /من الظلمات إلى النور، ويجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا ما أبقانا، ويجعلنا شاكرين لنعمه، مثنين بها عليه، قابليها، ويتممها علينا.
وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف في مسألة [رؤية الكفار ربهم] وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد، فالأمر في ذلك خفيف، ثم ذكر الجواب. وتقدم في كتاب [الأسماء والصفات].
/وَقَـال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه:
فصل
تنازع الناس في صلاة الجمعة والعيدين: هل تشترط لهما الإقامة أم تفعل في السفر؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: من شرطهما جميعًا الإقامة، فلا يشرعان في السفر. هذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه.
والثاني: يشترط ذلك في الجمعة دون العيد، وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية عنه.
والثالث: لا يشترط لا في هذا ولا هذا، كما يقوله من يقوله من الظاهرية، وهؤلاء عمدتهم مطلق الأمر، ولقوله: {إِذَا نُودِي} [الجمعة: 9] ونحو ذلك. وزعموا أنه ليس في الشرع ما يوجب الاختصاص بالمقيم. والذين فرقوا بين الجمعة والعيد قالوا: العيد إما نفل،وإما فرض على/ الكفاية،ولا يسقط به فرض آخر كما تسقط الظهر بالجمعة، والنوافل مشروعة للمقيم والمسافر كصلاة الضحي وقيام الليل والسنن الرواتب، وكذلك فرض الكفاية كصلاة الجنائز.
والصواب ـ بلا ريب ـ هو القول الأول، وهو أن ذلك ليس بمشروع للمسافر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسافر أسفارًا كثيرة. قد اعتمر ثلاث عمر سوي عمرة حجته، وحج حجة الوداع ومعه ألوف مؤلفة، وغزا أكثر من عشرين غزاة ولم ينقل عنه أحد قط أنه صلى في السفر لا جمعة ولا عيدًا، بل كان يصلي ركعتين ركعتين في جميع أسفاره، ويوم الجمعة يصلي ركعتين كسائر الأيام، ولم ينقل عنه أحد قط أنه خطب يوم الجمعة وهو مسافر قبل الصلاة لا وهو قائم على قدميه ولا على راحلته، كما كان يفعله في خطبة العيد، ولا على منبر كما كان يخطب يوم الجمعة، وقد كان أحيانًا يخطب بهم في السفر خطبًا عارضة فينقلونها كما في حديث عبد الله بن عمرو ولم ينقل عنه قط أحد أنه خطب يوم الجمعة في السفر قبل الصلاة، بل ولا نقل عنه أحد أنه جهر بالقراءة يوم الجمعة، ومعلوم أنه لو غيَّر العادة فجهر وخطب لنقلوا ذلك، ويوم عرفة خطب بهم ثم نزل فصلى بهم ركعتين، ولم ينقل أحد أنه جهر، ولم تكن تلك الخطبة للجمعة؛/ فإنها لو كانت للجمعة، لخطب في غير ذلك اليوم من أيام الجمع، وإنما كانت لأجل النسك.
ولهذا كان علماء المسلمين قاطبة على أنه يخطب بعرفة وإن لم يكن يوم جمعة. فثبت بهذا النقل المتواتر أنها خطبة لأجل يوم عرفة، وإن لم يكن يوم جمعة، لا ليوم الجمعة، وكذلك ـ أيضًا ـ لم يصل العيد بمني لا هو ولا أحد من خلفائه الراشدين، فقد دخل مكة عام الفتح ودخلها في شهر رمضان فأدرك فيها عيد الفطر، ولم يصل بها يوم العيد صلاة العيد، ولم ينقل ذلك مسلم. ومن المعلوم أنهم لو كان صلى بهم صلاة العيد بمكة مع كثرة المسلمين معه كانوا أكثر من عشرة آلاف، لكان هذا من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، وكذلك بدر كانت في شهر رمضان وأدركه يوم العيد في السفر ولم يصل صلاة عيد في السفر.
