بسم الله الرحمن الرحيم
باب الصلح
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عن رجل اشترى دارا ولها بابان. كل باب في زقاق غير نافذ وأحدهما مسدود والكتب تشهد بالبابين والمسدود هو الباب الأصلي في صدر الزقاق; فأراد أن يفتح الباب. فهل له أن يفتحه؟؟.
فأجاب: إذا اشترى دارا بحقوقها وكان ذلك الباب الذي سد من حقوقها فله أن يفتحه كما كان أولا. إلا أن يكون هذا الحق مستثنى من المبيع لفظا أو عرفا.
وسئل رحمه الله: عن دارين بينهما شارع فأراد صاحب أحد الدارين أن يعمر على داره غرفة تفضي إلى سد الفضاء عن الدار الأخرى. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟.
فأجاب: إن كان في ذلك إضرار بالجار مثل أن يشرف عليه فإنه يلزم ما يمنع مشارفته الأسفل فإذا لم يكن فيه ضرر على الجار بأن يبني ما يمنع الإشراف عليه أو لا يكون فيه إشراف عليه لم يمنع من البناء.
وسئل عن رجل اشترى دارا وهي تشرف إلى طريق المارة ثم إنه أراد أن يزيد فيها. فاشترى من وكيل بيت المال من جانب الطريق أذرعا معلومة وأقام حائطا فيما اشتراه وأراد أن يعمل على طريق المسلمين ساباطا ليبني عليه دارا. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟ وهل يصح بيع الأرض المبتاعة من وكيل بيت المال التي في طريق المسلمين؟ أم لا؟ وهل يفسق الشاهد الذي يشهد بها لبيت المال أم لا؟ وإذا ادعى الثاني أن بناءه لم يضر بالمسلمين هل يسمع ذلك منه؟ وما الضرر الذي لأجله يمنع البناء على الطريق؟ وهل يجوز لحاكم المسلمين تمكينه من ذلك على هذه الصفة المشروحة. أم لا؟.
فأجاب: الحمد لله. لا يجوز بيع شيء من طريق المسلمين النافذ وليس لوكيل بيت المال بيع ذلك سواء كانت الطريق واسعة أو ضيقة وليس مع الشاهد علم ليس مع سائر الناس اللهم إلا أن يشهد أن هذه لبيت المال مثل أن تكون ملكا لرجل فانتقلت عنه إلى بيت المال وأدخلت في الطريق بطريق الغصب. وأما شهادته أنها لبيت المال بمجرد كونها طريقا فهذا إن أراد أن الطريق المشتركة حق للمسلمين لم يسوغ ذلك بيعها وإن أراد أنها ملك لبيت المال يجوز بيعها كما يباع بيت المال فهذه شهادة زور يستحق صاحبها العقوبة التي تردعه وأمثاله. وليس للحاكم أن يحكم بصحة هذا البيع.
وسئل رحمه الله عن بيتين: أحدهما شرقي الآخر والدخول إلى أحدهما من تحت ميزاب الآخر من سلم وذلك من قديم. فهل لصاحب البيت الذي سلمه ومجراه تحت الميزاب الآخر أن يمنع هذا الميزاب أن يجري على هذا السلم لأجل الضرر الذي يلحقه؟ أم لا؟
فأجاب: ليس له أن يمنع صاحب الحق القديم من حقه. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل أحدث بنيانا ورواشنا على باب الطبقات عليه من حيث يكشف حريم جاره وطبق عليه باب مطلعه من حيث لا يقدر ينزل طبق العجين ولا يطلع قربة سقاء؟
فأجاب: ليس للجار أن يحدث في الطريق المشترك الذي لا ينفذ شيئا بغير إذن رفيقه ولا شركائه ولا أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره. وإذا فعل ذلك فللشريك إزالة ضرره قبل البيع وبعده; لكن إذا أزيل قبل البيع لم يعد وبعد البيع فللمشتري فسخ البيع لأجل هذا النقص.
وسئل عن رجل اشترى حوانيت أرضا وبنى من مدة عشرين سنة وفوقهم علو فحضر من ادعى أن العلو ملكه ولم يصدقه مالك الحوانيت على صحة ملكه وأنشأ على العلو عمارة جديدة فهل يلزمه هدم ما أنشأ مستجدا؟
فأجاب: إذا كانت يده على العلو وصاحب السفل لا يدعي أنه له فهو لصاحب اليد حتى يقيم غيره حجة أنه له. وأما ما أنشأه من العمارة الجديدة فليس له ذلك; إلا أن يكون ذلك من حقوق ملكه. والله أعلم.
وسئل عن رجل اشترى طبقة ولم يكن يروز ثم عمرها وأحدث روشنا على جيرانه في زقاق ليس نافذا وادعى أن فيه بابا شرقي الظاهرية فهل له أن يحدث الروشن؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين ليس له أن يحدث في الدرب الذي لا ينفذ روشنا باتفاق الأئمة فإنهم لم يتنازعوا في ذلك; لكن تنازعوا في جواز إحداثه في الدرب النافذ وفي ذلك نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه. وأما الدرب الذي لا ينفذ فلا نزاع فيه سواء كان له باب إلى مدرسة أو لم يكن فإنه ليس بنافذ. وإذا ادعى أن له فيه حق روشن لم يقبل قوله بغير حجة لكن له تحليف الجيران الذين تنازعوا فيه على نفي استحقاقه لذلك. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عمن له دار وبينهم طريق ونزل على أحدهم بأن كان ساباطا ولم يتضرر الجار والمار وقصد أحد الجيران أن يساويه بالبروز ويخرج عن جيرانه [في] الطريق ويضر بالجار؟
فأجاب: أما الساباط ونحوه إذا كان مضرا فلا يجوز باتفاق العلماء وكذلك لا يجوز لأحد أن يخرج في طريق المسلمين شيئا من أجزاء البناء حتى إنه ينهى عن تجصيص الحائط من خارج إلا أن يدخل حده بمقدار غلظ الجص. وأما إذا كان الساباط ونحوه لا يضر بالطريق ففيه نزاع مشهور بين العلماء. قيل: يجوز كقول الشافعي. وقيل: لا يجوز كأحد القولين في مذهب أحمد ومالك. وقيل: يجوز بإذن الإمام كالقول الأخير. وقيل: إن منعه بعض العامة امتنع كما هو مذهب أبي حنيفة. والله أعلم.
وسئل عن زقاق غير نافذ وفيه جماعة سكان وفيهم شخص له دار. فهل له أن يفتح بابا غير بابه الأصلي؟
فأجاب: ليس له أن يفتح في الدرب الذي لا ينفذ بابا يكون أقرب إلى آخر الدرب من بابه الأصلي; إلا بإذن المشاركين له في الاستطراق في ذلك. والله أعلم.
وسئل عن رجل عمر حوانيت وبجنبها خربة لإنسان فهل لصاحب الدار أن يفتح مشرعا من الخربة؟ أم لا؟
فأجاب: ليس له أن يفتح مشرعا - يعني بابا في درب غير نافذ - إلا بإذن أهله; إلا أن يكون له فيه حق الاستطراق. والله أعلم.
