/وَقَالَ ـ رحَمهُ اللّه:
فصل
في الأخذ من غير سؤال.
في الصحيح حديث حكيم بن حزام: لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد مرة، ثم قال: (ياحكيم، إن هذا المال خَضِرةٌ حُلْوةٌ، فمن أخـذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيـه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلي). قـال حكيم: فقلت: يا رسول اللّه، والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتي أفارق الدنيا. فكان أبو بكـر ـ رضي اللّه عنـه ـ يدعو حكيماً ليعطيه العطاء، فيأبي أن يقبل منه شيئاً، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: يامعشر المسلمين. وفي روايـة: إني أشهدكم يا معشر المسلمين، إني أعرض على حكيم حقه الذي قسم اللّه له في هذا الفيء فيأبي أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
/قوله: لم يرزأ، أي: لم ينقص، لا لم يسأل، كما يدل عليه السياق.
ففيه أن حكيماً ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل من أحد شيئاً، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وكذلك الخلفاء بعده، وهذا حجة في جواز الرد، وإن كان عن غير مسألة ولا إشراف.
وقوله: (اليد العليا خير من اليد السفلي) تنبيه له على أن يد الآخذ سفلي. وقد سئل أحمد عن حجة لذلك من الآية، فلم يعرفها، وهذه حجة جيدة.
وقد روي فيه زيادات مثل قوله: (إن خيرآً لك ألا تأخذ من أحد شيئاً)، لكن ينظر إسناده، فهو صريح في تفضيل عدم الأخذ مطلقاً.
/ كتاب الصيام
سُئِلَ شيخ الإِسلام ـ رَحمهُ اللّه ـ عن صوم يوم الغَيم: هل هو واجب أم لا؟ وهل هو يوم شك منهي عنه أم لا ؟
فأجاب:
فصل
وأما صوم يوم الغيم إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قَتَرٌ، فللعلماء فيه عدة أقوال وهي في مذهب أحمد وغيره.
أحدها: أن صومه منهي عنه. ثم هل هو نهى تحريم أو تنزيه؟ على قولين، وهذا هو المشهور في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدي الروايات عنه. واختار ذلك طائفة من أصحابه، كأبي الخطاب /وابن عقيل، وأبي القاسم بن منده الأصفهاني وغيرهم.
والقول الثاني: أن صيامه واجب كاختيار القاضي، والخرقي، وغيرهما من أصحاب أحمد، وهذا يقال: إنه أشهر الروايات عن أحمد، لكن الثابت عن أحمد ـ لمن عرف نصوصه، وألفاظه ـ أنه كان يستحب صيام يوم الغَيم اتباعاً لعبد اللّه بن عمر وغيره من الصحابة، ولم يكن عبد اللّه بن عمر يوجبه على الناس، بل كان يفعله احتياطاً، وكان الصحابة فيهم من يصومه احتياطاً، ونقل ذلك عن عمر، وعلي، ومعاوية وأبي هريرة، وابن عمر، وعائشة، وأسماء وغيرهم.
ومنهم من كان لا يصومه مثل كثير من الصحابة، ومنهم من كان ينهى عنه؛ كعمار بن ياسر وغيره، فأحمد ـ رضي اللّه عنه ـ كان يصومه احتياطاً.
وأما إيجاب صومه، فلا أصل له في كلام أحمد، ولا كلام أحد من أصحابه، لكِنْ كثير من أصحابه اعتقدوا أن مذهبه إيجاب صومه، ونصروا ذلك القول.
والقول الثالث: أنه يجوز صومه، ويجوز فطره، وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه،وهو /مذهب كثير من الصحابة والتابعين أو أكثرهم. وهذا كما أن الإمساك عند الحائل عن روية الفجر جائز، فإن شاء أمسك، وإن شاء أكل حتي يتيقن طلوع الفجر، وكذلك إذا شك هل أحدث أم لا ؟ إن شاء توضأ، وإن شاء لم يتوضأ. وكذلك إذا شك: هل حال حول الزكاة أو لم يحل؟ وإذا شك: هل الزكاة الواجبة عليه مائة أو مائة وعشرون ؟ فأدى الزيادة.
وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الاحتياط ليس بواجب، ولا محرم، ثم إذا صامه بنية مطلقة، أو بنية معلقة، بأن ينوي إن كان من شهر رمضان كان عن رمضان، وإلا فلا، فإن ذلك يجزيه في مذهب أبي حنيفة، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وهي التي نقلها المروزي وغيره، وهذا اختيار الخِرَقي في شرحه للمختصر، واختيار أبي البركات وغيرهما.
والقول الثاني: أنه لا يجزيه إلا بنية أنه من رمضان، كإحدي الروايتين عن أحمد، اختارها القاضي، وجماعة من أصحابه.
وأصل هذه المسألة: أن تعيين النية لشهر رمضان: هل هو واجب؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد:
/أحدها: أنه لا يجزيه، إلا أن ينوي رمضان، فإن صام بنية مطلقة، أو معلقة، أو بنية النفل أو النذر؛ لم يجزئه ذلك كالمشهور من مذهب الشافعي، وأحمد في إحدي الروايات.
والثاني: يجزئه مطلقاً كمذهب أبي حنيفة.
والثالث: أنه يجزئه بنية مطلقة، لابنية تعيين، غير رمضان، وهذه الرواية الثالثة عن أحمد، وهي اختيار الخرقي، وأبي البركات.
وتحقيق هذه المسألة: أن النية تتبع العلم، فإن علم أن غداً من رمضان، فلابد من التعيين في هذه الصورة،فإن نوي نفلاً أو صوماً مطلقاً لم يجزه؛لأن اللّه أمره أن يقصد أداء الواجب عليه، وهو شهر رمضان الذي علم وجوبه، فإذا لم يفعل الواجب لم تبرأ ذمته.
وأما إذا كان لا يعلم أن غداً من شهر رمضان، فهنا لا يجب عليه التعيين، ومن أوجب التعيين مع عدم العلم، فقد أوجب الجمع بين الضدين.
فإذا قيل: إنه يجوز صومه وصام في هذه الصورة بنية مطلقة، أو معلقة أجزأه. وأما إذا قصد صوم ذلك تطوعاً، ثم تبين أنه كان /من شهر رمضان، فالأشبه أنه يجزئه ـ أيضاً ـ كمن كان لرجل عنده وديعة، ولم يعلم ذلك، فأعطاه ذلك على طريق التبرع، ثم تبين أنه حقه، فإنه لا يحتاج إلى إعطائه ثانياً، بل يقول: ذلك الذي وصل إليك هو حق كان لك عندي، واللّه يعلم حقائق الأمور. والرواية التي تروي عن أحمد أن الناس فيه تبع للإمام في نيته، على أن الصوم والفطر بحسب ما يعلمه الناس، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صَومُكُم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون).
وقد تنازع الناس في [الهلال]: هل هو اسم لما يطلع في السماء وإن لم يره أحد ؟ أو لا يسمي هلالاً حتي يستهل به الناس ويعلموه ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره.
وعلى هذا ينبني النزاع فيما إذا كانت السماء مطبقة بالغيم، أو في يوم الغيم مطلقاً: هل هو يوم شك ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره:
أحدها: أنه ليس بشك، بل الشك إذا أمكنت رؤيته، وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي وغيرهم.
والثاني: أنه شك لإمكان طلوعه.
/والثالث: أنه من رمضان حكماً، فلا يكون يوم شك، وهو اختيار طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم.
وقد تنازع الفقهاء في المنفرد برؤية هلال الصوم والفطر: هل يصوم ويفطر وحده؟ أو لا? يصوم ولا يفطر إلا مع الناس ؟ أو يصوم وحده ويفطر مع الناس ؟ على ثلاثة أقوال معروفة في مذهب أحمد وغيره.
وَقَالَ ـ رحمهُ اللّه:
فصل
مسألة رؤية بعض البلاد رؤية لجميعها فيها اضطراب، فإنه قد حكي ابن عبد البر الإجماع على أن الاختلاف فيما يمكن اتفاق المطالع فيه، فأما ما كان مثل الأندلس وخراسان فلا خلاف أنه لا يعتبر.