وأيضًا، فإنه لم يكن أحد يصلي صلاة العيد بالمدينة إلا معه، كما لم يكونوا يصلون الجمعة إلا معه، وكان بالمدينة مساجد كثيرة لكل دار من دور الأنصار مسجد، ولهم إمام يصلي بهم، والأئمة يصلون بهم الصلوات الخمس، ولم يكونوا يصلون بهم لا جمعة ولا عيدًا. فعلم أن العيد كان عندهم من جنس الجمعة لا من جنس التطوع المطلق، ولا من جنس صلاة الجنازة. وقول القائل: إن صلاة العيد تطوع، ممنوع، / ولو سلم، قيل له: هذه مخصوصة بخصائص لا يشركها فيها غيرها، والسنة مضت بأن المسلمين كلهم يجتمعون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بعده، ولم يكونوا في سائر التطوع يفعلون هذا، وكان يخرج بهم إلى الصحراء، ويكبر فيها، ويخطب بعدها، وهذا مشروع في كل يوم عيد شريعة راتبة، والاستسقاء لم يختص بالصلاة بل كان مرة يستسقي بالدعاء فقط وهو في المدينة، ومرة يخرج إلى الصحراء ويستسقي بصلاة وبغير صلاة، حتى أن من العلماء من لم يعرف في الاستسقاء صلاة كأبي حنيفة، فلما كان الاستسقاء يشرع بغير صلاة ولا خطبة ولآحاد الناس، لم يلحق بالعيد الذي لا يكون إلا بصلاة وخطبة، وهو شريعة راتبة ليس مشروعا لأمر عارض كالكسوف والاستسقاء.
وأيضا، فإن على بن أبي طالب لما استخلف للناس من يصلي العيد بالضعفاء في المسجد الجامع أمره أن يصلي أربع ركعات، كما أن من لم يصل الجمعة، صلى أربعا، ولم يكن الناس يعرفون قبل علي أن يصلي أحد العيد إلا مع الإمام في الصحراء، فإذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، لم يكن فيها صلاة عيد إلا مع الإمام، بطل أن يكون بمنزلة ما كانوا يفعلونه وحدانًا وجماعة.
وأيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعها للنساء بل أمرهن أن يخرجن يوم العيد، حتى أمر بإخراج الحيض،فقالوا له:إن لم / يكن للمرأة جلباب؟ قال: (لتلبسها أختها من جلبابها) وهذا توكيد لخروجهن يوم العيد مع أنه في الجمعة والجماعة قال: (وبيوتهن خير لهن)، وذلك لأنه كان يمكنهن أن يصلين في البيوت يوم الجمعة كسائر الأيام، فيصلين ظهرًا، فلو كانت صلاة العيد مشروعة لهن في البيوت، لأغني ذلك عن توكيد خروجهن.
وأيضا، لو كان ذلك جائزا، لفعله النساء على عهده كما كن يصلين التطوعات. فلما لم ينقل أحد أن أحدا من النساء صلى العيد على عهده في البيت ولا من الرجال، بل كن يخرجن بأمره إلى المصلى، علم أن ذلك ليس من شرعه.
