كِتَابُ النكَـاح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه ـ عمن أصابه سهم من سهام إبليس المسمومة؟
فأجاب:
من أصابه جرح مسموم فعليه بما يخرج السم ويبرئ الجرح بالترياق والمرهم. وذلك بأمور:
منها: أن يتزوج أو يتسري؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نظر أحدكم إلى محاسن امرأة فليأت أهله؛ فإنما معها مثل ما معها)، وهذا مما ينقص الشهوة، ويضعف العشق.
الثاني: أن يداوم على الصلوات الخمس، والدعاء، والتضرع وقت السحر. وتكون صلاته بحضور قلب وخشوع، وليكثر من الدعاء بقوله: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك. يا مصرف القلوب، صرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك)، فإنه متى أدمن الدعاء والتضرع للهصرف قلبه عن ذلك، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
/الثالث: أن يبعد عن مسكن هذا الشخص، والاجتماع بمن يجتمع به؛ بحيث لا يسمع له خبر، ولا يقع له على عين ولا أثر؛ فإن البعد جفا، ومتى قل الذكر ضعف الأثر في القلب. فليفعل هذه الأمور، وليطالع بما تجدد له من الأحوال. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل عازب، ونفسه تتوق إلى الزواج؛ غير أنه يخاف أن يتكلف من المرأة ما لا يقدر عليه، وقد عاهد الله ألا يسأل أحداً شيئا فيه منة لنفسه وهو كثير التطلع إلى الزواج: فهل يأثم بترك الزواج؟ أم لا؟
فأجاب:
قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء). و[استطاعة النكاح]: هو القدرة على المؤنة؛ ليس هو القدرة على الوطء؛ فإن الحديث إنما هو خطاب للقادر على فعل الوطء؛ ولهذا أمر من لم يستطع أن يصوم؛ فإنه له وجاء. ومن لا مال له: هل يستحب أن يقترض ويتزوج؟ فيه نزاع في مذهب الإمام أحمد وغيره. وقد قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حتى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33]. وأما [الرجل الصالح] فهو القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل خطب على خطبته رجل آخر: فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه، ولا يستام على سوم أخيه)؛ ولهذا اتفق الأئمة الأربعة في المنصوص عنهم وغيرهم من الأئمة على تحريم ذلك، وإنما تنازعوا في صحة نكاح الثاني؟ على قولين:
أحدهما: أنه باطل؛ كقول مالك وأحمد في إحدى الروايتين.
والآخر: أنه صحيح؛ كقول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخري؛ بناء على أن المحرم هو ما تقدم على العقد، وهو الخطبة. ومن أبطله قال: إن ذلك تحريم للعقد بطريق الأولى. ولا نزاع بينهم في أن فاعل ذلك عاص للهورسوله؛ وإن نازع في ذلك بعض أصحابهم. والإصرار على المعصية مع العلم بها يقدح في دين الرجل وعدالته وولايته على المسلمين.
/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن امرأة فارقت زوجها، وخطبها رجل في عدتها، وهو ينفق عليها: فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة، ولو كانت في عدة وفاة باتفاق المسلمين. فكيف إذا كانت في عدة الطلاق؟ ! ومن فعل ذلك يستحق العقوبة التي تردعه وأمثاله عن ذلك، فيعاقب الخاطب والمخطوبة جميعاً، ويزجر عن التزويج بها؛ معاقبة له بنقيض قصده. والله أعلم.
وسئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا، وأوفت العدة عنده، وخرجت، وبعد وفاء العدة تزوجت، وطلقت في يومها، ولم يعلم مطلقها إلا ثاني يوم: فهل يجوز له أن يتفق معها إذا أوفت عدتها أن يراجعها؟
فأجاب:
ليس له في زمن العدة من غيره أن يخطبها، ولا ينفق عليها ليتزوجها، وإذا كان الطلاق رجعيا لم يجز له التعريض أيضا، وإن كان بائنا ففي جواز التعريض نزاع. هذا إذا كانت قد تزوجت بنكاح رغبة. وأما إن كانت قد تزوجت بنكاح محلل فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له.