قلت: أحمد اعتمد في ال
باب على حديث الأعرابي الذي شهد أنه أهل الهلال البارحة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس على هذه الرؤية، مع أنها كانت في غير البلد، وما يمكن أن تكون فوق مسافة القصر، ولم يست
فصله، وهذا الاستدلال لا ينافي ما ذكره ابن عبد البر، لكن ما حد ذلك؟
/والذين قالوا: لا تكون رؤية لجميعها ـ كأكثر أصحاب الشافعي ـ منهم من حدد ذلك بمسافة القصر، ومنهم من حدد ذلك بما تختلف فيه المطالع، كالحجاز مع الشام، والعراق مع خراسان، وكلاهما ضعيف؛ فإن مسافة القصر لا تعلق لها بالهلال، وأما الأقاليم فما حدد ذلك ؟ ثم هذان خطأ من وجهين:
أحدهما: أن الرؤية تختلف باختلاف التشريق والتغريب، فإنه متي رؤي في المشرق وجب أن يري في المغرب ولا ينعكس؛ لأنه يتأخر غروب الشمس بالمغرب عن وقت غروبها بالمشرق، فإذا كان قد رؤي ازداد بالمغرب نوراً وبعداً عن الشمس وشعاعها وقت غروبها، فيكون أحق بالرؤية، وليس كذلك إذا رؤي بالمغرب؛ لأنه قد يكون سبب الرؤية تأخر غروب الشمس عندهم، فازداد بعداً وضوءاً، ولما غربت بالمشرق كان قريباً منها.
ثم إنه لما رؤي بالمغرب كان قد غرب عن أهل المشرق، فهذا أمر محسوس في غروب الشمس والهلال وسائر الكواكب؛ ولذلك إذا دخل وقت المغرب بالمغرب دخل بالمشرق ولا ينعكس، وكذلك الطلوع إذا طلعت بالمغرب طلعت بالمشرق ولا ينعكس، فطلوع الكواكب وغروبها بالمشرق سابق.
/وأما الهلال فطلوعه ورؤيته بالمغرب سابق؛ لأنه يطلع من المغرب، وليس في السماء ما يطلع من المغرب غيره، وسبب ظهوره بُعْده عن الشمس، فكلما تأخر غروبها ازداد بُعْده عنها، فمن اعتبر بعد المساكن مطلقاً فلم يتمسك بأصل شرعي ولا حسي.
وأيضا، فإن هلال الحج مازال المسلمون يتمسكون فيه برؤية الحجاج القادمين، وإن كان فوق مسافة القصر.
الوجه الثاني: أنه إذا اعتبرنا حداً ـ كمسافة القصر، أو الأقاليم ـ فكان رجل في آخر المسافة والإقليم، فعليه أن يصوم ويفطر وينسك، وآخر بينه وبينه غلوة سهم لا يفعل شيئاً من ذلك، وهذا ليس من دين المسلمين.
فالصواب في هذا ـ واللّه أعلم ـ ما دل عليه قوله: (صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون)، فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد؛ وجب الصوم.
وكذلك إذا شهد بالرؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب؛ فعليهم إمساك ما بقي، سواء كان من إقليم أو إقليمين.
/والاعتبار ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد،فأما إذا بلغتهم الرؤية بعد غروب الشمس، فالمستقبل يجب صومه بكل حال، لكن اليوم الماضي: هل يجب قضاؤه؟ فإنه قد يبلغهم في أثناء الشهر أنه رؤي بإقليم آخر، ولم ير قريباً منهم، الأشبه أنه إن رؤي بمكان قريب، وهو ما يمكن أن يبلغهم خبره في اليوم الأول، فهو كما لو رؤي في بلدهم ولم يبلغهم.
وأما إذا رؤي بمكان لا يمكن وصول خبره إليهم إلا بعد مضي الأول، فلا قضاء عليهم؛ لأن صوم الناس هو اليوم الذي يصومونه، ولا يمكن أن يصوموا إلا اليوم الذي يمكنهم فيه رؤية الهلال، وهذا لم يكن يمكنهم فيه بلوغه، فلم يكن يوم صومهم، وكذلك في الفطر والنسك، لكن هؤلاء هل يفطرون إذا ثبت عندهم في أثناء الشهر أنه رؤي بناء على تلك الرؤية؟ لكن إن بلغتهم بخبر واحد لم يفطروا؛ لأنه قد ثبت عندهم في أثنائه ما يفطرون به، ولا يقضون اليوم الأول، فيكون صومهم تسعة وعشرين كما يقوله من يقول بالمطالع، إذا صام برؤية مكان ثم سافر إلى مكان تقدمت رؤيتهم، فإنه يفطر معهم، ولا يقضي اليوم الأول.
وإن تأخرت رؤيتهم فهنا اختلفت نقول أصحابنا، إن قالوا: يفطر /وحده، فهو كما لو رآه عندهم لم يفطر وحده عندنا على المشهور، وإن صام معهم، فقد صام إحدي وثلاثين يوماً.
والأشبه أن هذه المسألة يخرج فيها لأصحابنا قولان كالمنفرد برؤيته في الفطر؛ لأن انفراد الرجل بالفطر هو المحذور في الموضعين، ورؤية أهل بلد دون غيرهم كرؤيته ورؤية طائفة معه دون غيرهم. وأما هلال الفطر، فإذا ثبتت رؤيته في اليوم عملوا بذلك، وإن كان بعد ذلك لم يكن فيه فائدة، بل العيد هو اليوم الذي عيده الناس، ولكن نقل التاريخ.
فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ؛ لقوله: (صوموا لرؤيته)، فمن بلغه أنه رؤي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر، في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما إلا بعد شهر، فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن الذي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر، فإنها محل الاعتبار، فتدبر هذه المسائل الأربعة: وجوب الصوم، والإمساك، ووجوب القضاء، ووجوب بناء العيد على تلك الرؤية، ورؤية البعيد، والبلاغ في وقت بعد انقضاء العبادة.
ولهذا قالوا: إذا أخطأ الناس كلهم، فوقفوا في غير يوم عرفة /أجزأهم اعتباراً بالبلوغ، وإذا أخطأه طائفة منهم لم يجزهم لإمكان البلوغ، فالبلوغ هو المعتبر، سواء كان علم به للبعد، أو للقلة، وهذا الذي ذكرته هو الذي ذكره أصحابنا إلا وجوب القضاء إذا لم يكن مما يمكنهم فيه بلوغ الخبر.
والحجة فيه أنا نعلم بيقين أنه مازال في عهد الصحابة والتابعين يري الهلال في بعض أمصار المسلمين بعد بعض، فإن هذا من الأمور المعتادة التي لا تبديل لها، ولابد أن يبلغهم الخبر في أثناء الشهر، فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته في سائر بلدان الإسلام، كتوفرها على البحث عن رؤيته في بلده، ولكان القضاء يكثر في أكثر الرمضانات، ومثل هذا لو كان لنقل، ولما لم ينقل دل على أنه لا أصل له، وحديث ابن عباس يدل على هذا.
وقد أجاب أصحابنا بأنه إنما لم يفطر؛ لأنه لم يثبت عنده إلا بقول واحد، فلا يفطر به، ولا يقال: أصحابنا كذلك ـ أيضاً ـ لم ينقل أنهم كانوا إذا بلغهم الهلال في أثناء الشهر بنوا فطرهم عليه.
قلنا: لأن ذاك أمر لا تتعلق الهمم بالبحث عنه؛ لأن فيه ترك /صوم يوم، فإن ثبت عندهم، وإلا فالاحتياط الصوم؛ لأن ذاك الخبر قد يكون ضعيفاً، مع أن هذه المسألة فيها نظر.
ولو قيل: إذا بلغهم الخبر في أثناء الشهر لم يبنوا إلا على رؤيتهم، بخلاف ما إذا بلغهم في اليوم الأول لكان له وجه،بل الرؤية القليلة لو لم تبلغ الإنسان إلا في أثناء الشهر، ففي وجوب قضاء ذلك اليوم نظر، وإن كان يفطر بها؛ لأن قوله: (صومكم يوم تصومون) دليل على أن ذلك لم يكن يوم صومنا؛ ولأن التكليف يتبع العلم، ولا علم ولا دليل ظاهر، فلا وجوب، وطرد هذا: أن الهلال إذا ثبت في أثناء يوم قبل الأكل أو بعده أتموا وأمسكوا، ولا قضاء عليهم، كما لو بلغ صبي أو أفاق مجنون على أصح الأقوال الثلاثة.
فقد قيل: يمسك ويقضي. وقيل: لا يجب واحد منهما. وقيل: يجب الإمساك دون القضاء.