وأيضا، فعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قيل له: إن بالمدينة ضعفاء لا يمكنهم الخروج معك، فلو استخلفت من يصلي بهم؟ فاستخلف من صلى بهم. فلو كان الواحد يفعلها، لم يحتج إلى الاستخلاف الذي لم تمض به السنة ودل ما فعله أمير المؤمنين على على الفرق بين القادر على الخروج إلى المصلي، والعاجز عنه. فالقادر يخرج، والنساء قادرات على الخروج فيخرجن ولا يصلين وحدهن، وكذلك من كان من المسافرين في البلد، فإنه يمكنهم أن يصلوا مع الإمام فلا يصلون وحدهم بإمام، بخلاف الجمعة فإنهم إذا لم يصلوها، صلوا وحدهم، وإذا كانوا في بيوتهم صلوا بإمام كما يصلون في الصحراء، وأما مـن كان / يوم العيد مـريضا أو محبوسا وعادتـه يصلي العيد فهذا لا يمكنـه الخروج، فهؤلاء بمنزلة الذين استخلف على مـن يصلي بهم، فيصلون جماعة وفرادي، ويصلـون أربعا، كما يصلون يوم الجمعة بلا تكبير، ولا جهر بالقراءة، ولا أذان وإقامة؛ لأن العيد ليس له أذان وإقامة، فلا يكون في المبدل عنه، بخلاف الجمعة فإن فيها وفي الظهر أذان وإقامة. والجمعة كل من فاتته، صلى الظهر؛ لأن الظهر واجبة فلا تسقط إلا عمن صلى الجمعة، فلابد لكل من كان من أهل وجوب الصلاة أن يصلي يوم الجمعة: إما الجمعة، وإما الظهر، ولهذا كان النساء والمسافرون وغيرهم إذا لم يصلوا الجمعة صلوا ظهرا.
وأما يوم العيد، فليس فيه صلاة مشروعة غير صلاة العيد، وإنما تشرع مع الإمام، فمن كان قادرا على صلاتها مع الإمام من النساء والمسافرين فعلوها معه، وهم مشروع لهم ذلك، بخلاف الجمعة فإنهم إن شاؤوا صلوها مع الإمام، وإن شاؤوا صلوها ظهرا، بخلاف العيد فإنهم إذا فوتوه، فوتوه إلى غير بدل، فكان صلاة العيد للمسافر والمرأة أوكد من صلاة يوم الجمعة، والجمعة لها بدل، بخلاف العيد. وكل من العيدين إنما يكون في العام مرة، والجمعة تتكرر في العام خمسين جمعة وأكثر، فلم يكن تفويت بعض الجمع كتفويت العيد.
ومن يجعل العيد واجبا على الأعيان، لم يبعد أن يوجبه على من / كان في البلد من المسافرين والنساء كما كان، فإن جميع المسلمين ـ الرجال والنساء ـ كانوا يشهدون العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقول بوجوبه على الأعيان أقوي من القول بأنه فرض على الكفاية.
وأما قول من قال: إنه تطوع، فهذا ضعيف جدا؛ فإن هذا مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وداوم عليه هو وخلفاؤه والمسلمون بعده، ولم يعرف قط دار إسلام يترك فيها صلاة العيد، وهو من أعظم شعائر الإسلام. وقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، ونحو ذلك من الأمر بالتكبير في العيدين أمر بالصلاة المشتملة على التكبير الراتب والزائد بطريق الأولى والأحري، وإذا لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في تركه للنساء فكيف للرجال.
ومن قال: هو فرض على الكفاية، قيل له: هذا إنما يكون فيما تحصل مصلحته بفعل البعض، كدفن الميت، وقهر العدو، وليس يوم العيد مصلحة معينة يقوم بها البعض، بل صلاة يوم العيد شرع لها الاجتماع أعظم من الجمعة، فإنه أمر النساء بشهودها ولم يؤمرن بالجمعة بل أذن لهن فيها، وقال: (صلاتكن في بيوتكن خير لكن). ثم هذه المصلحة بأي عدد تحصل؟ فمهما قدر من ذلك، كان تحكما، سواء قيل: بواحد، أو اثنين، أو ثلاثة. وإذا قيل: بأربعين، فهو قياس على الجمعة، وهو فرض على الأعيان، فليس لأحد أن يتخلف عن العيد
/ إلا لعجزه عنه، وإن تخلف عن الجمعة لسفر أو أنوثة، والله أعلم.