/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن رجل خطب ابنة رجل من العدول، واتفق معه على المهر؛ منه عاجل ومنه آجل. وأوصل إلى والدها المعجل من مدة أربع سنين، وهو يواصلهم بالنفقة، ولم يكن بينهم مكاتبة. ثم بعد هذا جاء رجل فخطبها، وزاد عليه في المهر، ومنع الزوج الأول؟
فأجاب:
لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه إذا أجيب إلى النكاح وركنوا إليه باتفاق الأئمة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه). وتجب عقوبة من فعل ذلك وأعان عليه؛ عقوبة تمنعهم وأمثالهم عن ذلك. وهل يكون نكاح الثاني صحيحاً، أو فاسداً؟ فيه قولان للعلماء؛ في مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل يدخل على امرأة أخيه، وبنات عمه، وبنات خاله: هل يحل له ذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
لا يجوز له أن يخلو بها، ولكن إذا دخل مع غيره من غير خلوة ولا ريبة جاز له ذلك. والله أعلم.
/وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل أملك على بنت، وله مدة سنين ينفق عليها، ودفع لها، وعزم على الدخول: فوجد والدها قد زوجها غيره؟
فأجاب:
قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسلم أخو المسلم، لا يحل للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه؛ ولا يستام على سوم أخيه؛ ولا يبيع على بيع أخيه). فالرجل إذا خطب امرأة، وركن إليه من إليه نكاحها ـ كالأب المجبر ـ فإنه لا يحل لغيره أن يخطبها. فكيف إذا كانوا قد ركنوا إليه، وأشهدوا بالإملاك المتقدم للعقد، وقبضوا منه الهدايا، وطالت المدة؟ ! فإن هؤلاء فعلوا محرما يستحقون العقوبة عليه بلا ريب، ولكن العقد الثاني هل يقع صحيحاً أو باطلا؟ فيه قولان للعلماء:
أحدهما ـ وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد ـ: أن عقد الثاني باطل؛ فتنزع منه وترد إلى الأول.
والثاني: أن النكاح صحيح؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، فيعاقب من فعل المحرم، ويرد إلى الأول جميع ما أخذ منه. والقول الأول أشبه بما في الكتاب والسنة.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل طلق زوجته ثلاثا، ولهما ولدان، وهي مقيمة عند الزوج في بيته مدة سنين، ويبصرها وتبصره: فهل يحل لها الأكل الذي تأكل من عنده؟ أم لا؟ وهل له عليها حكم؟ أم لا؟
فأجاب:
المطلقة ثلاثًا هي أجنبية من الرجل، بمنزلة سائر الأجنبيات، فليس للرجل أن يخلو بها، كما ليس له أن يخلو بالأجنبية. وليس له أن ينظر إليها إلى مالا ينظر إليه من الأجنبية؛ وليس له عليها حكم أصلا.