وسئل عن ملك مشترك بين مسلم وذمي فهدماه إلى آخره. فهل يجوز تعليته على ملك جارهما المسلم؟ أم لا؟
فأجاب: الحمد لله. ليس لهما تعليته على ملك المسلم فإن تعلية الذمي على المسلم محظورة وما لا يتم اجتناب المحظور إلا باجتنابه فهو محظور. كما في مسائل اختلاط الحرام بالحلال كما لو اختلط بالماء والمائعات نجاسة ظاهرة وكالمتولد بين مأكول وغير مأكول كالسمع والعسار والبغل وكما في [مسائل الاشتباه] أيضا: مثل أن تشتبه أخته بأجنبية والمذكى بالميت فإنه لما لم يمكن اجتناب المحظورات إلا باجتناب المباح في الأصل ; وجب اجتنابهما جميعا كما أن ما لا يتم الواجب إلا بفعله ففعله واجب. وإنما ذاك إذا كان ليس شرطا في الوجوب وهو مقدور للمكلف وهنا لا يمكن منع الذمي من تعلية بنائه على المسلم إلا أن يمنع شريكه فيجب منعهما وليس في منع المسلم من تعلية بنائه على مسلم تعلية كافر على مسلم بخلاف ما إذا أمكن الشريك من التعلية فإنه يكون في ذلك علو للكافر على المسلم وذلك لا يجوز وإذا عليا البناء وجب هدمه. ولا يجوز لمسلم أن يجعل جاه المسلم ذريعة لرفع كافر على مسلم. ومن شارك الكافر أو استخدمه وأراد بجاه الإسلام أن يرفع على المسلمين فقد بخس الإسلام واستحق أن يهان الإهانة الإسلامية. والله أعلم.
وسئل عن بستان مشترك حصلت فيه القسمة فأراد أحد الشريكين أن يبني بينه وبين شريكه جدارا فامتنع أن يدعه يبني أو يقوم معه على البناء.
فأجاب: إنه يجبر على ذلك ويؤخذ الجدار من أرض كل منهما بقدر حقه.
وسئل عن بستان بين شريكين، ثم قسماه، فأراد أحدهما أن يبني حائطه بينه وبين شريكه، فامتنع الشريك أن يخليه يبني في أرضه وعلي غرامة البناء؟
فأجاب: يجبر الممتنع أن يبني الجدار في الحقين من الشريكين جميعا، إذا كانا محتاجين إلى السترة.
وسئل أيضا فلو كانت المسألة بحالها , فإن امتنع أحدهما أن يبني مع شريكه، وبناه أحدهما بماله، لكنه وضع بعض أساسه من سهم هذا, وبعضه من سهم هذا، فهل له أن يمنع الذي لم يبن معه أن ينتفع بالجدار؟ مثل أن يضع جاره عليه شيئاً، أو يبني عليه، أم لا؟
فأجاب: لو كان الجدار مختصا بأحدهما لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع بما يحتاج إليه الجار، ولا يضر بصاحب الجدار.
والله أعلم.
وسئل عن رجل اشترى من بيت المال بمصر شراء صحيحا شرعيا وبنى فتعرض له إنسان ومنعه من البناء فهل له ذلك؟
فأجاب: الحمد لله. إذا بنى في ملكه بناء لم يتعد به على الجار; لكن يخاف أن يسكن في البناء الجديد ناس آخرون فينقص كراء الأول لم يكن له منعه لأجل ذلك. بلا نزاع بين العلماء.
وسئل عن رجل له ملك وهو واقع فأعلموه بوقوعه فأبى أن ينقضه ثم وقع على صغير فهشمه هل يضمن؟ أو لا؟
فأجاب: هذا يجب الضمان عليه في أحد قولي العلماء; لأنه مفرط في عدم إزالة هذا الضرر والضمان على المالك الرشيد الحاضر أو وكيله إن كان غائبا أو وليه إن كان محجورا عليه. ووجوب الضمان في مثل هذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي. والواجب نصف الدية والأرش في ما لا تقدير فيه ويجب ذلك على عاقلة هؤلاء إن أمكن; وإلا فعليهم في أصح قولي العلماء.
وقال رحمه الله
إذا احتاج إلى إجراء مائه في أرض غيره ولا ضرر فله ذلك، وعنه لربها منعه، كما لو استغنى عنه، أو عن اجرائه فيها.
قال: ولو كان لرجل نهر يجري في أرض مباحة، أو بعضه، ولا ضرر فيه، إلا انتفاعه به، فأفتيت بجواز ذلك، وانه لا يحل منعه، فإن المرور في الأرض، كما أنه ينتفع به صاحب الماء, فيكون حقا له، فإنه ينتفع به صاحب الأرض أيضا، كما في حديث عمر. فهو هنا انتفع بإجراء مائه، كما أنه هناك انتفع بأرضه.
ونظيرها لو كان لرب الجدار مصلحة في وضع الجذوع عليه من غير ضرر الجذوع. وعكس مسألة إمرار الماء: لو أراد أن يجرري في أرضه من بقعة إلى بقعة، ويخرجه إلى أرض مباحة، أو إلى أرض جار راض, من غير أن يكون على رب الماء ضرر؛ لكن ينبغي أن يملك ذلك؛ لأنه يستحق شغل المكان الفارغ، فكذلك تفريغ المشغول.
والضابط أن الجار. إما أن يريد أحداث الانتفاع بمكان جاره, أو إزالة انتفاع الجار الذي ينفعه زواله، ولا يضر الآخر.
ومن أصلنا أن المجاورة توجب لكل من الحق مالا يجب للأجنبي، ويحرم عليه مالا يحرم للأجنبي، ويحرم عليه مالا يحرم للأجنبي. فيبيح الانتفاع بملك الجار، الخالي عن ضرر الجار، ويحرم الانتفاع بملك المنتفع إذا كان فيه إضرار.
فصل وإذا قلنا: بإجراء مائه على إحدى الروايتين. فاحتاج أن يجري ماءه في طريق مياه. مثل أن يجري مياه سطوحه وغيرها في قناة لجاره، أو يسوق في قناة غدير ماء ثم يقاسمه جاز.
باب الحجر
وسئل رحمه الله
عن رجل عسفه إنسان على دين يريد حبسه وهو معسر. فهل القول قوله في أنه معسر؟ أو يلزم بإقامة البينة في ذلك؟.
فأجاب: إذا كان الدين لزمه بغير معاوضة كالضمان ولم يعرف له مال قبل ذلك فالقول قوله مع يمينه في الإعسار. والله أعلم.
وسئل الشيخ رحمه الله
عن رجل مسلم اشترى من ذمي عقارا ثم رمى نفسه عليه واشترى منه قسطين والتزم يمينا شرعية الوفاء إلى شهر. فهل على أحد أن يعلمه حيلة وهو قادر؟.
فأجاب: الحمد لله. إذا كان الغريم قادرا على الوفاء لم يكن لأحد أن يلزم رب الدين بترك مطالبته ولا يطلب منه حيلة لا حقيقة لها لأجل ذلك. مثل أن يقبض منه ثم يعيد إليه غير حقيقة استيفاء. وإن كان معسرا وجب إنظاره. واليمين المطلقة محمولة على حال القدرة; لا على حال العجز. والله أعلم.
وسئل
عمن ترك بعد موته كرما ودارا وعليه دين يستوعب ذلك كله وله من الورثة: زوجة وبنت والسلطان. فطلب أرباب الدين من الورثة بيع الملك فهل يلزم الورثة البيع؟ أو الحاكم؟.