وكذلك يحتمل أن يقال بوجوب الجمعة على من في المصر من المسافرين، وإن لم يجب عليهم الإتمام، كما لو صلوا خلف من يتم فإن عليهم الإتمام تبعا للإمام، كذلك تجب عليهم الجمعة تبعا للمقيمين، كما أوجبها على المقيم غير المستوطن تبعا مَنْ أثبت نوعا ثالثا بين المقيم المستوطن وبين المسافر ـ وهو المقيم غير المستوطن ـ فقال: تجب عليه، ولا تنعقد به. وقد بين في غير هذا الموضع أنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله إلا مقيم ومسافر. والمقيم هو المستوطن، ومن سوي هؤلاء، فهو مسافر يقصر الصلاة، وهؤلاء تجب عليهم الجمعة؛ لأن قوله: {إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ} [الجمعة: 9]، ونحوها يتناولهم، وليس لهم عذر، ولا ينبغي أن يكون في مصر المسلمين من لا يصلي الجمعة إلا من هو عاجز عنها كالمريض، والمحبوس، وهؤلاء قادرون عليها؛ لكن المسافرين لا يعقدون جمعة، لكن إذا عقدها أهل المصر، صلوا معهم، وهذا أولى من إتمام الصلاة خلف الإمام المقيم.
وكذلك، وجوبها على العبد قوي: إما مطلقا، وإما إذا أذن له السيد. والمسافر في المصر لا يصلي على الراحلة وإن كان يقصر الصلاة، فكذلك الجمعة. وأما إفطاره: فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في شهر رمضان، وكان هو والمسلمون مفطرين، وما نقل أنهم أمروا بابتداء /الصوم، فالفطر كالقصر؛ لأن الفطر مشروع للمسافر في الإقامات التي تتخلل السفر كالقصر بخلاف الصلاة على الراحلة فإنه لا يشرع إلا في حال السير، ولأن الله علق الفطر والقصر بمسمي السفر، بخلاف الصلاة على الراحلة، فليس فيه لفظ إتمام، بل فيه الفعل الذي لا عموم له، فهو من جنس الجمع بين الصلاتين الذي يباح للعذر مطلقا، كما أن الصلاة على الراحلة تباح للعذر في السفر في الفريضة مع العذر المانع من النزول، والمتطوع محتاج إلى دوام التطوع، وهذا لا يمكن مع النزول والسفر، وإذا جاز التطوع قاعدا مع إمكان القيام، فعلى الراحلة للمسافر أجوز.
وكانوا في العيد يأخذون من الصبيان من يأخذوه، كما شهد ابن عباس العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قد احتلم. وأما من كان عاجزا عن شهودها مع الإمام، فهذا أهل أن يفعل ما يقدر عليه. فإن الشريعة فرقت في المأمورات كلها بين القادر والعاجز. فالقادر عليها إذا لم يأت بشروطها، لم يكن له فعلها، والعاجز إذا عجز عن بعض الشروط، سقط عنه، فمن كان قادرا على الصلاة إلى القبلة قائما بطهارة، لم يكن له أن يصلي بدون ذلك، بخلاف العاجز فإنه يصلي بحسب حاله كيف ما أمكنه، فيصلي عريانا، وإلى غير القبلة، وبالتيمم إذا لم يمكنه إلا ذلك، فهكذا يوم العيد إذا لم يمكنه الخروج مع الإمام سقط عنه ذلك وجوز له أن / يفعل ما يقدر عليه، ليحصل له من العبادة في هذا اليوم مايقدر عليه فيصلي أربعا وتكون الركعتان بدل الخطبة التي لم يصل بها، كما كانت الخطبة يوم الجمعة قائمة مقام ركعتين، والتكبير إنما شرع في الصلاة الثنائية التي تكون معها خطبة، وكذلك الجهر بالقراءة، كما أنه في الجمعة يجهر الإمام في الثنائية ولا يجهر من يصلي الأربع، كذلك يوم العيد لا يجهر من يصلي الأربع، فالمحبوس، والمريض، والذي خرج ليصلي ففاتته الصلاة مع الإمام، يصلون يوم العيد، بخلاف من تعمد الترك، فهذا أصل عظيم مضت به السنة في الفرق بين الجمعة والعيد، وقد اختلفت الرواية عن أحمد في من فاته العيد، هل يصلي أربعا أو ركعتين أو يخير بينهما؟ على ثلاث روايات.