ولا يجوز له أن يواطئها على أن تزوج غيره ثم تطلقه وترجع إليه، ولا يجوز أن يعطيها ما تنفقه في ذلك؛ فإنها لو تزوجت رجلا غيره بالنكاح المعروف الذي جرت به عادة المسلمين ثم مات زوجها أو طلقها ثلاثا لم يجز لهذا الأول أن يخطبها في العدة صريحاً باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عليكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235]، ونهاه أن يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، أي حتى تنقضي العدة. فإذا كان قد نهاه عن هذه المواعدة والعزم في العدة فكيف إذا كانت في عصمة زوجها؟ ! فكيف إذا كان الرجل لم يتزوجها بعد؛ تواعد / على أن تتزوجه، ثم تطلقه، وتزوج بها المواعد. فهذا حرام باتفاق المسلمين، سواء قيل: إنه يصح نكاح المحلل، أو قيل: لا. فلم يتنازعوا في أن التصريح بخطبة معتدة من غيره أو متزوجة بغيره أو بخطبة مطلقة ثلاثا أنه لا يجوز. ومن فعل ذلك يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة باتفاق الأئمة.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل يتكلم شبه كلام النساء، وهو [طنجير] هل يحل دخوله على النساء؟ وما الحكم فيه؟
فأجاب:
بل مثل هذا يجب نفيه، وإخراجه؛ فلا يسكن بين الرجال، ولا بين النساء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفي المخنث، وأمر بنفي المخنثين، وقال: (أخرجوهم من بيوتكم)، ومع هذا فلم يكن طنجيراً، فكيف الطنجير؟ ! وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
فصل
في الأسباب التي بين الله وعباده، وبين العباد: الخلقية والكسبية، الشرعية والشرطية، قـال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عليكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، افتتح السورة بذكر خلق الجنس الإنساني من نفس واحدة؛ وأن زوجها مخلوق منها، وأنه بث منهما الرجال والنساء؛ أكمل الأسباب وأجلها، ثم / ذكر ما بين الآدميين من الأسباب المخلوقة الشرعية: كالولادة، ومن الكسبية الشرطية: كالنكاح. ثم قال: {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}. قال طائفة من المفسرين من السلف: {تَسَاءلُونَ بِهِ}: تتعاهدون به، وتتعاقدون. وهو كما قالوا؛ لأن كل واحد من المتعاقدين عقد البيع أو النكاح أو الهدنة أو غير ذلك يسأل الآخر مطلوبه؛ هذا يطلب تسليم المبيع، وهذا تسليم الثمن. وكل منهما قد أوجب على نفسه مطلوب الآخر، فكل منهما طالب من الآخر موجب لمطلوب الآخر.
ثم قال: {وَالأَرْحَامَ}. و[العهود] و[الأرحام]: هما جماع الأسباب التي بين بني آدم؛ فإن الأسباب التي بينهم: إما أن تكون بفعل الله أو بفعلهم. فالأول [الأرحام]، والثاني [العهود]؛ ولهذا جمع الله بينهما في مواضع، في مثل قوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10]، فالإل: القرابة، والرحم، والذمة: العهد، والميثاق. وقال تعالى في أول البـقرة: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} [البقرة: 27]، وقال: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}[الرعد: 20ـ 25]. واعلم أن حق الله داخل في الحقين، ومقدم عليهما؛ ولهذا قدمـه في قوله: {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم} [النساء: 1]، فإن الله خلق العبد وخلق أبويه، وخلقه من أبويه. فالسبب الذي بينه وبين الله هو الخلقي التام؛ بخلاف سبب الأبوين؛ فإن أصل مادته منهما، وله مـادة مـن غيرهما؛ ثم إنهما لم يصـوراه في الأرحـام. والعبـد ليس له مادة إلا / من أبويه، والله هو خالقه وبارئه ومصوره ورازقه وناصره وهاديه، وإنما حق الأبوين فيه بعض المناسبة لذلك؛ فلذلك قرن حق الأبوين بحقه في قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وفي قـوله: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شيئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وفي قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم التبرؤ من الأبوين كفراً؛ لمناسبته للتبرؤ من الرب. وفي الحديث الصحيح: (من ادعي إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر) أخرجاه في الصحيحين، وقوله: (كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق)، وقوله: (لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم. فحق النسب والقرابة والرحم تقدمه حق الربوبية، وحق القريب المجيب الرحمن؛ فإن غاية تلك أن تتصل بهذا، كما قال الله: (أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)، وقال: (الرحم شُجْنَة من الرحمن)، وقال: (لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة). وقد قيل في قوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ} [التوبة: 10]، إن [الإل]: الرب، كقول الصديق ـ لما سمع قرآن مسيلمة ـ: إن هذا كلام لم يخرج من إلّ. وأما دخول حق الرب في العهود والعقود. فكدخول العبد في الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله؛ فإن هذا عهد الإسلام، وهو أشرف العهود وأوكدها وأعمها وأكملها.