فأجاب: إن باع الورثة ووفوا من الثمن جاز. وإن سلموه للغرماء فباعه الغرماء واستوفوا ديونهم جاز. وإن طلبوا من الحاكم أن يقيم لهم أمينا يتولى ذلك جاز. وإن أقاموا هم أمينا يتولى ذلك جاز. وإذا سلم الورثة ذلك إلى الغرماء لم يجب على الورثة أن يتولوا البيع. والله أعلم.
وسئل
عن رجل باع قماشا لإنسان تاجر وكسب فيه شيئا معينا وقسط عليه الثمن والمديون يطلب السفر ولم يقم له كافلا. فهل لصاحب المال أن يمنعه من السفر. أم لا؟.
فأجاب: إن كان الدين حالا وهو قادر على وفائه فله أن يمنعه من السفر قبل استيفائه. وكذلك إن كان مؤجلا ومحله قبل قدوم المدين فله أن يمنعه من السفر حتى يوثق برهن يحفظ المال أو كفيل. وإن كان الدين لا يحل إلا بعد قدوم المدين; ففيه نزاع بين العلماء. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عمن أعتق عبدا وهو محتاج وعليه ديون وماله جدة. فهل يجوز له أن يبيعه ويوفي به دينه؟.
فأجاب: إن كان حين أعتقه موسرا ليس عليه دين أو عليه دين له وفاء غير العبد: فقد عتق ولا رجوع فيه وإن كان حين أعتقه عليه دين يحيط بماله: ففي صحته نزاع بين العلماء. والله أعلم.
وسئل عن رجل ادعى على غريم له عند الحاكم فاعترف له بدينه وبالقدرة والملاءة فاعتقله الحاكم وحجر عليه عقيب ذلك. ثم إن المعتقل أراد إثبات إعساره عند حاكم آخر; فهل له ذلك؟.
فأجاب: لا تقبل دعوى إعساره بعد الاعتراف بالقدرة وبعد الحجر عليه إذا لم يبين السبب الذي أزال الملاءة ويكون ذلك ممكنا في العادة كحرق الدار التي فيها متاعه ونحوه; وليس له طلب إتمام الحكم في ذلك. وأن يدعي ذلك ويثبته عند غير الحاكم الذي حبسه وحجر عليه بدون إذنه. والله أعلم.
وسئل قدس الله روحه عن رجل استدان من التجار أموالا وطولب بها وامتنع من الوفاء مع القدرة على ذلك واعتقلوه بحكم الشرع. فهل يجوز للحاكم عقوبته حتى يوفي ما عليه؟ وماذا حكم الشرع فيه؟.
فأجاب: إذا امتنع مما يجب عليه من إظهار ماله والتمكين من توفية الناس جميع حقوقهم وكان ماله ظاهرا واحتيج إلى التوفية إلى فعل منه وامتنع منه وأصر على الحبس: فإنه يعاقب بالضرب حتى يقوم بالواجب عليه في ذلك في مذهب عامة الفقهاء. وقد صرح بذلك أصحاب مالك والشافعي من العراقيين والخراسانيين وأصحاب الإمام أحمد وغيرهم. ولا نعلم في ذلك نزاعا بل كرروا هذه المسألة في غير موضع من كتبهم ; فإنهم مع ذكرهم لها في موضعها المشهور ذكروها في غيره كما ذكروها في [باب نكاح الكفار] وجعلوها أصلا قاسوا عليه إذا أسلم الكافر وتحته أكثر من أربع نسوة وامتنع من الاختيار قالوا: يضرب حتى يختار; لأنه امتنع من فعل وجب عليه ويضرب حتى يقوم به كما لو امتنع من أداء الدين الواجب عليه فإنه يضرب حتى يؤديه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه في الصحيحين: (مطل الغني ظلم). والظالم مستوجب للعقوبة. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) [اللي]: المطل [والواجد]: القادر. فقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم من القادر الماطل عرضه. وقد اتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. والمعاصي تنقسم إلى ترك مأمور وفعل محظور. فإذا كانت العقوبة على ترك الواجب - كعقوبة هذا وأمثاله من تاركي الواجب - عوقب حتى يفعله; ولهذا قال العلماء الذين ذكروا هذه المسألة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم: أنه يضرب مرة بعد أخرى. حتى يؤدي. ثم منهم من قدر ضربه في كل مرة بتسعة وثلاثين سوطا. ومنهم من لم يقدره; بناء على أن التعزير هل هو مقدر؟ أم ليس بمقدر؟ للحاكم أن يعزره على امتناعه عقوبة لما مضى وله أيضا أن يعاقبه حتى يتولى الوفاء الواجب عليه وليس على الحاكم أن يتولى هو بيع ماله ووفاء الدين. وإن كان ذلك جائزا للحاكم; لكن متى رأى أن يلزمه هو بالبيع والوفاء زجرا له ولأمثاله عن المطل أو لكون الحاكم مشغولا عن ذلك بغيره أو لمفسدة تخاف من ذلك كانت عقوبته بالضرب حتى يتولى ذلك. فإن قال: إن في بيعه بالنقد في هذا الوقت علي خسارة; ولكن أبيعه إلى أجل وأحيلكم به. وقال الغرماء: لا نحتال; لكن نحن نرضى أن يباع إلى هذا الأجل وأن يستوفي ويوفي. وما ذهب على المشتري كان من ماله. فإنه يجاب الغرماء إلى ذلك. وللحاكم أن يبيعه ويقيم من يستوفي ويوفي مع عقوبته على ترك الواجب. وللغرماء أن يطلبوا تعجيل بيع ما يمكن بيعه نقدا إذا بيع بثمن المثل. ويجب عليه الإجابة إلى ذلك. وللحاكم أن يفعله كما تقدم وأن يعاقبه على ترك الواجب. والله أعلم.
وسئل عمن عليه دين فلم يوفه حتى طولب به عند الحاكم وغيره وغرم أجرة الرحلة. هل الغرم على المدين؟ أم لا؟.
فأجاب: الحمد لله. إذا كان الذي عليه الحق قادرا على الوفاء ومطله حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المماطل; إذا غرمه على الوجه المعتاد.
وسئل عمن حبس بدين وليس له وفاء إلا رهن عند الغريم فهل يمهل ويخرج إلى أن يبيعه؟.
فأجاب: إذا لم يكن له وفاء غير الرهن وجب على الغريم إمهاله حتى يبيعه فمتى لم يمكن بيعه إلا بخروجه أو كان في بيعه في الحبس ضرر عليه وجب إخراجه ليبيعه ويضمن عليه أو يمشي [الغريم] أو وكيله [إليه].
وسئل عن رجل عليه دين حال وله ملك لا تفضل فضلة عن نفقته ونفقة عياله وإذا أراد بيعه لم يتهيأ إلا بدون ثمن مثله. فهل يلزمه بيعه بدون ثمن مثله؟ وإذا لم يلزمه بيعه فهل يقسط الدين عليه على قدر حاله؟ أم لا؟.