/ وسئل عن قوم مقيمين بقرية، وهم دون أربعين، ماذا يجب عليهم: أجمعة أم ظهر؟
فأجاب:
أما إذا كان في القرية أقل من أربعين رجلا، فإنهم يصلون ظهرا عند أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد في المشهور عنه، وكذلك أبو حنيفة، لكن الشافعي وأحمد وأكثر العلماء يقولون: إذا كانوا أربعين صلوا جمعة.
/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة، هل فعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو أحد من الصحابة والتابعين والأئمة أم لا؟ وهل هو منصوص في مذهب من مذاهب الأئمة المتفق عليهم؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)، هل هو مخصوص بيوم الجمعة أم هو عام في جميع الأوقات؟
فأجاب ـ رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين، أما النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئا، ولا نقل هذا عنه أحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على المنبر. ويؤذن بلال، ثم يخطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبتين، ثم يقيم بلال فيصلي النبي صلى الله عليه وسلم بالناس. فما كان يمكن أن يصلي بعد الأذان، لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه صلى الله عليه وسلم. ولا نقل عنه أحد أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة، ولا وقت بقوله: صلاة / مقدرة قبل الجمعة، بل ألفاظه صلى الله عليه وسلم فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة، من غير توقيت. كقوله: (من بكر وابتكر، ومشي ولم يركب، وصلى ما كتب له).
وهذا هو المأثور عن الصحابة، كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر، فمنهم من يصلي عشر ركعات ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة، ومنهم من يصلي ثمان ركعات، ومنهم من يصلي أقل من ذلك. ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت، مقدرة بعدد؛ لأن ذلك إنما يثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أو فعله. وهو لم يسن في ذلك شيئا، لا بقوله ولا فعله، وهذا مذهب مالك، ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه، وهو المشهور في مذهب أحمد.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن قبلها سنة، فمنهم من جعلها ركعتين، كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد. ومنهم من جعلها أربعا، كما نقل عن أصحاب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب أحمد وقد نقل عن الإمام أحمد ما استدل به على ذلك.
وهؤلاء منهم من يحتج بحديث ضعيف، ومنهم من يقول: هي / ظهر مقصورة، وتكون سنة الظهر سنتها، وهذا خطأ من وجهين:
أحدهما: أن الجمعة مخصوصة بأحكام تفارق بها ظهر كل يوم باتفاق المسلمين، وإن سميت ظهرا مقصورة. فإن الجمعة يشترط لها الوقت، فلا تقضي، والظهر تقضي. والجمعة يشترط لها العدد والاستيطان، وإذن الإمام، وغير ذلك. والظهر لا يشترط لها شيء من ذلك. فلا يجوز أن تتلقي أحكام الجمعة من أحكام الظهر، مع اختصاص الجمعة بأحكام تفارق بها الظهر، فإنه إذا كانت الجمعة تشارك الظهر في حكم، وتفارقها في حكم، لم يمكن إلحاق مورد النزاع بأحدهما إلا بدليل، فليس جعل السنة من موارد الاشتراك بأولى من جعلها من موارد الافتراق.
الوجه الثاني: أن يقال: هب أنها ظهر مقصورة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي في سفره سنة الظهر المقصورة، لا قبلها ولا بعدها، وإنما كان يصليها إذا أتم الظهر فصلى أربعا، فإذا كانت سنته التي فعلها في الظهر المقصورة خلاف التامة، كان ما ذكروه حجة عليهم لا لهم، وكان السبب المقتضي لحذف بعض الفريضة أولى بحذف السنة الراتبة، كما قال بعض الصحابة: لو كنت متطوعا، لأتممت الفريضة. فإنه لو استحب للمسافر أن يصلي أربعا، لكانت صلاته للظهر أربعا أولى من أن يصلي ركعتين فرضا، وركعتين سنة.