/ باب أركان النكاح وشروطه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى:
فصل
عمدة من قال: لا يصح النكاح إلا بلفظ [الإنكاح] و[التزويج] ـ وهم أصحاب الشافعي، وابن حامد، ومن وافقهم من أصحابنا كأبي الخطاب والقاضي، وأصحابه، ومن بعده ـ إلا في لفظ: [أعتقتك، وجعل عتقك صداقك]، أنهم قالوا: ما سوي هذين اللفظين [كناية]، والكناية لا تقتضي الحكم إلا بالنية، والنية في القلب لا تعلم، فلا يصح عقد النكاح بالكناية؛ لأن صحته مفتقرة إلى الشهادة عليه، والنية لا يشهد عليها، بخلاف ما يصح بالكناية؛ من طلاق وعتق وبيع؛ فإن الشهادة لا تشترط في صحة ذلك. ومنهم من يجعل ذلك تعبداً؛ لما فيه من ثبوت العبادات. وهذا قول من لا يصححه إلا بالعربية من أصحابنا وغيرهم. وهذا ضعيف لوجوه:
أحدها: لا نسلم أن ما سوي هذين كناية، بل ثم ألفاظ هي حقائق عرفية في العقد أبلغ من لفظ [أنكحت]، فإن هذا اللفظ مشترك بين الوطء والعقد، ولفظ [الإملاك] خاص بالعقد، لا يفهم إذا قال القائل: أملك فلان على فلانة، إلا العقد، كما في الصحيحين: (أملكتكها على ما معك من القرآن)، سواء كانت الرواية باللفظ أو بالمعنى.
/الثاني: أنا لا نسلم أن الكناية تفتقر إلى النية مطلقاً، بل إذا قرن بها لفظ من ألفاظ الصريح، أو حكم من أحكام العقد كانت صريحة، كما قالوا في [الوقف]: إنه ينعقد بالكناية؛ كتصدقت، وحرمت، وأبدت. إذا قرن بها لفظ أو حكم. فإذا قال: أملكتكها فقال: قبلت هذا التزويج. أو أعطيتكها زوجة فقال: قبلت. أو أملكتكها على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ونحو ذلك؛ فقد قرن بها من الألفاظ والأحكام ما يجعله صريحاً.
الثالث: أن إضافة ذلك إلى الحرة يبين المعنى؛ فإنه إذا قال في ابنته: ملكتكها، أو أعطيتكها، أو زوجتكها، ونحو ذلك؛ فالمحل ينفي الإجمال والاشتراك.
الرابع: أن هذا منقوض عليهم بالشهادة في الرجعة؛ فإنها مشروعة إما واجبة، وإما مستحبة. وهي شرط في صحة الرجعة على قول، وبالشهادة على البيع وسائر العقود؛ فإن ذلك مشروع مطلقاً، سواء كان العقد بصريح أو كناية مفسرة.
الخامس: أن الشهادة تصح على العقد. ويثبت بها عند الحاكم على أي صورة انعقدت. فعلم أن اعتبار الشهادة فيه لا يمنع ذلك.
السادس: أن العاقدين يمكنهما تفسير مرادهما. ويشهد الشهود على ما فسروه.
/السابع: أن الكناية عندنا إذا اقترن بها دلالة الحال كانت صريحة في الظاهر بلا نزاع. ومعلوم أن اجتماع الناس، وتقديم الخطبة، وذكر المهر، والمفاوضة فيه، والتحدث بأمر النكاح، قاطع في إرادة النكاح. وأما التعبد فيحتاج إلى دليل شرعي. ثم العقد جنس لا يشرع فيه التعبد بالألفاظ؛ لأنها لا يشترط فيها الإيمان، بل تصح من الكافر، وما يصح من الكافر لا تعبد فيه. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل وكل ذميا في قبول نكاح امرأة مسلمة: هل يصح النكاح؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة فيها نزاع؛ فإن الوكيل في قبول النكاح لابد أن يكون ممن يصح منه قبوله النكاح لنفسه في الجملة. فلو وكل امرأة أو مجنوناً أو صبياً غير مميز لم يجز، ولكن إذا كان الوكيل ممن يصح منه قبول النكاح بإذن وليه، ولا يصح منه القبول بدون إذن وليه، فوكل في ذلك؛ مثل أن يوكل عبداً في قبول النكاح بلا إذن سيده، أو يوكل سفيهاً محجوراً عليه بدون إذن وليه، أو يوكل صبياً مميزاً بدون إذن وليه فهذا فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد، وغيره. وإن كان يصح منه النكاح بغير إذن، لكن في الصورة المعينة لا يجوز لمانع فيه؛ مثل أن يوكل في نكاح الأمة من لا يجوز له تزوجها صحت الوكالة.