فإن الهلال مأخوذ من الظهور، ورفع الصوت، فطلوعه في السماء إن لم يظهر في الأرض، فلا حكم له لا باطناً ولا ظاهراً، واسمه مشتق من فعل الآدميين يقال: أهللنا الهلال، واستهللناه، فلا هلال إلا ما استهل، فإذا استهله الواحد والاثنان فلم يخبرا به، فلم يكن ذاك هلالاً، فلا يثبت به حكم حتي يخبرا به، فيكون خبرهما هو الإهلال الذي هو رفع الصوت /بالإخبار به؛ ولأن التكليف يتبع العلم، فإذا لم يمكن علمه لم يجب صومه.
ووجوب القضاء إذا كان الترك بغير تفريط يفتقر إلى دليل؛ ولأنه لو وجب القضاء أو استحب إذا بلغ رؤيته المكان البعيد، أو رؤية النفر القليل في أثناء الشهر؛ لاستحب الصوم يوم الشك مع الصحو، بل يوم الثلاثين مطلقاً؛ لأنه يمكن أن يخبر القليل أو البعيد برؤيته في أثناء الشهر فيستحب الصوم احتياطاً، وما من شيء في الشريعة يمكن وجوبه إلا والاحتياط مشروع في أدائه، فلما لم يشرع الاحتياط في أدائه، قطعنا بأنه لا وجوب مع بُعْد الرائي أو خفائه، حتي يكون الرائي قريباً ظاهراً، فتكون رؤيته إهلالاً يظهر به الطلوع. وقد يحتج بهذا من لم يحتط في الغيم.
ولكن يجاب عنه: بأن طلوعه ـ هذا ـ مثال ظاهر أو مساوٍ، وإنما الحاجب مانع، كما لو كانوا ليلة الثلاثين في مغارة، أو مطمورة، وقد تعذر الترائي.
ولأن الذين لم يوجبوا التبييت، أصل مأخذهم: إجزاء يوم الشك، فإن بلوغ الرؤية قبل الزوال كثير، كيوم عاشوراء، وإيجاب القضاء فيه عسر لكثرة وقوع مثل ذلك، وعدم شهرة وجوب القضاء في السلف.
وجواب هذا: أنه لا يلزم من وجوب الإمساك وجوب القضاء، /فإنه لا وجوب إلا من حين الإهلال والرؤية؛ لا من حين الطلوع؛ ولأن الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر يدل على هذا؛ لأن ما ذكره إذا لم يبلغ الخبر إلا بعد مضي الشهر؛ لم يبق فيه فائدة إلا وجوب القضاء، فعلم أن القضاء لا يجب برؤية بعيدة مطلقاً.
فتلخص: أنه من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يؤدي بتلك الرؤية الصوم، أو الفطر، أو النسك؛ وجب اعتبار ذلك بلا شك، والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك.
ومن حدد ذلك بمسافة قصر أو إقليم، فقوله مخالف للعقل والشرع.
ومن لم يبلغه إلا بعد الأداء، وهو مما لا يقضي كالعيد المفعول، والنسك، فهذا لا تأثير له، وعليه الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر.
وأما إذا بلغه في أثناء المدة، فهل يؤثر في وجوب القضاء وفي بناء الفطر عليه ؟ وكذلك في بقية الأحكام: من حلول الدين، ومدة الإيلاء وانقضاء العدة، ونحو ذلك. والقضاء يظهر لي أنه لا يجب وفي بناء الفطر عليه نظر.
فهذا متوسط في المسألة، وما من قول سواه إلا وله لوازم شنيعة /لا سيما من قال بالتعدد، فإنه يلزمه في المناسك ما يعلم به خلاف دين الإسلام، إذا رأي بعض الوفود أو كلهم الهلال، وقدموا مكة، ولم يكن قد رؤي قريباً من مكة، ولما ذكرناه من فساده صار متنوعاً، والذي ذكرناه يحصل به الاجتماع الشرعي، كل قوم على ما أمكنهم الاجتماع عليه، وإذا خالفهم من لم يشعروا بمخالفته لانفراده من الشعور بما ليس عندهم لم يضر هذا، وإنما الشأن من الشعور بالفرقة والاختلاف.
وتحقيق ذلك العلم بالأهلة، فقال: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وهذا يدل على أنه أراد المعلوم ببصر أو سمع؛ ولهذا ذهب الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين: إلا أنه إذا كانت السماء مصحية ولم يحصل أحد على الرؤية أنه ليس بشك؛ لانتفاء الشك في الهلال، وإن وقع شك في الطلوع، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن الهلال على وزن فعال. وهذا المثال في كلام العرب لما يفعل به كالإزار: لما يؤتزر به، والرداء: لما يرتدي به، والركاب: لما يركب به، والوعاء: لما يوعي فيه وبه، والسماد: لما تسمد به الأرض، والعصاب: لما يعصب به، والسداد: لما يسد به، وهذا كثير مطرد في الأسماء.
/فالهلال اسم لما يهل به، أي: يصات به، والتصويت به لا يكون إلا مع إدراكه ببصر أو سمع، ويدل عليه قول الشاعر:
يهل بالفرقد ركبانها ** كما يهل الراكب المعتمر
أي: يصوتون بالفرقد، فجعلهم مهلين به؛ فلذلك سمي هلالاً. ومنه قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ} [البقرة: 137] أي:صوت به، وسواء كان التصويت به رفيعاً أو خفيضاً، فإنه مما تكلم به، وجهر به لغير اللّه، ونطق به.
الوجه الثاني: أنه جعلها مواقيت للناس، ولا تكون مواقيت لهم إلا إذا أدركوها ببصر أو سمع، فإذا انتفي الإدراك انتفي التوقيت، فلا تكون أهلة، وهو غاية ما يمكن ضبطه من جهة الحس، إذ ضبط مكان الطلوع بالحساب لا يصح أصلا، وقد صنفت في ذلك شيئاً.
وهذه المسألة تنبني عليه ـ أيضاً ـ فإنه ليس في قوي البشر أن يضبطوا للرؤية زماناً ومكاناً محدوداً، وإنما يضبطون ما يدركونه
بابصارهم أو ما يسمعونه بآذانهم، فإذا كان الواجب تعليقه في حق من رأي بالرؤية، ففي حق من لم ير بالسماع، ومن لا رؤية له ولا سماع، فلا إهلال له، واللّه هو المسؤول أن يتم نعمته علينا وعلى المسلمين.
/ وسئل ـ قدس اللّه روحه ـ عن رجل رأي الهلال وحده، وتحقق الرؤية، فهل له أن يفطر وحده؟ أو يصوم وحده ؟ أو مع جمهور الناس؟
فأجاب:
الحمد للّه، إذا رأي هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده، فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه؟ أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس؟ على ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد:
أحدها: أن عليه أن يصوم، وأن يفطر سراً، وهو مذهب الشافعي.
والثاني: يصوم ولا يفطر إلا مع الناس، وهو المشهور من مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة.
والثالث: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر /الأقوال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون) رواه الترمذي، وقال حسن غريب، ورواه أبو داود، وابن ماجه، وذكر الفطر والأضحي فقط. ورواه الترمذي من حديث عبد اللّه بن جعفر، عن عثمان بن محمد، عن المقبري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحي يوم تضحون) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، قال: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: إنما معني هذا الصوم والفطر مع الجماعة، وعظم الناس. ورواه أبو داود بإسناد آخر، فقال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد من حديث أيوب، عن محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه فقال: (وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل مني منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف).
ولأنه لو رأي هلال النحر لما اشتهر، والهلال اسم لما استهل به، فإن اللّه جعل الهلال مواقيت للناس والحج، وهذا إنما يكون إذا استهل به الناس، والشهر بَين، وإن لم يكن هلالاً ولا شهراً.
وأصل هذه المسألة: أن اللّه ـ سبحانه وتعالي ـ علق أحكاماً شرعية/ بمسمي الهلال والشهر، كالصوم والفطر والنحر، فقال تعالي: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. فبين ـ سبحانه أن الأهلة مواقيت للناس والحج.
قال تعالي: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى قوله:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة:183، 185] أنه أوجب صوم شهر رمضان، وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه: أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء، وإن لم يعلم به الناس وبه يدخل الشهر؟ أو الهلال اسم لما يستهل به الناس، والشهر لما اشتهر بينهم؟ على قولين:
فمن قال بالأول يقول: من رأي الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم، ودخل شهر رمضان في حقه، وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان، وإن لم يعلم غيره. ويقول: من لم يره إذا تبين له أنه كان طالعاً قضي الصوم، وهذا هو القياس في شهر الفطر، وفي شهر النحر، لكن شهر النحر ما علمت أن أحداً قال: من رآه يقف وحده، دون سائر الحاج، وأنه ينحر في اليوم الثاني، ويرمي جمرة العقبة، ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر، فالأكثرون ألحقوه بالنحر،وقالوا: لا يفطر إلا مع المسلمين، وآخرون قالوا: بل الفطر كالصوم، ولم يأمر اللّه العباد بصوم واحد وثلاثين يوماً، وتناقض /هذه الأقوال يدل على أن الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة.