/وهذا لأنه قد ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه كان لا يصلي في السفر إلا ركعتين: الظهر، والعصر، والعشاء. وكذلك لما حج بالناس عام حجة الوداع، لم يصل بهم بمني وغيرها إلا ركعتين. وكذلك أبو بكر بعده لم يصل إلا ركعتين وكذلك عمر بعده لم يصل إلا ركعتين.
ومن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الظهر أو العصر أو العشاء في السفر أربعا، فقد أخطأ. والحديث المروي في ذلك عن عائشة هو حديث ضعيف في الأصل، مع ما وقع فيه من التحريف. فإن لفظ الحديث: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أفطرتَ وصمتُ وقصرتَ وأتممتُ فقال: (أصبت يا عائشة) فهذا مع ضعفه وقيام الأدلة على أنه باطل. روي أن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر ويصوم، ويقصر ويتم، فظن بعض الأئمة أن الحديث فيه: أنها روت الأمرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا: أن السنة للمسافر أن يصلي ركعتين، والأئمة متفقون على أن هذا هو الأفضل، إلا قولا مرجوحا للشافعي. وأكثر الأئمة يكرهون التربيع للمسافر، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في أنص الروايتين عنه. ثم من هؤلاء من يقول: لا يجوز التربيع، / كقول أبي حنيفة. ومنهم من يقول: يجوز مع الكراهة، كقول مالك، وأحمد. فيقال: لو كان الله يحب للمسافر أن يصلي ركعتين، ثم ركعتين، لكان يستحب له أن يصلي الفرض أربعا، فإن التقرب إليه ببعض الظهر أفضل من التقرب إليه بالتطوع مع الظهر. ولهذا أوجب على المقيم أربعا، فلو أراد المقيم أن يصلي ركعتين فرضا، وركعتين تطوعا، لم يجز له ذلك. والله ـ تعالى ـ لا يوجب عليه وينهاه عن شيء إلا والذي أمره به خير من الذي نهاه عنه، فعلم أن صلاة الظهر أربعا خير عند الله من أن يصليها ركعتين مع ركعتين تطوعا. فلما كان ـ سبحانه ـ لم يستحب للمسافر التربيع بخير الأمرين عنده، فلأن لا يستحب التربيع بالأمر المرجوح عنده أولى.
فثبت بهذا الاعتبار الصحيح أن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أكمل الأمور، وأن هديه خير الهدي، وأن المسافر إذا اقتصر على ركعتي الفرض، كان أفضل له من أن يقرن بهما ركعتي السنة.
وبهذا يظهر أن الجمعة إذا كانت ظهرا مقصورة، لم يكن من السنة أن يقرن بها سنة ظهر المقيم، بل تجعل كظهر المسافر المقصورة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر ركعتي الفجر والوتر، ويصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه / لا يصلي عليها المكتوبة. وهذا لأن الفجر لم تقصر في السفر، فبقيت سنتها على حالها، بخلاف المقصورات في السفر، والوتر مستقل بنفسه كسائر قيام الليل، وهو أفضل الصلاة بعد المكتوبة، وسنة الفجر تدخل في صلاة الليل من بعض الوجوه. فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليه في السفر، لاستقلاله وقيام المقتضي له.
والصواب أن يقال: ليس قبل الجمعة سنة راتبة مقدرة، ولو كان الأذانان على عهده؛ فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة). ثم قال في الثالثة: (لمن شاء)؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة. فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الصلاة مشروعة قبل العصر، وقبل العشاء الآخرة، وقبل المغرب، وأن ذلك ليس بسنة راتبة. وكذلك قد ثبت أن أصحابه كانوا يصلون بين أذاني المغرب، وهو يراهم فلا ينهاهم، ولا يأمرهم، ولا يفعل هو ذلك. فدل على أن ذلك فعل جائز.