/وأما توكل الذمي في قبول النكاح له فهو يشبه تزويج الذمي ابنته الذمية من مسلم، ولو زوجها من ذمي جاز، ولكن إذا زوجها من مسلم ففيها قولان في مذهب أحمد وغيره. قيل: يجوز. وقيل: لا يجوز، بل يوكل مسلماً. وقيل: لا يزوجها إلا الحاكم بإذنه. وكونه ولياً في تزويج المسلم مثل كونه وكيلا في تزويج المسلمة. ومن قال: إن ذلك كله جائز، قال: إن الملك في النكاح يحصل للزوج؛ لا للوكيل باتفاق العلماء، بخلاف الملك في غيره؛ فإن الفقهاء تنازعوا في ذلك: فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أن حقوق العقد تتعلق بالموكل، والملك يحصل له: فلو وكل مسلم ذمياً في شراء خمر لم يجز. وأبو حنيفة يخالف في ذلك. وإذا كان الملك يحصل للزوج، وهو الموكل للمسلم، فتوكيل الذمي بمنزلة توكله في تزويج المرأة بعض محارمها. كخالها؛ فإنه يجوز توكله في قبول نكاحها للموكل. وإن كان لا يجوز له تزوجها، كذلك الذمي إذا توكل في نكاح مسلم. وإن كان لا يجوز له تزوج المسلمة، لكن الأحوط ألا يفعل ذلك؛ لما فيه من النزاع؛ ولأن النكاح فيه شوب العبادات.
ويستحب عقده في المساجد، وقد جاء في الآثار: (من شهد إملاك مسلم فكأنما شهد فتحًا في سبيل الله). ولهذا وجب في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره أن يعقد بالعربية، كالأذكار المشروعة.
وإذا كان كذلك لم ينبغ أن يكون الكافر متولياً لنكاح مسلم، ولكن لا يظهر مع ذلك أن العقد باطل؛ فإنه ليس على بطلانه دليل شرعي، والكافر يصح منه النكاح، وليس هو من أهل العبادات. والله أعلم.
/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن مريض تزوج في مرضه: فهل يصح العقد؟
فأجاب:
نكاح المريض صحيح، ترث المرأة في قول جماهير علماء المسلمين من الصحابة والتابعين، ولا تستحق إلا مهر المثل، لا تستحق الزيادة على ذلك بالاتفاق.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل له بنت، وهي دون البلوغ، فزوجوها في غيبة أبيها، ولم يكن لها ولي، وجعلوا أن أباها توفي وهو حي، وشهدوا أن خالها أخوها فهل يصح العقد أم لا؟
فأجاب:
إذا شهدوا أن خالها أخوها فهذه شهادة زور، ولا يصير الخال ولياً بذلك، بل هذه قد تزوجت بغير ولي، فيكون نكاحها باطلا عند أكثر العلماء والفقهاء، كالشافعي وأحمد وغيرهما. وللأب أن يجدده. ومن شهد أن خالها أخوها وأن أباها مات فهو شاهد زور، يجب تعزيره، ويعزر الخال. وإن كان دخل بها فلها المهر، ويجوز أن يزوجها الأب في عدة النكاح الفاسد عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه. والله أعلم.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن امرأة لها أب وأخ، ووكيل أبيها في النكاح وغيره حاضر، فذهبت إلى الشهود وغيرت اسمها واسم أبيها، وادعت أن لها مطلقاً يريد تجديد النكاح وأحضرت رجلاً أجنبياً، وذكرت أنه أخوها، فكتبت الشهود كتابها على ذلك ثم ظهر ما فعلته، وثبت ذلك بمجلس الحكم: فهل تعزر على ذلك؟ وهل يجب تعزير المعرفين، والذي ادعي أنه أخوها، والذي عرف الشهود بما ذكر؟ وهل يختص التعزير بالحاكم؟ أو يعزرهم ولي الأمر من محتسب وغيره؟