فأجاب: لا يباع إلا بثمن المثل المعتاد غالبا في ذلك البلد; إلا أن تكون العادة تغيرت تغيرا مستقرا فيكون حينئذ ثمن المثل قد نقص فيباع بثمن المثل المستقر وإذا لم يجب بيعه فعلى الغريم الإنظار إلى وقت السعة أو الميسرة وله أن يطلب منه كل وقت ما يقدر عليه وهو التقسيط.
وسئل رحمه الله عن قزاز أسلمت له امرأة شقتي غزل فهرب وختم على دكانه فاشتكت صاحبة الشقتين على غزلها فرسم الوالي أن يفتح الدكان وكل من لقي شيئا من رحله يأخذه وبقيت الشقة الواحدة على النول فجاء إنسان موقع فذكر أن له عند القزاز قليل غزل فاشتكى إلى القاضي فرسم له أن يأخذ شقة المرأة ويقسم على أصحاب الأمانات وأنظر حال المرأة.
فأجاب: ما كان في حانوت المفلس من الأمانات مثل الثياب الذي ينسجها للناس والغزل وغير ذلك فإنها لأصحابها باتفاق المسلمين لا تعطى لغير صاحبها. وإذا كان قد أخذ للناس غزلا ولم يوجد عين الغزل لم يجز لصاحب الغزل أن يأخذ مال غيره بدلا عن ماله بل إذا أقرض فيها كانت في ذمته وكذلك ما أعطاه من الأجرة ولم يوف العمل; فإنها دين في ذمته. والديون التي في ذمته لا توفى من أعيان أموال الناس باتفاق العلماء. ومن أقام من الناس بينة بأن هذا عين ماله أخذه وإن لم يقم أحد بينة وكان الرجل خائفا قد علم أن الذي ينسجه ليس هو له وإنما هو للناس لم يوف ديونه من تلك الأموال. ولا يجوز أن يعطى بعض الغزل بدعواه دون بعض بل يجب أن يعدل في ذلك بين الغرماء. وإن أقام واحد شاهدا وحلف مع شاهده حكم له بذلك وإن تعذر ما يعرف به مال هذا ومال هذا إلا علامات مميزة; مثل اسم كل واحد على متاعه: عمل بذلك. وإن تعذر ذلك كله أقرع بين المدعين فمن خرجت قرعته على عين أخذها مع يمينه. فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: القرعة في مثل هذا. والله أعلم.
وسئل عمن عليه دين ولم يكن قادرا على وفاء دينه وثبت أنه ما حصل معه شيء أوفاه وله والد له مال [ولم] يوف عنه شيئا. ويريد والده أن يأخذه معه إلى الحج. فهل يسقط عنه الفرض الذي عليه بحكم الدين الذي عليه وأن ما معه شيء يحج به إلا والده؟
فأجاب: الحمد لله. نعم متى حج به أبوه من ماله جاز ذلك ويسقط عنه الفرض باتفاق العلماء. وتنازعوا: هل يجب عليه الحج إذا بذل له أبوه المال؟ والخلاف في ذلك مشهور. والفرض يسقط عنه سواء ملكه أبوه مالا أو أنفق عليه وأركبه من غير تمليك. فإن كان عليه دين فمتى أذن له الغرماء في السفر للحج فلا ريب في جواز السفر - وإن منعوه من السفر ليقيم ويعمل ويوفيهم كان لهم ذلك وكان مقامه ليكتسب ويوفي الغرماء أولى به وأوجب عليه من الحج - وكان لهم منعه من الحج ولا يحل لهم أن يطالبوه إذا علموا إعساره. ولا يمنعوه الحج. لكن إن قال الغرماء: نخاف أن يحج فلا يرجع فنريد أن يقيم كفيلا ببدنه توجه مطالبتهم بهذا فإن حقوقهم باقية ولكنه عاجز عنها. ولو كان قادرا على الوفاء والدين حال كان لهم منعه بلا ريب. وكذلك لو كان مؤجلا يحل قبل رجوعه فلهم منعه حتى يوثق برهن أو كفيل وهناك حتى يوفي أو يوثق. وأما إن كان لا يحل إلا بعد رجوعه والسفر آمن ففي منعهم له قولان معروفان هما روايتان عن أحمد. وإن كان السفر مخوفا كالجهاد فلهم منعه إذا تعين عليه وإذا تمكن الغرماء من استيفاء حقوقهم فلهم تخليته عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وعن أبي حنيفة: لهم ملازمته وهذا في المقام فإذا أراد المعسر أن كان فيه نزاع والله أعلم.
سئل عن رجل عليه دين وتلف ماله وله بينة عادلة تشهد له بتلف ماله ; لكنها لا تدري: هل تجدد له مال بعد ذلك؟ أم لا؟ فهل القول قوله مع يمينه في الإعسار؟ أم يحتاج إلى بينة؟
فأجاب: إذا قال: لم يحدث لي بعد تلف مالي شيء فالقول قوله مع يمينه في ذلك: في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. والله أعلم.
وسئل عن رجل مديون ولرجل معه معاملة في بضاعة سبع سنين وصار له عنده خمسمائة درهم. أوفى منها ثلاثمائة وتحت يده دار رهنا وقد رفعه إلى الحاكم. فقال المدين: يصبر علي ثمانية أيام أوفيه فما فعل يمهله. فهل يجوز أن يحبسه؟
فأجاب: إذا كان للرجل سلعة فطلب أن يمهل حتى يبيعها ويوفيه من ثمنها: أمهل بقدر ذلك. وكذلك إن أمكنه أن يحتال لوفاء دينه باقتراض أو نحوه وطلب ألا يرسم عليه حتى يفعل ذلك; وجبت إجابته إلى ذلك ولم يجز منعه من ذلك بحبسه. والله أعلم.
وسئل عن رجل عليه دين لجماعة وأعسر عن المبلغ واتفقوا جميعهم على أنهم يمهلوه ويخرجوه وكان قد بقي له بقية مال على أنه يعمل فيه ويوفيهم ففعلوا ذلك; إلا رجل واحد منهم أبى أن يفعل ذلك بعد اتفاق الجماعة معه. فهل له أن يأخذ دون الجماعة الذي له؟ أم لا؟
فأجاب: ليس له بعد رضاه معهم بإنظارهم أن يختص باستيفاء ماله حالا دونهم على مذهب من يقول: إن الحال يتأجل كمالك وأحمد في قول. وعلى مذهب من يقول: لا يتأجل كالشافعي وأحمد في قول. أو من يقول يتأجل في المعاوضات دون التبرعات كأبي حنيفة وأحمد في رواية. ولا فرق في مذهب أحمد ومالك وغيرهما بين أن يكون قد اتفق معهم على التأجيل إلى أجل معين أو يقسطه أقساطا. أو اتفق معهم على أن يفعلوا ذلك فيما بعد: ليس له أن يغدر بهم ويمكر بهم; بل لو قدر أن التأجيل لم يلزم فإنهم مشتركون جميعهم في الاستيفاء من ذلك المتبقي مع الغريم.
وسئل عن رجل عليه دين وله مدة في الاعتقال ولا موجود له غير عمل يده. فهل يحل لأصحاب الدين ضربه أو اعتقاله أو الصبر عليه. ويأخذوا قليلا قليلا على قدر عمله؟
فأجاب: لا يحل اعتقاله ولا ضربه والحالة هذه; بل الواجب تمكينه حتى يعمل ما يوفي دينه بحسب الإمكان. والله أعلم.