وقد احتج بعض الناس على الصلاة قبل الجمعة بقوله: (بين كل أذانين صلاة) وعارضه غيره فقال: الأذان الذي على المنائر لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عثمان أمر به لما كثر الناس على عهده ولم يكن يبلغهم الأذان حين خروجه وقعوده على المنبر. ويتوجه أن يقال: هذا الأذان لما سنه عثمان، / واتفق المسلمون عليه، صار أذانا شرعيا. وحينئذ، فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة، وليست سنة راتبة، كالصلاة قبل صلاة المغرب. وحينئذ، فمن فعل ذلك لم ينكر عليه، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه. وهذا أعدل الأقوال، وكلام الإمام أحمد يدل عليه.
وحينئذ، فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يظنون أن هذه سنة راتبة، أو أنها واجبة، فتترك حتى يعرف الناس أنها ليست سنة راتبة، ولا واجبة، لا سيما إذا داوم الناس عليها فينبغي تركها أحيانا حتى لا تشبه الفرض، كما استحب أكثر العلماء ألا يداوم على قراءة السجدة يوم الجمعة، مع أنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، فإذا كان يكره المداومة على ذلك، فترك المداومة على ما لم يسنه النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وإن صلاها الرجل بين الأذانين أحيانا؛ لأنها تطوع مطلق، أو صلاة بين الأذانين، كما يصلي قبل العصر والعشاء، لا لأنها سنة راتبة فهذا جائز. وإن كان الرجل مع قوم يصلونها، فإن كان مطاعا إذا تركها ـ وبين لهم السنة ـ لم ينكروا عليه، بل عرفوا السنة فتركها حسن، وإن لم يكن مطاعا ورأي أن في صلاتها تاليفا لقلوبهم إلى ما هو أنفع، أو دفعا للخصام والشر لعدم التمكن من بيان الحق لهم، وقبولهم له، / ونحو ذلك، فهذا ـ أيضًا ـ حسن.
فالعمل الواحد يكون فعله مستحبا تارة، وتركه تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه، بحسب الأدلة الشرعية. والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين، بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه) والحديث في الصحيحين. فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح، وهو حدثان عهد قريش بالإسلام لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة.
ولذلك استحب الأئمة ـ أحمد وغيره ـ أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل، إذا كان فيه تاليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل، بأن يسلم في الشفع، ثم يصلي ركعة الوتر، وهو يؤم قوما لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل، كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه، وكذلك لو كان ممن يري المخافتة بالبسملة أفضل، أو الجهر بها، وكان المأمومون على خلاف رأيه، / ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتاليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزا حسنا.
وكذلك لو فعل خلاف الأفضل لأجل بيان السنة وتعليمها لمن لم يعلمها، كان حسنًا، مثل أن يجهر بالاستفتاح أو التعوذ أو البسملة ليعرف الناس أن فعل ذلك حسن مشروع في الصلاة، كما ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب جهر بالاستفتاح، فكان يكبر ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. قال الأسود بن يزيد: صليت خلف عمر أكثر من سبعين صلاة، فكان يكبر، ثم يقول ذلك. رواه مسلم في صحيحه. ولهذا شاع هذا الاستفتاح حتى عمل به أكثر الناس. وكذلك كان ابن عمر وابن عباس يجهران بالاستعاذة، وكان غير واحد من الصحابة يجهر بالبسملة وهذا عند الأئمة الجمهور الذين لا يرون الجهر بها سنة راتبة كان ليعلم الناس أن قراءتها في الصلاة سنة، كما ثبت في الصحيح أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن جهرًا، وذكر أنه فعل ذلك ليعلم الناس أنها سنة. وذلك أن الناس في صلاة الجنازة على قولين:
منهم من لا يري فيها قراءة بحال، كما قاله كثير من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.