وحينئذ، فشرط كونه هلالاً وشهراً شهرته بين الناس. واستهلال الناس به حتي لو رآه عشرة، ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد؛ لكون شهادتهم مردودة، أو لكونهم لم يشهدوا به، كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين، فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين، وهذا معني قوله:(صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون)؛ ولهذا قال أحمد في روايته: يصوم مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم. قال أحمد: يد اللّه على الجماعة.
وعلى هذا تفترق أحكام الشهر: هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم ؟ أو ليس شهراً في حقهم كلهم؟ يبين ذلك قوله تعالي: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فإنما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس، حتي يتصور شهوده، والغيبة عنه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)،(وصوموا من الوَضح إلى الوَضَح) ونحو ذلك خطاب للجماعة، لكن من كان في مكان ليس فيه غيره، إذا رآه صامه، فإنه /ليس هناك غيره، وعلى هذا، فلو أفطر ثم تبين أنه رؤي في مكان آخر، أو ثبت نصف النهار؛ لم يجب عليه القضاء، وهذا إحدي الروايتين عن أحمد، فإنه إنما صار شهرًا في حقهم من حين ظهر، واشتهر، ومن حينئذ وجب الإمساك كأهل عاشوراء، الذين أمروا بالصوم في أثناء اليوم، ولم يؤمروا بالقضاء علىالصحيح، وحديث القضاء ضعيف. والله أعلم.
/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
فصل
وأما الأصل الثالث: فالصيام
وقد اختلفوا في تبييت نيته على ثلاثة أقوال:
فقالت طائفة ـ منهم أبو حنيفة ـ: إنه يجزئ كل صوم فرضًا كان أو نفلا بنية قبل الزوال، كما دل عليه حديث عاشوراء، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على عائشة فلم يجد طعامًا، فقال: (إني إذا صائم).
وبإزائها طائفة أخري ـ منهم مالك ـ قالت: لا يجزئ الصوم إلا مبيتًا من الليل، فرضا كان أو نفلاً على ظاهر حديث حفصة، /وابن عمر الذي يروي مرفوعًا وموقوفًا: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل).
وأما القول الثالث: فالفرض لا يجزئ إلا بتبييت النية، كما دل عليه حديث حفصة وابن عمر؛ لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم، والنية لا تنعطف على الماضي، وأما النفل فيجزئ بنية من النهار، كما دل عليه قوله: (إني إذًا صائم) كما أن الصلاة المكتوبة يجب فيها من الأركان ـ كالقيام والاستقرار على الأرض ـ ما لا يجب في التطوع توسيعا من الله على عباده في طرق التطوع، فإن أنواع التطوعات دائما أوسع من أنواع المفروضات، وصومهم يوم عاشوراء ـ إن كان واجبا ـ فإنما وجب عليهم من النهار؛ لأنهم لم يعلموا قبل ذلك، وما رواه بعض الخلافيين المتأخرين: أن ذلك كان في رمضان، فباطل لا أصل له.
وهذا أوسط الأقوال، وهو قول الشافعي وأحمد. واختلف قولهما: هل يجزئ التطوع بنية بعد الزوال؟ والأظهر صحته، كما نقل عن الصحابة.
واختلف أصحابهما في الثواب: هل هو ثواب يوم كامل؟ أو من حين/نواه؟ والمنصوص عن أحمد: أن الثواب من حين النية.
وكذلك اختلفوا في التعيين، وفيه ثلاثة أقوال ـ في مذهب أحمد وغيره:
أحدها: أنه لابد من نية رمضان، فلا تجزئ نية مطلقة، ولا معينة لغير رمضان، وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين، اختارها كثير من أصحابه.
الثاني: أنه يجزئ بنية مطلقة ومعينة لغيره، كمذهب أبي حنيفة ورواية محكية عن أحمد.
والثالث: أنه يجزئ بالنية المطلقة، دون نية التطوع أو القضاء أو النذر. وهو رواية عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه.
/ فصل
واختلفوا في صوم يوم الغيم، وهو ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم، أو قتر، ليلة الثلاثين من شعبان.
فقال قوم: يجب صومه بنية من رمضان احتياطًا، وهذه الرواية عن أحمد، وهي التي اختارها أكثر متأخري أصحابه، وحكوها عن أكثر متقدميهم، بناء على ما تأولوه من الحديث، وبناء على أن الغالب على شعبان هو النقص، فيكون الأظهر طلوع الهلال ـ كما هو الغالب ـ فيجب بغالب الظن.
وقالت طائفة: لا يجوز صومه من رمضان، وهذه رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه، كابن عقيل والحلواني، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، استدلالاً بما جاء من الأحاديث، وبناء على أن الوجوب لا يثبت بالشك.
وهناك قول ثالث: وهو أنه يجوز صومه من رمضان، ويجوز /فطره، والأفضل صومه من وقت الفجر، ومعلوم أنه لو عرف وقت الفجر الذي يجوز فيه طلوعه جاز له الإمساك والأكل، وإن أمسك وقت الفجر، فإنه لا معني لاستحباب الإمساك لكن....
وأكثر نصوص أحمد إنما تدل على هذا القول، وأنه كان يستحب صومه ويفعله، لا أنه يوجبه، وإنما أخذ في ذلك بما نقله عن الصحابة في مسائل ابنه عبد الله، والفضل بن زياد القطان، وغيرهم، أخد بما نقله عن عبد الله بن عمر ونحوه.
والمنقول عنهم: أنهم كانوا يصومون في حال الغيم، لا يوجبون الصوم، وكان غالب الناس لا يصومون، ولم ينكروا عليهم الترك.
وإنما لم يستحب الصوم في الصحو، بل نهى عنه؛ لأن الأصل والظاهر عدم الهلال، فصومه تقديم لرمضان بيوم. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
واختلفت الرواية عنه:هل يسمي يوم الغيم يوم الشك؟ على روايتين، وكذلك اختلف أصحابه في ذلك.
/وأما يوم الصحو عنده، فيوم شك أو يقين من شعبان، ينهى عن صومه بلا توقف. وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره، فإن المشكوك في وجوبه ـ كما لو شك في وجوب زكاة، أو كفارة أو صلاة، أو غير ذلك ـ لا يجب فعله ولا يستحب تركه، بل يستحب فعله احتياطًا، فلم تحرم أصول الشريعة الاحتياط، ولم توجب بمجرد الشك.
وأيضا، فإن أول الشهر كأول النهار، ولو شك في طلوع النهار لم يجب عليه الإمساك، ولم يحرم عليه الإمساك بقصد الصوم؛ ولأن الإغمام أول الشهر كالإغمام بالشك، بل ينهى عن صوم يوم الشك؛ لما يخاف من الزيادة في الفرض.
وعلى هذا القول يجتمع غالب المأثور عن الصحابة في هذا الباب، فإن الجماعات الذين صاموا منهم ـ كعمر وعلى ومعاوية وغيرهم ـ لم يصرحوا بالوجوب، وغالب الذين أفطروا لم يصرحوا بالتحريم. ولعل من كره الصوم منهم إنما كرهه لمن يعتقد وجوبه خشية إيجاب ما ليس بواجب، كما كره من كره منهم الاستنجاء بالماء لمن خيف عليه أن يعتقد وجوبه، وكما أمر طائفة منهم من صام في السفر أن يقضي؛ لما ظنوه به من كراهة الفطر في السفر، فتكون الكراهة عائدة إلى حال الفاعل، لا إلى نفس الاحتياط بالصوم، فإن تحريم الصوم أو إيجابه كلاهما فيه بُعْدٌ عن أصول الشريعة.
والأحاديث المأثورة في الباب إذا تؤملت إنما يصرح غالبها بوجوب الصوم بعد إكمال العدة، كما دل بعضها على الفعل قبل الإكمال، أما الإيجاب قبل الإكمال للصوم ففيهما نظر.
فهذا القول المتوسط هو الذي يدل عليه غالب نصوص أحمد.
ولو قيل بجواز الأمرين واستحباب الفطر؛ لكان عن التحريم والإيجاب، ويؤثر عن الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنهم كانوا يأكلون مع الشك في طلوع الفجر. [center][b]
فصل
في الأخذ من غير سؤال.