باب الصلح
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عن رجل اشترى دارا ولها بابان. كل باب في زقاق غير نافذ وأحدهما مسدود والكتب تشهد بالبابين والمسدود هو الباب الأصلي في صدر الزقاق; فأراد أن يفتح الباب. فهل له أن يفتحه؟؟.
فأجاب: إذا اشترى دارا بحقوقها وكان ذلك الباب الذي سد من حقوقها فله أن يفتحه كما كان أولا. إلا أن يكون هذا الحق مستثنى من المبيع لفظا أو عرفا.
وسئل رحمه الله: عن دارين بينهما شارع فأراد صاحب أحد الدارين أن يعمر على داره غرفة تفضي إلى سد الفضاء عن الدار الأخرى. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟.
فأجاب: إن كان في ذلك إضرار بالجار مثل أن يشرف عليه فإنه يلزم ما يمنع مشارفته الأسفل فإذا لم يكن فيه ضرر على الجار بأن يبني ما يمنع الإشراف عليه أو لا يكون فيه إشراف عليه لم يمنع من البناء.
وسئل عن رجل اشترى دارا وهي تشرف إلى طريق المارة ثم إنه أراد أن يزيد فيها. فاشترى من وكيل بيت المال من جانب الطريق أذرعا معلومة وأقام حائطا فيما اشتراه وأراد أن يعمل على طريق المسلمين ساباطا ليبني عليه دارا. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟ وهل يصح بيع الأرض المبتاعة من وكيل بيت المال التي في طريق المسلمين؟ أم لا؟ وهل يفسق الشاهد الذي يشهد بها لبيت المال أم لا؟ وإذا ادعى الثاني أن بناءه لم يضر بالمسلمين هل يسمع ذلك منه؟ وما الضرر الذي لأجله يمنع البناء على الطريق؟ وهل يجوز لحاكم المسلمين تمكينه من ذلك على هذه الصفة المشروحة. أم لا؟.
فأجاب: الحمد لله. لا يجوز بيع شيء من طريق المسلمين النافذ وليس لوكيل بيت المال بيع ذلك سواء كانت الطريق واسعة أو ضيقة وليس مع الشاهد علم ليس مع سائر الناس اللهم إلا أن يشهد أن هذه لبيت المال مثل أن تكون ملكا لرجل فانتقلت عنه إلى بيت المال وأدخلت في الطريق بطريق الغصب. وأما شهادته أنها لبيت المال بمجرد كونها طريقا فهذا إن أراد أن الطريق المشتركة حق للمسلمين لم يسوغ ذلك بيعها وإن أراد أنها ملك لبيت المال يجوز بيعها كما يباع بيت المال فهذه شهادة زور يستحق صاحبها العقوبة التي تردعه وأمثاله. وليس للحاكم أن يحكم بصحة هذا البيع.
وسئل رحمه الله عن بيتين: أحدهما شرقي الآخر والدخول إلى أحدهما من تحت ميزاب الآخر من سلم وذلك من قديم. فهل لصاحب البيت الذي سلمه ومجراه تحت الميزاب الآخر أن يمنع هذا الميزاب أن يجري على هذا السلم لأجل الضرر الذي يلحقه؟ أم لا؟
فأجاب: ليس له أن يمنع صاحب الحق القديم من حقه. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل أحدث بنيانا ورواشنا على باب الطبقات عليه من حيث يكشف حريم جاره وطبق عليه باب مطلعه من حيث لا يقدر ينزل طبق العجين ولا يطلع قربة سقاء؟
فأجاب: ليس للجار أن يحدث في الطريق المشترك الذي لا ينفذ شيئا بغير إذن رفيقه ولا شركائه ولا أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره. وإذا فعل ذلك فللشريك إزالة ضرره قبل البيع وبعده; لكن إذا أزيل قبل البيع لم يعد وبعد البيع فللمشتري فسخ البيع لأجل هذا النقص.
وسئل عن رجل اشترى حوانيت أرضا وبنى من مدة عشرين سنة وفوقهم علو فحضر من ادعى أن العلو ملكه ولم يصدقه مالك الحوانيت على صحة ملكه وأنشأ على العلو عمارة جديدة فهل يلزمه هدم ما أنشأ مستجدا؟
فأجاب: إذا كانت يده على العلو وصاحب السفل لا يدعي أنه له فهو لصاحب اليد حتى يقيم غيره حجة أنه له. وأما ما أنشأه من العمارة الجديدة فليس له ذلك; إلا أن يكون ذلك من حقوق ملكه. والله أعلم.
وسئل عن رجل اشترى طبقة ولم يكن يروز ثم عمرها وأحدث روشنا على جيرانه في زقاق ليس نافذا وادعى أن فيه بابا شرقي الظاهرية فهل له أن يحدث الروشن؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين ليس له أن يحدث في الدرب الذي لا ينفذ روشنا باتفاق الأئمة فإنهم لم يتنازعوا في ذلك; لكن تنازعوا في جواز إحداثه في الدرب النافذ وفي ذلك نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه. وأما الدرب الذي لا ينفذ فلا نزاع فيه سواء كان له باب إلى مدرسة أو لم يكن فإنه ليس بنافذ. وإذا ادعى أن له فيه حق روشن لم يقبل قوله بغير حجة لكن له تحليف الجيران الذين تنازعوا فيه على نفي استحقاقه لذلك. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عمن له دار وبينهم طريق ونزل على أحدهم بأن كان ساباطا ولم يتضرر الجار والمار وقصد أحد الجيران أن يساويه بالبروز ويخرج عن جيرانه [في] الطريق ويضر بالجار؟
فأجاب: أما الساباط ونحوه إذا كان مضرا فلا يجوز باتفاق العلماء وكذلك لا يجوز لأحد أن يخرج في طريق المسلمين شيئا من أجزاء البناء حتى إنه ينهى عن تجصيص الحائط من خارج إلا أن يدخل حده بمقدار غلظ الجص. وأما إذا كان الساباط ونحوه لا يضر بالطريق ففيه نزاع مشهور بين العلماء. قيل: يجوز كقول الشافعي. وقيل: لا يجوز كأحد القولين في مذهب أحمد ومالك. وقيل: يجوز بإذن الإمام كالقول الأخير. وقيل: إن منعه بعض العامة امتنع كما هو مذهب أبي حنيفة. والله أعلم.
وسئل عن زقاق غير نافذ وفيه جماعة سكان وفيهم شخص له دار. فهل له أن يفتح بابا غير بابه الأصلي؟
فأجاب: ليس له أن يفتح في الدرب الذي لا ينفذ بابا يكون أقرب إلى آخر الدرب من بابه الأصلي; إلا بإذن المشاركين له في الاستطراق في ذلك. والله أعلم.
وسئل عن رجل عمر حوانيت وبجنبها خربة لإنسان فهل لصاحب الدار أن يفتح مشرعا من الخربة؟ أم لا؟
فأجاب: ليس له أن يفتح مشرعا - يعني بابا في درب غير نافذ - إلا بإذن أهله; إلا أن يكون له فيه حق الاستطراق. والله أعلم.