فأجاب:
الحمد لله، تعزر تعزيرا بليغاً؛ ولو عزرها ولي الأمر مرات كان ذلك حسناً. كما كان عمر بن الخطاب يكرر التعزير في الفعل إذا اشتمل على أنواع من المحرمات، فكان يعزر في اليوم الأول مائة، وفي الثاني مائة، وفي الثالث مائة: يفرق التعزير؛ لئلا يفضي إلى فساد بعض الأعضاء. وذلك أن هذه قد ادعت إلى غير أبيها، واستخلفت أخاها، وهذا من الكبائر، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ادعي إلى غير أبيه أو تولي غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)، بل قد ثبت في الصحيح عن سعد وأبي بكرة أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ادعي إلى غير أبيه /فالجنة عليه حرام). وثبت ما هو أبلغ من ذلك في الصحيح عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (ليس منا من ادعي إلى غير أبيه وهو يعلم إلا كَفَر، ومن ادعي ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن رمى رجلا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه)، وهذا تغليظ عظيم يقتضى أن يعاقب على ذلك عقوبة عظيمة، يستحق فيها مائة سوط، ونحو ذلك.
وأيضاً، فإنها لَبَّست على الشهود، وأوقعتهم في العقود الباطلة، ونكحت نكاحاً باطلاً؛ فإن جمهور العلماء يقولون: النكاح بغير ولي باطل، يعزرون من يفعل ذلك اقتداء بعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه. وهذا مذهب الشافعي وغيره، بل طائفة منهم يقيمون الحد في ذلك بالرجم وغيره. ومن جوز النكاح بلا ولي مطلقاً، أو في المدينة، فلم يجوز على هذا الوجه من دعوى النسب الكاذب، وإقامة الولي الباطل، فكان عقوبة هذه متفقاً عليها بين المسلمين.
وتعاقب ـ أيضاً ـ على كذبها، وكذلك الدعوي أنه كان زوجها وطلقها، ويعاقب الزوج أيضاً. وكذلك الذي ادعي أنه أخوها. يعاقب على هذين الريبتين. وأما المعرفون بهم يعاقبون على شهادة الزور؛ بالنسب لها، والتزويج والتطليق، وعدم ولي حاضر. وينبغي أن يبالغ في عقوبة هؤلاء؛ فإن الفقهاء قد نصوا على أن شاهد الزور يسود وجهه؛ بما نقل عن عمر بن الخطاب / ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يسود وجهه. إشارة إلى سواد وجهه بالكذب. وأنه كان يركبه دابة مقلوباً إلى خلف. إشارة إلى أنه قلب الحديث، ويطاف به حتى يشهره بين الناس أنه شاهد زور.
وتعزير هؤلاء ليس يختص بالحاكم، بل يعزره الحاكم والمحتسب وغيرهما من ولاة الأمور القادرين على ذلك، ويتعين ذلك في مثل هذه الحال التي ظهر فيها فساد كثير في النساء، وشهادة الزور كثيرة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه). والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن إجبار الأب لابنته البكر البالغ على النكاح: هل يجوز أم لا؟
فأجاب:
وأما إجبار الأب لابنته البكر البالغة على النكاح، ففيه قولان مشهوران؛ هما روايتان عن أحمد.
إحداهما: أنه يجبر البكر البالغ؛ كما هو مذهب مالك والشافعي، وهو اختيار الخرقي والقاضي وأصحابه.