في الصحيح حديث حكيم بن حزام: لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد مرة، ثم قال: (ياحكيم، إن هذا المال خَضِرةٌ حُلْوةٌ، فمن أخـذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيـه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلي). قـال حكيم: فقلت: يا رسول اللّه، والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتي أفارق الدنيا. فكان أبو بكـر ـ رضي اللّه عنـه ـ يدعو حكيماً ليعطيه العطاء، فيأبي أن يقبل منه شيئاً، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: يامعشر المسلمين. وفي روايـة: إني أشهدكم يا معشر المسلمين، إني أعرض على حكيم حقه الذي قسم اللّه له في هذا الفيء فيأبي أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
/قوله: لم يرزأ، أي: لم ينقص، لا لم يسأل، كما يدل عليه السياق.
ففيه أن حكيماً ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل من أحد شيئاً، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وكذلك الخلفاء بعده، وهذا حجة في جواز الرد، وإن كان عن غير مسألة ولا إشراف.
وقوله: (اليد العليا خير من اليد السفلي) تنبيه له على أن يد الآخذ سفلي. وقد سئل أحمد عن حجة لذلك من الآية، فلم يعرفها، وهذه حجة جيدة.
وقد روي فيه زيادات مثل قوله: (إن خيرآً لك ألا تأخذ من أحد شيئاً)، لكن ينظر إسناده، فهو صريح في تفضيل عدم الأخذ مطلقاً.
/ كتاب الصيام
سُئِلَ شيخ الإِسلام ـ رَحمهُ اللّه ـ عن صوم يوم الغَيم: هل هو واجب أم لا؟ وهل هو يوم شك منهي عنه أم لا ؟
فأجاب:
فصل
وأما صوم يوم الغيم إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قَتَرٌ، فللعلماء فيه عدة أقوال وهي في مذهب أحمد وغيره.
أحدها: أن صومه منهي عنه. ثم هل هو نهى تحريم أو تنزيه؟ على قولين، وهذا هو المشهور في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدي الروايات عنه. واختار ذلك طائفة من أصحابه، كأبي الخطاب /وابن عقيل، وأبي القاسم بن منده الأصفهاني وغيرهم.
والقول الثاني: أن صيامه واجب كاختيار القاضي، والخرقي، وغيرهما من أصحاب أحمد، وهذا يقال: إنه أشهر الروايات عن أحمد، لكن الثابت عن أحمد ـ لمن عرف نصوصه، وألفاظه ـ أنه كان يستحب صيام يوم الغَيم اتباعاً لعبد اللّه بن عمر وغيره من الصحابة، ولم يكن عبد اللّه بن عمر يوجبه على الناس، بل كان يفعله احتياطاً، وكان الصحابة فيهم من يصومه احتياطاً، ونقل ذلك عن عمر، وعلي، ومعاوية وأبي هريرة، وابن عمر، وعائشة، وأسماء وغيرهم.
ومنهم من كان لا يصومه مثل كثير من الصحابة، ومنهم من كان ينهى عنه؛ كعمار بن ياسر وغيره، فأحمد ـ رضي اللّه عنه ـ كان يصومه احتياطاً.
وأما إيجاب صومه، فلا أصل له في كلام أحمد، ولا كلام أحد من أصحابه، لكِنْ كثير من أصحابه اعتقدوا أن مذهبه إيجاب صومه، ونصروا ذلك القول.
والقول الثالث: أنه يجوز صومه، ويجوز فطره، وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه،وهو /مذهب كثير من الصحابة والتابعين أو أكثرهم. وهذا كما أن الإمساك عند الحائل عن روية الفجر جائز، فإن شاء أمسك، وإن شاء أكل حتي يتيقن طلوع الفجر، وكذلك إذا شك هل أحدث أم لا ؟ إن شاء توضأ، وإن شاء لم يتوضأ. وكذلك إذا شك: هل حال حول الزكاة أو لم يحل؟ وإذا شك: هل الزكاة الواجبة عليه مائة أو مائة وعشرون ؟ فأدى الزيادة.
وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الاحتياط ليس بواجب، ولا محرم، ثم إذا صامه بنية مطلقة، أو بنية معلقة، بأن ينوي إن كان من شهر رمضان كان عن رمضان، وإلا فلا، فإن ذلك يجزيه في مذهب أبي حنيفة، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وهي التي نقلها المروزي وغيره، وهذا اختيار الخِرَقي في شرحه للمختصر، واختيار أبي البركات وغيرهما.
والقول الثاني: أنه لا يجزيه إلا بنية أنه من رمضان، كإحدي الروايتين عن أحمد، اختارها القاضي، وجماعة من أصحابه.
وأصل هذه المسألة: أن تعيين النية لشهر رمضان: هل هو واجب؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد:
/أحدها: أنه لا يجزيه، إلا أن ينوي رمضان، فإن صام بنية مطلقة، أو معلقة، أو بنية النفل أو النذر؛ لم يجزئه ذلك كالمشهور من مذهب الشافعي، وأحمد في إحدي الروايات.
والثاني: يجزئه مطلقاً كمذهب أبي حنيفة.
والثالث: أنه يجزئه بنية مطلقة، لابنية تعيين، غير رمضان، وهذه الرواية الثالثة عن أحمد، وهي اختيار الخرقي، وأبي البركات.
وتحقيق هذه المسألة: أن النية تتبع العلم، فإن علم أن غداً من رمضان، فلابد من التعيين في هذه الصورة،فإن نوي نفلاً أو صوماً مطلقاً لم يجزه؛لأن اللّه أمره أن يقصد أداء الواجب عليه، وهو شهر رمضان الذي علم وجوبه، فإذا لم يفعل الواجب لم تبرأ ذمته.
وأما إذا كان لا يعلم أن غداً من شهر رمضان، فهنا لا يجب عليه التعيين، ومن أوجب التعيين مع عدم العلم، فقد أوجب الجمع بين الضدين.
فإذا قيل: إنه يجوز صومه وصام في هذه الصورة بنية مطلقة، أو معلقة أجزأه. وأما إذا قصد صوم ذلك تطوعاً، ثم تبين أنه كان /من شهر رمضان، فالأشبه أنه يجزئه ـ أيضاً ـ كمن كان لرجل عنده وديعة، ولم يعلم ذلك، فأعطاه ذلك على طريق التبرع، ثم تبين أنه حقه، فإنه لا يحتاج إلى إعطائه ثانياً، بل يقول: ذلك الذي وصل إليك هو حق كان لك عندي، واللّه يعلم حقائق الأمور. والرواية التي تروي عن أحمد أن الناس فيه تبع للإمام في نيته، على أن الصوم والفطر بحسب ما يعلمه الناس، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صَومُكُم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون).
وقد تنازع الناس في [الهلال]: هل هو اسم لما يطلع في السماء وإن لم يره أحد ؟ أو لا يسمي هلالاً حتي يستهل به الناس ويعلموه ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره.
وعلى هذا ينبني النزاع فيما إذا كانت السماء مطبقة بالغيم، أو في يوم الغيم مطلقاً: هل هو يوم شك ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره:
أحدها: أنه ليس بشك، بل الشك إذا أمكنت رؤيته، وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي وغيرهم.
والثاني: أنه شك لإمكان طلوعه.
/والثالث: أنه من رمضان حكماً، فلا يكون يوم شك، وهو اختيار طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم.
وقد تنازع الفقهاء في المنفرد برؤية هلال الصوم والفطر: هل يصوم ويفطر وحده؟ أو لا? يصوم ولا يفطر إلا مع الناس ؟ أو يصوم وحده ويفطر مع الناس ؟ على ثلاثة أقوال معروفة في مذهب أحمد وغيره.
وَقَالَ ـ رحمهُ اللّه:
فصل
مسألة رؤية بعض البلاد رؤية لجميعها فيها اضطراب، فإنه قد حكي ابن عبد البر الإجماع على أن الاختلاف فيما يمكن اتفاق المطالع فيه، فأما ما كان مثل الأندلس وخراسان فلا خلاف أنه لا يعتبر.