وسئل عن ملك مشترك بين مسلم وذمي فهدماه إلى آخره. فهل يجوز تعليته على ملك جارهما المسلم؟ أم لا؟
فأجاب: الحمد لله. ليس لهما تعليته على ملك المسلم فإن تعلية الذمي على المسلم محظورة وما لا يتم اجتناب المحظور إلا باجتنابه فهو محظور. كما في مسائل اختلاط الحرام بالحلال كما لو اختلط بالماء والمائعات نجاسة ظاهرة وكالمتولد بين مأكول وغير مأكول كالسمع والعسار والبغل وكما في [مسائل الاشتباه] أيضا: مثل أن تشتبه أخته بأجنبية والمذكى بالميت فإنه لما لم يمكن اجتناب المحظورات إلا باجتناب المباح في الأصل ; وجب اجتنابهما جميعا كما أن ما لا يتم الواجب إلا بفعله ففعله واجب. وإنما ذاك إذا كان ليس شرطا في الوجوب وهو مقدور للمكلف وهنا لا يمكن منع الذمي من تعلية بنائه على المسلم إلا أن يمنع شريكه فيجب منعهما وليس في منع المسلم من تعلية بنائه على مسلم تعلية كافر على مسلم بخلاف ما إذا أمكن الشريك من التعلية فإنه يكون في ذلك علو للكافر على المسلم وذلك لا يجوز وإذا عليا البناء وجب هدمه. ولا يجوز لمسلم أن يجعل جاه المسلم ذريعة لرفع كافر على مسلم. ومن شارك الكافر أو استخدمه وأراد بجاه الإسلام أن يرفع على المسلمين فقد بخس الإسلام واستحق أن يهان الإهانة الإسلامية. والله أعلم.
وسئل عن بستان مشترك حصلت فيه القسمة فأراد أحد الشريكين أن يبني بينه وبين شريكه جدارا فامتنع أن يدعه يبني أو يقوم معه على البناء.
فأجاب: إنه يجبر على ذلك ويؤخذ الجدار من أرض كل منهما بقدر حقه.
وسئل عن بستان بين شريكين، ثم قسماه، فأراد أحدهما أن يبني حائطه بينه وبين شريكه، فامتنع الشريك أن يخليه يبني في أرضه وعلي غرامة البناء؟
فأجاب: يجبر الممتنع أن يبني الجدار في الحقين من الشريكين جميعا، إذا كانا محتاجين إلى السترة.
وسئل أيضا فلو كانت المسألة بحالها , فإن امتنع أحدهما أن يبني مع شريكه، وبناه أحدهما بماله، لكنه وضع بعض أساسه من سهم هذا, وبعضه من سهم هذا، فهل له أن يمنع الذي لم يبن معه أن ينتفع بالجدار؟ مثل أن يضع جاره عليه شيئاً، أو يبني عليه، أم لا؟
فأجاب: لو كان الجدار مختصا بأحدهما لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع بما يحتاج إليه الجار، ولا يضر بصاحب الجدار.
والله أعلم.
وسئل عن رجل اشترى من بيت المال بمصر شراء صحيحا شرعيا وبنى فتعرض له إنسان ومنعه من البناء فهل له ذلك؟
فأجاب: الحمد لله. إذا بنى في ملكه بناء لم يتعد به على الجار; لكن يخاف أن يسكن في البناء الجديد ناس آخرون فينقص كراء الأول لم يكن له منعه لأجل ذلك. بلا نزاع بين العلماء.
وسئل عن رجل له ملك وهو واقع فأعلموه بوقوعه فأبى أن ينقضه ثم وقع على صغير فهشمه هل يضمن؟ أو لا؟
فأجاب: هذا يجب الضمان عليه في أحد قولي العلماء; لأنه مفرط في عدم إزالة هذا الضرر والضمان على المالك الرشيد الحاضر أو وكيله إن كان غائبا أو وليه إن كان محجورا عليه. ووجوب الضمان في مثل هذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي. والواجب نصف الدية والأرش في ما لا تقدير فيه ويجب ذلك على عاقلة هؤلاء إن أمكن; وإلا فعليهم في أصح قولي العلماء.
وقال رحمه الله
إذا احتاج إلى إجراء مائه في أرض غيره ولا ضرر فله ذلك، وعنه لربها منعه، كما لو استغنى عنه، أو عن اجرائه فيها.
قال: ولو كان لرجل نهر يجري في أرض مباحة، أو بعضه، ولا ضرر فيه، إلا انتفاعه به، فأفتيت بجواز ذلك، وانه لا يحل منعه، فإن المرور في الأرض، كما أنه ينتفع به صاحب الماء, فيكون حقا له، فإنه ينتفع به صاحب الأرض أيضا، كما في حديث عمر. فهو هنا انتفع بإجراء مائه، كما أنه هناك انتفع بأرضه.
ونظيرها لو كان لرب الجدار مصلحة في وضع الجذوع عليه من غير ضرر الجذوع. وعكس مسألة إمرار الماء: لو أراد أن يجرري في أرضه من بقعة إلى بقعة، ويخرجه إلى أرض مباحة، أو إلى أرض جار راض, من غير أن يكون على رب الماء ضرر؛ لكن ينبغي أن يملك ذلك؛ لأنه يستحق شغل المكان الفارغ، فكذلك تفريغ المشغول.
والضابط أن الجار. إما أن يريد أحداث الانتفاع بمكان جاره, أو إزالة انتفاع الجار الذي ينفعه زواله، ولا يضر الآخر.
ومن أصلنا أن المجاورة توجب لكل من الحق مالا يجب للأجنبي، ويحرم عليه مالا يحرم للأجنبي، ويحرم عليه مالا يحرم للأجنبي. فيبيح الانتفاع بملك الجار، الخالي عن ضرر الجار، ويحرم الانتفاع بملك المنتفع إذا كان فيه إضرار.
فصل وإذا قلنا: بإجراء مائه على إحدى الروايتين. فاحتاج أن يجري ماءه في طريق مياه. مثل أن يجري مياه سطوحه وغيرها في قناة لجاره، أو يسوق في قناة غدير ماء ثم يقاسمه جاز.
باب الحجر
وسئل رحمه الله
عن رجل عسفه إنسان على دين يريد حبسه وهو معسر. فهل القول قوله في أنه معسر؟ أو يلزم بإقامة البينة في ذلك؟.
فأجاب: إذا كان الدين لزمه بغير معاوضة كالضمان ولم يعرف له مال قبل ذلك فالقول قوله مع يمينه في الإعسار. والله أعلم.
وسئل الشيخ رحمه الله
عن رجل مسلم اشترى من ذمي عقارا ثم رمى نفسه عليه واشترى منه قسطين والتزم يمينا شرعية الوفاء إلى شهر. فهل على أحد أن يعلمه حيلة وهو قادر؟.
فأجاب: الحمد لله. إذا كان الغريم قادرا على الوفاء لم يكن لأحد أن يلزم رب الدين بترك مطالبته ولا يطلب منه حيلة لا حقيقة لها لأجل ذلك. مثل أن يقبض منه ثم يعيد إليه غير حقيقة استيفاء. وإن كان معسرا وجب إنظاره. واليمين المطلقة محمولة على حال القدرة; لا على حال العجز. والله أعلم.
وسئل
عمن ترك بعد موته كرما ودارا وعليه دين يستوعب ذلك كله وله من الورثة: زوجة وبنت والسلطان. فطلب أرباب الدين من الورثة بيع الملك فهل يلزم الورثة البيع؟ أو الحاكم؟.