/ومنهم من يري القراءة فيها سنة،كقول الشافعي،وأحمد لحديث ابن عباس هذا وغيره.
ثم من هؤلاء من يقول: القراءة فيها واجبة كالصلاة.
ومنهم من يقول: بل هي مستحبة، ليست واجبة. وهذا أعدل الأقوال الثلاثة. فإن السلف فعلوا هذا، وهذا، وكان كلا الفعلين مشهورا بينهم، كانوا يصلون على الجنازة بقراءة وغير قراءة، كما كانوا يصلون تارة بالجهر بالبسملة، وتارة بغير جهر بها، وتارة باستفتاح، وتارة بغير استفتاح، وتارة برفع اليدين في المواطن الثلاثة، وتارة بغير رفع اليدين، وتارة يسلمون تسليمتين، وتارة تسليمة واحدة. وتارة يقرؤون خلف الإمام بالسر، وتارة لا يقرؤون. وتارة يكبرون على الجنازة أربعا، وتارة خمسا، وتارة سبعا. كان فيهم من يفعل هذا، وفيهم من يفعل هذا. كل هذا ثابت عن الصحابة.
كما ثبت عنهم أن منهم من كان يرجع في الأذان، ومنهم من لم يرجع فيه.
ومنهم من كان يوتر الإقامة، ومنهم من كان يشفعها، وكلاهما ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم
/فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر،فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزا. وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة، كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانا لمصلحة راجحة. وهذا واقع في عامة الأعمال، فإن العمل الذي هو في جنسه أفضل، قد يكون في مواطن غيره أفضل منه، كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء. ثم الصلاة بعد الفجر والعصر منهي عنها، والقراءة والذكر والدعاء أفضل منها في تلك الأوقات وكذلك القراءة في الركوع والسجود منهي عنها، والذكر هناك أفضل منها، والدعاء في آخر الصلاة بعد التشهد، أفضل من الذكر وقد يكون العمل المفضول أفضل بحسب حال الشخص المعين؛ لكونه عاجزا عن الأفضل، أو لكون محبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه بالمفضول أكثر، فيكون أفضل في حقه لما يقترن به من مزيد عمله وحبه وإرادته وانتفاعه، كما أن المريض ينتفع بالدواء الذي يشتهيه ما لا ينتفع بما لا يشتهيه، وإن كان جنس ذلك أفضل.
ومن هذا الباب، صار الذكر لبعض الناس في بعض الأوقات خيرا من القراءة، والقراءة لبعضهم في بعض الأوقات خيرًا من الصلاة وأمثال ذلك، لكمال انتفاعه به، لا لأنه في جنسه أفضل.
/وهذا الباب ـ باب تفضيل بعض الأعمال على بعض ـ إن لم يعرف فيه التفضيل، وأن ذلك قد يتنوع بتنوع الأحوال في كثير من الأعمال، وإلا وقع فيها اضطراب كثير. فإن في الناس من إذا اعتقد استحباب فعل ورجحانه، يحافظ عليه ما لا يحافظ على الواجبات، حتى يخرج به الأمر إلى الهوي والتعصب والحمية الجاهلية، كما تجده فيمن يختار بعض هذه الأمور فيراها شعارا لمذهبه.
ومنهم من إذا رأي ترك ذلك هو الأفضل، يحافظ ـ أيضا ـ على هذا الترك أعظم من محافظته على ترك المحرمات، حتى يخرج به الأمر إلى اتباع الهوي والحمية الجاهلية، كما تجده فيمن يري الترك شعارا لمذهبه، وأمثال ذلك، وهذا كله خطأ.
والواجب أن يعطي كل ذي حق حقه، ويوسع ما وسعه الله ورسوله، ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله، ويراعي في ذلك ما يحبه الله ورسوله