قلت: أحمد اعتمد في ال
باب على حديث الأعرابي الذي شهد أنه أهل الهلال البارحة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس على هذه الرؤية، مع أنها كانت في غير البلد، وما يمكن أن تكون فوق مسافة القصر، ولم يست
فصله، وهذا الاستدلال لا ينافي ما ذكره ابن عبد البر، لكن ما حد ذلك؟
/والذين قالوا: لا تكون رؤية لجميعها ـ كأكثر أصحاب الشافعي ـ منهم من حدد ذلك بمسافة القصر، ومنهم من حدد ذلك بما تختلف فيه المطالع، كالحجاز مع الشام، والعراق مع خراسان، وكلاهما ضعيف؛ فإن مسافة القصر لا تعلق لها بالهلال، وأما الأقاليم فما حدد ذلك ؟ ثم هذان خطأ من وجهين:
أحدهما: أن الرؤية تختلف باختلاف التشريق والتغريب، فإنه متي رؤي في المشرق وجب أن يري في المغرب ولا ينعكس؛ لأنه يتأخر غروب الشمس بالمغرب عن وقت غروبها بالمشرق، فإذا كان قد رؤي ازداد بالمغرب نوراً وبعداً عن الشمس وشعاعها وقت غروبها، فيكون أحق بالرؤية، وليس كذلك إذا رؤي بالمغرب؛ لأنه قد يكون سبب الرؤية تأخر غروب الشمس عندهم، فازداد بعداً وضوءاً، ولما غربت بالمشرق كان قريباً منها.
ثم إنه لما رؤي بالمغرب كان قد غرب عن أهل المشرق، فهذا أمر محسوس في غروب الشمس والهلال وسائر الكواكب؛ ولذلك إذا دخل وقت المغرب بالمغرب دخل بالمشرق ولا ينعكس، وكذلك الطلوع إذا طلعت بالمغرب طلعت بالمشرق ولا ينعكس، فطلوع الكواكب وغروبها بالمشرق سابق.
/وأما الهلال فطلوعه ورؤيته بالمغرب سابق؛ لأنه يطلع من المغرب، وليس في السماء ما يطلع من المغرب غيره، وسبب ظهوره بُعْده عن الشمس، فكلما تأخر غروبها ازداد بُعْده عنها، فمن اعتبر بعد المساكن مطلقاً فلم يتمسك بأصل شرعي ولا حسي.
وأيضا، فإن هلال الحج مازال المسلمون يتمسكون فيه برؤية الحجاج القادمين، وإن كان فوق مسافة القصر.
الوجه الثاني: أنه إذا اعتبرنا حداً ـ كمسافة القصر، أو الأقاليم ـ فكان رجل في آخر المسافة والإقليم، فعليه أن يصوم ويفطر وينسك، وآخر بينه وبينه غلوة سهم لا يفعل شيئاً من ذلك، وهذا ليس من دين المسلمين.
فالصواب في هذا ـ واللّه أعلم ـ ما دل عليه قوله: (صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون)، فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد؛ وجب الصوم.
وكذلك إذا شهد بالرؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب؛ فعليهم إمساك ما بقي، سواء كان من إقليم أو إقليمين.
/والاعتبار ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد،فأما إذا بلغتهم الرؤية بعد غروب الشمس، فالمستقبل يجب صومه بكل حال، لكن اليوم الماضي: هل يجب قضاؤه؟ فإنه قد يبلغهم في أثناء الشهر أنه رؤي بإقليم آخر، ولم ير قريباً منهم، الأشبه أنه إن رؤي بمكان قريب، وهو ما يمكن أن يبلغهم خبره في اليوم الأول، فهو كما لو رؤي في بلدهم ولم يبلغهم.
وأما إذا رؤي بمكان لا يمكن وصول خبره إليهم إلا بعد مضي الأول، فلا قضاء عليهم؛ لأن صوم الناس هو اليوم الذي يصومونه، ولا يمكن أن يصوموا إلا اليوم الذي يمكنهم فيه رؤية الهلال، وهذا لم يكن يمكنهم فيه بلوغه، فلم يكن يوم صومهم، وكذلك في الفطر والنسك، لكن هؤلاء هل يفطرون إذا ثبت عندهم في أثناء الشهر أنه رؤي بناء على تلك الرؤية؟ لكن إن بلغتهم بخبر واحد لم يفطروا؛ لأنه قد ثبت عندهم في أثنائه ما يفطرون به، ولا يقضون اليوم الأول، فيكون صومهم تسعة وعشرين كما يقوله من يقول بالمطالع، إذا صام برؤية مكان ثم سافر إلى مكان تقدمت رؤيتهم، فإنه يفطر معهم، ولا يقضي اليوم الأول.
وإن تأخرت رؤيتهم فهنا اختلفت نقول أصحابنا، إن قالوا: يفطر /وحده، فهو كما لو رآه عندهم لم يفطر وحده عندنا على المشهور، وإن صام معهم، فقد صام إحدي وثلاثين يوماً.
والأشبه أن هذه المسألة يخرج فيها لأصحابنا قولان كالمنفرد برؤيته في الفطر؛ لأن انفراد الرجل بالفطر هو المحذور في الموضعين، ورؤية أهل بلد دون غيرهم كرؤيته ورؤية طائفة معه دون غيرهم. وأما هلال الفطر، فإذا ثبتت رؤيته في اليوم عملوا بذلك، وإن كان بعد ذلك لم يكن فيه فائدة، بل العيد هو اليوم الذي عيده الناس، ولكن نقل التاريخ.
فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ؛ لقوله: (صوموا لرؤيته)، فمن بلغه أنه رؤي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر، في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما إلا بعد شهر، فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن الذي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر، فإنها محل الاعتبار، فتدبر هذه المسائل الأربعة: وجوب الصوم، والإمساك، ووجوب القضاء، ووجوب بناء العيد على تلك الرؤية، ورؤية البعيد، والبلاغ في وقت بعد انقضاء العبادة.
ولهذا قالوا: إذا أخطأ الناس كلهم، فوقفوا في غير يوم عرفة /أجزأهم اعتباراً بالبلوغ، وإذا أخطأه طائفة منهم لم يجزهم لإمكان البلوغ، فالبلوغ هو المعتبر، سواء كان علم به للبعد، أو للقلة، وهذا الذي ذكرته هو الذي ذكره أصحابنا إلا وجوب القضاء إذا لم يكن مما يمكنهم فيه بلوغ الخبر.
والحجة فيه أنا نعلم بيقين أنه مازال في عهد الصحابة والتابعين يري الهلال في بعض أمصار المسلمين بعد بعض، فإن هذا من الأمور المعتادة التي لا تبديل لها، ولابد أن يبلغهم الخبر في أثناء الشهر، فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته في سائر بلدان الإسلام، كتوفرها على البحث عن رؤيته في بلده، ولكان القضاء يكثر في أكثر الرمضانات، ومثل هذا لو كان لنقل، ولما لم ينقل دل على أنه لا أصل له، وحديث ابن عباس يدل على هذا.
وقد أجاب أصحابنا بأنه إنما لم يفطر؛ لأنه لم يثبت عنده إلا بقول واحد، فلا يفطر به، ولا يقال: أصحابنا كذلك ـ أيضاً ـ لم ينقل أنهم كانوا إذا بلغهم الهلال في أثناء الشهر بنوا فطرهم عليه.
قلنا: لأن ذاك أمر لا تتعلق الهمم بالبحث عنه؛ لأن فيه ترك /صوم يوم، فإن ثبت عندهم، وإلا فالاحتياط الصوم؛ لأن ذاك الخبر قد يكون ضعيفاً، مع أن هذه المسألة فيها نظر.
ولو قيل: إذا بلغهم الخبر في أثناء الشهر لم يبنوا إلا على رؤيتهم، بخلاف ما إذا بلغهم في اليوم الأول لكان له وجه،بل الرؤية القليلة لو لم تبلغ الإنسان إلا في أثناء الشهر، ففي وجوب قضاء ذلك اليوم نظر، وإن كان يفطر بها؛ لأن قوله: (صومكم يوم تصومون) دليل على أن ذلك لم يكن يوم صومنا؛ ولأن التكليف يتبع العلم، ولا علم ولا دليل ظاهر، فلا وجوب، وطرد هذا: أن الهلال إذا ثبت في أثناء يوم قبل الأكل أو بعده أتموا وأمسكوا، ولا قضاء عليهم، كما لو بلغ صبي أو أفاق مجنون على أصح الأقوال الثلاثة.
فقد قيل: يمسك ويقضي. وقيل: لا يجب واحد منهما. وقيل: يجب الإمساك دون القضاء.