فأجاب: إن باع الورثة ووفوا من الثمن جاز. وإن سلموه للغرماء فباعه الغرماء واستوفوا ديونهم جاز. وإن طلبوا من الحاكم أن يقيم لهم أمينا يتولى ذلك جاز. وإن أقاموا هم أمينا يتولى ذلك جاز. وإذا سلم الورثة ذلك إلى الغرماء لم يجب على الورثة أن يتولوا البيع. والله أعلم.
وسئل
عن رجل باع قماشا لإنسان تاجر وكسب فيه شيئا معينا وقسط عليه الثمن والمديون يطلب السفر ولم يقم له كافلا. فهل لصاحب المال أن يمنعه من السفر. أم لا؟.
فأجاب: إن كان الدين حالا وهو قادر على وفائه فله أن يمنعه من السفر قبل استيفائه. وكذلك إن كان مؤجلا ومحله قبل قدوم المدين فله أن يمنعه من السفر حتى يوثق برهن يحفظ المال أو كفيل. وإن كان الدين لا يحل إلا بعد قدوم المدين; ففيه نزاع بين العلماء. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عمن أعتق عبدا وهو محتاج وعليه ديون وماله جدة. فهل يجوز له أن يبيعه ويوفي به دينه؟.
فأجاب: إن كان حين أعتقه موسرا ليس عليه دين أو عليه دين له وفاء غير العبد: فقد عتق ولا رجوع فيه وإن كان حين أعتقه عليه دين يحيط بماله: ففي صحته نزاع بين العلماء. والله أعلم.
وسئل عن رجل ادعى على غريم له عند الحاكم فاعترف له بدينه وبالقدرة والملاءة فاعتقله الحاكم وحجر عليه عقيب ذلك. ثم إن المعتقل أراد إثبات إعساره عند حاكم آخر; فهل له ذلك؟.
فأجاب: لا تقبل دعوى إعساره بعد الاعتراف بالقدرة وبعد الحجر عليه إذا لم يبين السبب الذي أزال الملاءة ويكون ذلك ممكنا في العادة كحرق الدار التي فيها متاعه ونحوه; وليس له طلب إتمام الحكم في ذلك. وأن يدعي ذلك ويثبته عند غير الحاكم الذي حبسه وحجر عليه بدون إذنه. والله أعلم.
وسئل قدس الله روحه عن رجل استدان من التجار أموالا وطولب بها وامتنع من الوفاء مع القدرة على ذلك واعتقلوه بحكم الشرع. فهل يجوز للحاكم عقوبته حتى يوفي ما عليه؟ وماذا حكم الشرع فيه؟.
فأجاب: إذا امتنع مما يجب عليه من إظهار ماله والتمكين من توفية الناس جميع حقوقهم وكان ماله ظاهرا واحتيج إلى التوفية إلى فعل منه وامتنع منه وأصر على الحبس: فإنه يعاقب بالضرب حتى يقوم بالواجب عليه في ذلك في مذهب عامة الفقهاء. وقد صرح بذلك أصحاب مالك والشافعي من العراقيين والخراسانيين وأصحاب الإمام أحمد وغيرهم. ولا نعلم في ذلك نزاعا بل كرروا هذه المسألة في غير موضع من كتبهم ; فإنهم مع ذكرهم لها في موضعها المشهور ذكروها في غيره كما ذكروها في [باب نكاح الكفار] وجعلوها أصلا قاسوا عليه إذا أسلم الكافر وتحته أكثر من أربع نسوة وامتنع من الاختيار قالوا: يضرب حتى يختار; لأنه امتنع من فعل وجب عليه ويضرب حتى يقوم به كما لو امتنع من أداء الدين الواجب عليه فإنه يضرب حتى يؤديه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه في الصحيحين: (مطل الغني ظلم). والظالم مستوجب للعقوبة. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) [اللي]: المطل [والواجد]: القادر. فقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم من القادر الماطل عرضه. وقد اتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. والمعاصي تنقسم إلى ترك مأمور وفعل محظور. فإذا كانت العقوبة على ترك الواجب - كعقوبة هذا وأمثاله من تاركي الواجب - عوقب حتى يفعله; ولهذا قال العلماء الذين ذكروا هذه المسألة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم: أنه يضرب مرة بعد أخرى. حتى يؤدي. ثم منهم من قدر ضربه في كل مرة بتسعة وثلاثين سوطا. ومنهم من لم يقدره; بناء على أن التعزير هل هو مقدر؟ أم ليس بمقدر؟ للحاكم أن يعزره على امتناعه عقوبة لما مضى وله أيضا أن يعاقبه حتى يتولى الوفاء الواجب عليه وليس على الحاكم أن يتولى هو بيع ماله ووفاء الدين. وإن كان ذلك جائزا للحاكم; لكن متى رأى أن يلزمه هو بالبيع والوفاء زجرا له ولأمثاله عن المطل أو لكون الحاكم مشغولا عن ذلك بغيره أو لمفسدة تخاف من ذلك كانت عقوبته بالضرب حتى يتولى ذلك. فإن قال: إن في بيعه بالنقد في هذا الوقت علي خسارة; ولكن أبيعه إلى أجل وأحيلكم به. وقال الغرماء: لا نحتال; لكن نحن نرضى أن يباع إلى هذا الأجل وأن يستوفي ويوفي. وما ذهب على المشتري كان من ماله. فإنه يجاب الغرماء إلى ذلك. وللحاكم أن يبيعه ويقيم من يستوفي ويوفي مع عقوبته على ترك الواجب. وللغرماء أن يطلبوا تعجيل بيع ما يمكن بيعه نقدا إذا بيع بثمن المثل. ويجب عليه الإجابة إلى ذلك. وللحاكم أن يفعله كما تقدم وأن يعاقبه على ترك الواجب. والله أعلم.
وسئل عمن عليه دين فلم يوفه حتى طولب به عند الحاكم وغيره وغرم أجرة الرحلة. هل الغرم على المدين؟ أم لا؟.
فأجاب: الحمد لله. إذا كان الذي عليه الحق قادرا على الوفاء ومطله حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المماطل; إذا غرمه على الوجه المعتاد.
وسئل عمن حبس بدين وليس له وفاء إلا رهن عند الغريم فهل يمهل ويخرج إلى أن يبيعه؟.
فأجاب: إذا لم يكن له وفاء غير الرهن وجب على الغريم إمهاله حتى يبيعه فمتى لم يمكن بيعه إلا بخروجه أو كان في بيعه في الحبس ضرر عليه وجب إخراجه ليبيعه ويضمن عليه أو يمشي [الغريم] أو وكيله [إليه].
وسئل عن رجل عليه دين حال وله ملك لا تفضل فضلة عن نفقته ونفقة عياله وإذا أراد بيعه لم يتهيأ إلا بدون ثمن مثله. فهل يلزمه بيعه بدون ثمن مثله؟ وإذا لم يلزمه بيعه فهل يقسط الدين عليه على قدر حاله؟ أم لا؟.