فإن الهلال مأخوذ من الظهور، ورفع الصوت، فطلوعه في السماء إن لم يظهر في الأرض، فلا حكم له لا باطناً ولا ظاهراً، واسمه مشتق من فعل الآدميين يقال: أهللنا الهلال، واستهللناه، فلا هلال إلا ما استهل، فإذا استهله الواحد والاثنان فلم يخبرا به، فلم يكن ذاك هلالاً، فلا يثبت به حكم حتي يخبرا به، فيكون خبرهما هو الإهلال الذي هو رفع الصوت /بالإخبار به؛ ولأن التكليف يتبع العلم، فإذا لم يمكن علمه لم يجب صومه.
ووجوب القضاء إذا كان الترك بغير تفريط يفتقر إلى دليل؛ ولأنه لو وجب القضاء أو استحب إذا بلغ رؤيته المكان البعيد، أو رؤية النفر القليل في أثناء الشهر؛ لاستحب الصوم يوم الشك مع الصحو، بل يوم الثلاثين مطلقاً؛ لأنه يمكن أن يخبر القليل أو البعيد برؤيته في أثناء الشهر فيستحب الصوم احتياطاً، وما من شيء في الشريعة يمكن وجوبه إلا والاحتياط مشروع في أدائه، فلما لم يشرع الاحتياط في أدائه، قطعنا بأنه لا وجوب مع بُعْد الرائي أو خفائه، حتي يكون الرائي قريباً ظاهراً، فتكون رؤيته إهلالاً يظهر به الطلوع. وقد يحتج بهذا من لم يحتط في الغيم.
ولكن يجاب عنه: بأن طلوعه ـ هذا ـ مثال ظاهر أو مساوٍ، وإنما الحاجب مانع، كما لو كانوا ليلة الثلاثين في مغارة، أو مطمورة، وقد تعذر الترائي.
ولأن الذين لم يوجبوا التبييت، أصل مأخذهم: إجزاء يوم الشك، فإن بلوغ الرؤية قبل الزوال كثير، كيوم عاشوراء، وإيجاب القضاء فيه عسر لكثرة وقوع مثل ذلك، وعدم شهرة وجوب القضاء في السلف.
وجواب هذا: أنه لا يلزم من وجوب الإمساك وجوب القضاء، /فإنه لا وجوب إلا من حين الإهلال والرؤية؛ لا من حين الطلوع؛ ولأن الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر يدل على هذا؛ لأن ما ذكره إذا لم يبلغ الخبر إلا بعد مضي الشهر؛ لم يبق فيه فائدة إلا وجوب القضاء، فعلم أن القضاء لا يجب برؤية بعيدة مطلقاً.
فتلخص: أنه من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يؤدي بتلك الرؤية الصوم، أو الفطر، أو النسك؛ وجب اعتبار ذلك بلا شك، والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك.
ومن حدد ذلك بمسافة قصر أو إقليم، فقوله مخالف للعقل والشرع.
ومن لم يبلغه إلا بعد الأداء، وهو مما لا يقضي كالعيد المفعول، والنسك، فهذا لا تأثير له، وعليه الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر.
وأما إذا بلغه في أثناء المدة، فهل يؤثر في وجوب القضاء وفي بناء الفطر عليه ؟ وكذلك في بقية الأحكام: من حلول الدين، ومدة الإيلاء وانقضاء العدة، ونحو ذلك. والقضاء يظهر لي أنه لا يجب وفي بناء الفطر عليه نظر.
فهذا متوسط في المسألة، وما من قول سواه إلا وله لوازم شنيعة /لا سيما من قال بالتعدد، فإنه يلزمه في المناسك ما يعلم به خلاف دين الإسلام، إذا رأي بعض الوفود أو كلهم الهلال، وقدموا مكة، ولم يكن قد رؤي قريباً من مكة، ولما ذكرناه من فساده صار متنوعاً، والذي ذكرناه يحصل به الاجتماع الشرعي، كل قوم على ما أمكنهم الاجتماع عليه، وإذا خالفهم من لم يشعروا بمخالفته لانفراده من الشعور بما ليس عندهم لم يضر هذا، وإنما الشأن من الشعور بالفرقة والاختلاف.
وتحقيق ذلك العلم بالأهلة، فقال: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وهذا يدل على أنه أراد المعلوم ببصر أو سمع؛ ولهذا ذهب الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين: إلا أنه إذا كانت السماء مصحية ولم يحصل أحد على الرؤية أنه ليس بشك؛ لانتفاء الشك في الهلال، وإن وقع شك في الطلوع، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن الهلال على وزن فعال. وهذا المثال في كلام العرب لما يفعل به كالإزار: لما يؤتزر به، والرداء: لما يرتدي به، والركاب: لما يركب به، والوعاء: لما يوعي فيه وبه، والسماد: لما تسمد به الأرض، والعصاب: لما يعصب به، والسداد: لما يسد به، وهذا كثير مطرد في الأسماء.
/فالهلال اسم لما يهل به، أي: يصات به، والتصويت به لا يكون إلا مع إدراكه ببصر أو سمع، ويدل عليه قول الشاعر:
يهل بالفرقد ركبانها ** كما يهل الراكب المعتمر
أي: يصوتون بالفرقد، فجعلهم مهلين به؛ فلذلك سمي هلالاً. ومنه قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ} [البقرة: 137] أي:صوت به، وسواء كان التصويت به رفيعاً أو خفيضاً، فإنه مما تكلم به، وجهر به لغير اللّه، ونطق به.
الوجه الثاني: أنه جعلها مواقيت للناس، ولا تكون مواقيت لهم إلا إذا أدركوها ببصر أو سمع، فإذا انتفي الإدراك انتفي التوقيت، فلا تكون أهلة، وهو غاية ما يمكن ضبطه من جهة الحس، إذ ضبط مكان الطلوع بالحساب لا يصح أصلا، وقد صنفت في ذلك شيئاً.
وهذه المسألة تنبني عليه ـ أيضاً ـ فإنه ليس في قوي البشر أن يضبطوا للرؤية زماناً ومكاناً محدوداً، وإنما يضبطون ما يدركونه
بابصارهم أو ما يسمعونه بآذانهم، فإذا كان الواجب تعليقه في حق من رأي بالرؤية، ففي حق من لم ير بالسماع، ومن لا رؤية له ولا سماع، فلا إهلال له، واللّه هو المسؤول أن يتم نعمته علينا وعلى المسلمين.
/ وسئل ـ قدس اللّه روحه ـ عن رجل رأي الهلال وحده، وتحقق الرؤية، فهل له أن يفطر وحده؟ أو يصوم وحده ؟ أو مع جمهور الناس؟
فأجاب:
الحمد للّه، إذا رأي هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده، فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه؟ أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس؟ على ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد:
أحدها: أن عليه أن يصوم، وأن يفطر سراً، وهو مذهب الشافعي.
والثاني: يصوم ولا يفطر إلا مع الناس، وهو المشهور من مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة.
والثالث: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر /الأقوال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون) رواه الترمذي، وقال حسن غريب، ورواه أبو داود، وابن ماجه، وذكر الفطر والأضحي فقط. ورواه الترمذي من حديث عبد اللّه بن جعفر، عن عثمان بن محمد، عن المقبري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحي يوم تضحون) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، قال: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: إنما معني هذا الصوم والفطر مع الجماعة، وعظم الناس. ورواه أبو داود بإسناد آخر، فقال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد من حديث أيوب، عن محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه فقال: (وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل مني منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف).
ولأنه لو رأي هلال النحر لما اشتهر، والهلال اسم لما استهل به، فإن اللّه جعل الهلال مواقيت للناس والحج، وهذا إنما يكون إذا استهل به الناس، والشهر بَين، وإن لم يكن هلالاً ولا شهراً.
وأصل هذه المسألة: أن اللّه ـ سبحانه وتعالي ـ علق أحكاماً شرعية/ بمسمي الهلال والشهر، كالصوم والفطر والنحر، فقال تعالي: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. فبين ـ سبحانه أن الأهلة مواقيت للناس والحج.
قال تعالي: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى قوله:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة:183، 185] أنه أوجب صوم شهر رمضان، وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه: أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء، وإن لم يعلم به الناس وبه يدخل الشهر؟ أو الهلال اسم لما يستهل به الناس، والشهر لما اشتهر بينهم؟ على قولين:
فمن قال بالأول يقول: من رأي الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم، ودخل شهر رمضان في حقه، وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان، وإن لم يعلم غيره. ويقول: من لم يره إذا تبين له أنه كان طالعاً قضي الصوم، وهذا هو القياس في شهر الفطر، وفي شهر النحر، لكن شهر النحر ما علمت أن أحداً قال: من رآه يقف وحده، دون سائر الحاج، وأنه ينحر في اليوم الثاني، ويرمي جمرة العقبة، ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر، فالأكثرون ألحقوه بالنحر،وقالوا: لا يفطر إلا مع المسلمين، وآخرون قالوا: بل الفطر كالصوم، ولم يأمر اللّه العباد بصوم واحد وثلاثين يوماً، وتناقض /هذه الأقوال يدل على أن الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة.