فأجاب: لا يباع إلا بثمن المثل المعتاد غالبا في ذلك البلد; إلا أن تكون العادة تغيرت تغيرا مستقرا فيكون حينئذ ثمن المثل قد نقص فيباع بثمن المثل المستقر وإذا لم يجب بيعه فعلى الغريم الإنظار إلى وقت السعة أو الميسرة وله أن يطلب منه كل وقت ما يقدر عليه وهو التقسيط.
وسئل رحمه الله عن قزاز أسلمت له امرأة شقتي غزل فهرب وختم على دكانه فاشتكت صاحبة الشقتين على غزلها فرسم الوالي أن يفتح الدكان وكل من لقي شيئا من رحله يأخذه وبقيت الشقة الواحدة على النول فجاء إنسان موقع فذكر أن له عند القزاز قليل غزل فاشتكى إلى القاضي فرسم له أن يأخذ شقة المرأة ويقسم على أصحاب الأمانات وأنظر حال المرأة.
فأجاب: ما كان في حانوت المفلس من الأمانات مثل الثياب الذي ينسجها للناس والغزل وغير ذلك فإنها لأصحابها باتفاق المسلمين لا تعطى لغير صاحبها. وإذا كان قد أخذ للناس غزلا ولم يوجد عين الغزل لم يجز لصاحب الغزل أن يأخذ مال غيره بدلا عن ماله بل إذا أقرض فيها كانت في ذمته وكذلك ما أعطاه من الأجرة ولم يوف العمل; فإنها دين في ذمته. والديون التي في ذمته لا توفى من أعيان أموال الناس باتفاق العلماء. ومن أقام من الناس بينة بأن هذا عين ماله أخذه وإن لم يقم أحد بينة وكان الرجل خائفا قد علم أن الذي ينسجه ليس هو له وإنما هو للناس لم يوف ديونه من تلك الأموال. ولا يجوز أن يعطى بعض الغزل بدعواه دون بعض بل يجب أن يعدل في ذلك بين الغرماء. وإن أقام واحد شاهدا وحلف مع شاهده حكم له بذلك وإن تعذر ما يعرف به مال هذا ومال هذا إلا علامات مميزة; مثل اسم كل واحد على متاعه: عمل بذلك. وإن تعذر ذلك كله أقرع بين المدعين فمن خرجت قرعته على عين أخذها مع يمينه. فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: القرعة في مثل هذا. والله أعلم.
وسئل عمن عليه دين ولم يكن قادرا على وفاء دينه وثبت أنه ما حصل معه شيء أوفاه وله والد له مال [ولم] يوف عنه شيئا. ويريد والده أن يأخذه معه إلى الحج. فهل يسقط عنه الفرض الذي عليه بحكم الدين الذي عليه وأن ما معه شيء يحج به إلا والده؟
فأجاب: الحمد لله. نعم متى حج به أبوه من ماله جاز ذلك ويسقط عنه الفرض باتفاق العلماء. وتنازعوا: هل يجب عليه الحج إذا بذل له أبوه المال؟ والخلاف في ذلك مشهور. والفرض يسقط عنه سواء ملكه أبوه مالا أو أنفق عليه وأركبه من غير تمليك. فإن كان عليه دين فمتى أذن له الغرماء في السفر للحج فلا ريب في جواز السفر - وإن منعوه من السفر ليقيم ويعمل ويوفيهم كان لهم ذلك وكان مقامه ليكتسب ويوفي الغرماء أولى به وأوجب عليه من الحج - وكان لهم منعه من الحج ولا يحل لهم أن يطالبوه إذا علموا إعساره. ولا يمنعوه الحج. لكن إن قال الغرماء: نخاف أن يحج فلا يرجع فنريد أن يقيم كفيلا ببدنه توجه مطالبتهم بهذا فإن حقوقهم باقية ولكنه عاجز عنها. ولو كان قادرا على الوفاء والدين حال كان لهم منعه بلا ريب. وكذلك لو كان مؤجلا يحل قبل رجوعه فلهم منعه حتى يوثق برهن أو كفيل وهناك حتى يوفي أو يوثق. وأما إن كان لا يحل إلا بعد رجوعه والسفر آمن ففي منعهم له قولان معروفان هما روايتان عن أحمد. وإن كان السفر مخوفا كالجهاد فلهم منعه إذا تعين عليه وإذا تمكن الغرماء من استيفاء حقوقهم فلهم تخليته عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وعن أبي حنيفة: لهم ملازمته وهذا في المقام فإذا أراد المعسر أن كان فيه نزاع والله أعلم.
سئل عن رجل عليه دين وتلف ماله وله بينة عادلة تشهد له بتلف ماله ; لكنها لا تدري: هل تجدد له مال بعد ذلك؟ أم لا؟ فهل القول قوله مع يمينه في الإعسار؟ أم يحتاج إلى بينة؟
فأجاب: إذا قال: لم يحدث لي بعد تلف مالي شيء فالقول قوله مع يمينه في ذلك: في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. والله أعلم.
وسئل عن رجل مديون ولرجل معه معاملة في بضاعة سبع سنين وصار له عنده خمسمائة درهم. أوفى منها ثلاثمائة وتحت يده دار رهنا وقد رفعه إلى الحاكم. فقال المدين: يصبر علي ثمانية أيام أوفيه فما فعل يمهله. فهل يجوز أن يحبسه؟
فأجاب: إذا كان للرجل سلعة فطلب أن يمهل حتى يبيعها ويوفيه من ثمنها: أمهل بقدر ذلك. وكذلك إن أمكنه أن يحتال لوفاء دينه باقتراض أو نحوه وطلب ألا يرسم عليه حتى يفعل ذلك; وجبت إجابته إلى ذلك ولم يجز منعه من ذلك بحبسه. والله أعلم.
وسئل عن رجل عليه دين لجماعة وأعسر عن المبلغ واتفقوا جميعهم على أنهم يمهلوه ويخرجوه وكان قد بقي له بقية مال على أنه يعمل فيه ويوفيهم ففعلوا ذلك; إلا رجل واحد منهم أبى أن يفعل ذلك بعد اتفاق الجماعة معه. فهل له أن يأخذ دون الجماعة الذي له؟ أم لا؟
فأجاب: ليس له بعد رضاه معهم بإنظارهم أن يختص باستيفاء ماله حالا دونهم على مذهب من يقول: إن الحال يتأجل كمالك وأحمد في قول. وعلى مذهب من يقول: لا يتأجل كالشافعي وأحمد في قول. أو من يقول يتأجل في المعاوضات دون التبرعات كأبي حنيفة وأحمد في رواية. ولا فرق في مذهب أحمد ومالك وغيرهما بين أن يكون قد اتفق معهم على التأجيل إلى أجل معين أو يقسطه أقساطا. أو اتفق معهم على أن يفعلوا ذلك فيما بعد: ليس له أن يغدر بهم ويمكر بهم; بل لو قدر أن التأجيل لم يلزم فإنهم مشتركون جميعهم في الاستيفاء من ذلك المتبقي مع الغريم.
وسئل عن رجل عليه دين وله مدة في الاعتقال ولا موجود له غير عمل يده. فهل يحل لأصحاب الدين ضربه أو اعتقاله أو الصبر عليه. ويأخذوا قليلا قليلا على قدر عمله؟
فأجاب: لا يحل اعتقاله ولا ضربه والحالة هذه; بل الواجب تمكينه حتى يعمل ما يوفي دينه بحسب الإمكان. والله أعلم.