وحينئذ، فشرط كونه هلالاً وشهراً شهرته بين الناس. واستهلال الناس به حتي لو رآه عشرة، ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد؛ لكون شهادتهم مردودة، أو لكونهم لم يشهدوا به، كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين، فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين، وهذا معني قوله:(صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون)؛ ولهذا قال أحمد في روايته: يصوم مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم. قال أحمد: يد اللّه على الجماعة.
وعلى هذا تفترق أحكام الشهر: هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم ؟ أو ليس شهراً في حقهم كلهم؟ يبين ذلك قوله تعالي: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فإنما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس، حتي يتصور شهوده، والغيبة عنه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)،(وصوموا من الوَضح إلى الوَضَح) ونحو ذلك خطاب للجماعة، لكن من كان في مكان ليس فيه غيره، إذا رآه صامه، فإنه /ليس هناك غيره، وعلى هذا، فلو أفطر ثم تبين أنه رؤي في مكان آخر، أو ثبت نصف النهار؛ لم يجب عليه القضاء، وهذا إحدي الروايتين عن أحمد، فإنه إنما صار شهرًا في حقهم من حين ظهر، واشتهر، ومن حينئذ وجب الإمساك كأهل عاشوراء، الذين أمروا بالصوم في أثناء اليوم، ولم يؤمروا بالقضاء علىالصحيح، وحديث القضاء ضعيف. والله أعلم.
/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
فصل
وأما الأصل الثالث: فالصيام
وقد اختلفوا في تبييت نيته على ثلاثة أقوال:
فقالت طائفة ـ منهم أبو حنيفة ـ: إنه يجزئ كل صوم فرضًا كان أو نفلا بنية قبل الزوال، كما دل عليه حديث عاشوراء، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على عائشة فلم يجد طعامًا، فقال: (إني إذا صائم).
وبإزائها طائفة أخري ـ منهم مالك ـ قالت: لا يجزئ الصوم إلا مبيتًا من الليل، فرضا كان أو نفلاً على ظاهر حديث حفصة، /وابن عمر الذي يروي مرفوعًا وموقوفًا: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل).
وأما القول الثالث: فالفرض لا يجزئ إلا بتبييت النية، كما دل عليه حديث حفصة وابن عمر؛ لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم، والنية لا تنعطف على الماضي، وأما النفل فيجزئ بنية من النهار، كما دل عليه قوله: (إني إذًا صائم) كما أن الصلاة المكتوبة يجب فيها من الأركان ـ كالقيام والاستقرار على الأرض ـ ما لا يجب في التطوع توسيعا من الله على عباده في طرق التطوع، فإن أنواع التطوعات دائما أوسع من أنواع المفروضات، وصومهم يوم عاشوراء ـ إن كان واجبا ـ فإنما وجب عليهم من النهار؛ لأنهم لم يعلموا قبل ذلك، وما رواه بعض الخلافيين المتأخرين: أن ذلك كان في رمضان، فباطل لا أصل له.
وهذا أوسط الأقوال، وهو قول الشافعي وأحمد. واختلف قولهما: هل يجزئ التطوع بنية بعد الزوال؟ والأظهر صحته، كما نقل عن الصحابة.
واختلف أصحابهما في الثواب: هل هو ثواب يوم كامل؟ أو من حين/نواه؟ والمنصوص عن أحمد: أن الثواب من حين النية.
وكذلك اختلفوا في التعيين، وفيه ثلاثة أقوال ـ في مذهب أحمد وغيره:
أحدها: أنه لابد من نية رمضان، فلا تجزئ نية مطلقة، ولا معينة لغير رمضان، وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين، اختارها كثير من أصحابه.
الثاني: أنه يجزئ بنية مطلقة ومعينة لغيره، كمذهب أبي حنيفة ورواية محكية عن أحمد.
والثالث: أنه يجزئ بالنية المطلقة، دون نية التطوع أو القضاء أو النذر. وهو رواية عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه.
/ فصل
واختلفوا في صوم يوم الغيم، وهو ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم، أو قتر، ليلة الثلاثين من شعبان.
فقال قوم: يجب صومه بنية من رمضان احتياطًا، وهذه الرواية عن أحمد، وهي التي اختارها أكثر متأخري أصحابه، وحكوها عن أكثر متقدميهم، بناء على ما تأولوه من الحديث، وبناء على أن الغالب على شعبان هو النقص، فيكون الأظهر طلوع الهلال ـ كما هو الغالب ـ فيجب بغالب الظن.
وقالت طائفة: لا يجوز صومه من رمضان، وهذه رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه، كابن عقيل والحلواني، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، استدلالاً بما جاء من الأحاديث، وبناء على أن الوجوب لا يثبت بالشك.
وهناك قول ثالث: وهو أنه يجوز صومه من رمضان، ويجوز /فطره، والأفضل صومه من وقت الفجر، ومعلوم أنه لو عرف وقت الفجر الذي يجوز فيه طلوعه جاز له الإمساك والأكل، وإن أمسك وقت الفجر، فإنه لا معني لاستحباب الإمساك لكن....
وأكثر نصوص أحمد إنما تدل على هذا القول، وأنه كان يستحب صومه ويفعله، لا أنه يوجبه، وإنما أخذ في ذلك بما نقله عن الصحابة في مسائل ابنه عبد الله، والفضل بن زياد القطان، وغيرهم، أخد بما نقله عن عبد الله بن عمر ونحوه.
والمنقول عنهم: أنهم كانوا يصومون في حال الغيم، لا يوجبون الصوم، وكان غالب الناس لا يصومون، ولم ينكروا عليهم الترك.
وإنما لم يستحب الصوم في الصحو، بل نهى عنه؛ لأن الأصل والظاهر عدم الهلال، فصومه تقديم لرمضان بيوم. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
واختلفت الرواية عنه:هل يسمي يوم الغيم يوم الشك؟ على روايتين، وكذلك اختلف أصحابه في ذلك.
/وأما يوم الصحو عنده، فيوم شك أو يقين من شعبان، ينهى عن صومه بلا توقف. وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره، فإن المشكوك في وجوبه ـ كما لو شك في وجوب زكاة، أو كفارة أو صلاة، أو غير ذلك ـ لا يجب فعله ولا يستحب تركه، بل يستحب فعله احتياطًا، فلم تحرم أصول الشريعة الاحتياط، ولم توجب بمجرد الشك.
وأيضا، فإن أول الشهر كأول النهار، ولو شك في طلوع النهار لم يجب عليه الإمساك، ولم يحرم عليه الإمساك بقصد الصوم؛ ولأن الإغمام أول الشهر كالإغمام بالشك، بل ينهى عن صوم يوم الشك؛ لما يخاف من الزيادة في الفرض.
وعلى هذا القول يجتمع غالب المأثور عن الصحابة في هذا الباب، فإن الجماعات الذين صاموا منهم ـ كعمر وعلى ومعاوية وغيرهم ـ لم يصرحوا بالوجوب، وغالب الذين أفطروا لم يصرحوا بالتحريم. ولعل من كره الصوم منهم إنما كرهه لمن يعتقد وجوبه خشية إيجاب ما ليس بواجب، كما كره من كره منهم الاستنجاء بالماء لمن خيف عليه أن يعتقد وجوبه، وكما أمر طائفة منهم من صام في السفر أن يقضي؛ لما ظنوه به من كراهة الفطر في السفر، فتكون الكراهة عائدة إلى حال الفاعل، لا إلى نفس الاحتياط بالصوم، فإن تحريم الصوم أو إيجابه كلاهما فيه بُعْدٌ عن أصول الشريعة.
والأحاديث المأثورة في الباب إذا تؤملت إنما يصرح غالبها بوجوب الصوم بعد إكمال العدة، كما دل بعضها على الفعل قبل الإكمال، أما الإيجاب قبل الإكمال للصوم ففيهما نظر.
فهذا القول المتوسط هو الذي يدل عليه غالب نصوص أحمد.
ولو قيل بجواز الأمرين واستحباب الفطر؛ لكان عن التحريم والإيجاب، ويؤثر عن الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنهم كانوا يأكلون مع الشك في طلوع الفجر. [center][b]