والثانية: لا يجبرها؛ كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز بن جعفر. وهذا القول هو الصواب. والناس متنازعون في [مناط الإجبار]، هل /هو البكارة؟ أو الصغر؟ أو مجموعها؟ أو كل منهما؟ على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره. والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر، وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر) فقيل له: إن البكر تستحي؟ فقال: (إذنها صماتها). وفي لفظ في الصحيح: (البكر يستأذنها أبوها). فهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تنكح حتى تستأذن. وهذا يتناول الأب وغيره، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة، وأن الأب نفسه يستأذنها.
وأيضاً، فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها وبضعها أعظم من مالها، فكيف يجوز أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها؟
وأيضاً، فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع. وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام؛ فإن الشارع لم يجعل البكارة سببا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع.
وأيضاً، فإن الذين قالوا بالإجبار اضطربوا فيما إذا عينت كفؤاً، وعين الأب كفؤاً آخر: هل يؤخذ بتعيينها؟ أو بتعيين الأب؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد. فمن جعل العبرة بتعيينها نقض أصله، ومن جعل / العبرة بتعيين الأب كان في قوله من الفساد والضرر والشر مالا يخفي؛ فإنه قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الأيم أحق بنفسها من وليها؛ والبكر تستأذن، وإذنها صماتها). وفي رواية: (الثيب أحق بنفسها من وليها). فلما جعل الثيب أحق بنفسها دل على أن البكر ليست أحق بنفسها، بل الولي أحق، وليس ذلك إلا للأب والجد. هذه عمدة المجبرين وهم تركوا العمل بنص الحديث، وظاهره، وتمسكوا بدليل خطابه، ولم يعلموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك أن قوله: (الأيم أحق بنفسها من وليها) يعم كل ولي، وهم يخصونه بالأب والجد. والثاني قوله: (والبكر تستأذن) وهم لا يوجبون استئذانها، بل قالوا: هو مستحب، حتى طرد بعضهم قياسه، وقالوا: لما كان مستحباً اكتفي فيه بالسكوت، وادعي أنه حيث يجب استئذان البكر فلابد من النطق. وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد.
وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم، ولنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة؛ واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها فإنه يستأذنها، وإذنها صماتها. وأما المفهوم، فالنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين البكر والثيب؛ كما قال في الحديث الآخر: (لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر)، فذكر في هذه لفظ: [الإذن]، وفي هذه لفظ: [الأمر]، وجعل إذن هذه الصمات؛ كما أن إذن تلك النطق. فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر /والثيب، لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار؛ وذلك لأن [البكر] لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها، بل تخطب إلى وليها، ووليها يستأذنها، فتأذن له، لا تأمره ابتداء، بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صماتها. وأما الثيب فقد زال عنها حياء البكر فتتكلم بالنكاح، فتخطب إلى نفسها، وتأمر الولي أن يزوجها. فهي آمرة له، وعليه أن يعطيها فيزوجها من الكفؤ إذا أمرته بذلك. فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذن للبكر. فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح، فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره مباضعته، ومعاشرة من تكره معاشرته؟ ! والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها عنه. فأي مودة ورحمة في ذلك؟
ثم إنه إذا وقع الشقاق بين الزوجين فقد أمر الله ببعث حكم من أهله وحكم من أهلها. و[الحكمان] كما سماهما الله ـ عز وجل ـ: هما حكمان عند أهل المدينة، وهو أحد القولين للشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة. والقول الآخر: هما [وكيلان]. والأول أصح؛ لأن الوكيل / ليس بحكم، ولا يحتاج فيه إلى أمر الأئمة، ولا يشترط أن يكون من الأهل، ولا يختص بحال الشقاق، ولا يحتاج في ذلك إلى نص خاص، ولكن إذا وقع الشقاق فلابد من ولي لهما، يتولي أمرهما؛ لتعذر اختصاص أحدهما بالحكم على الآخر. فأمر الله أن يجعل أمرهما إلى اثنين من أهلهما، فيفعلان ما هو الأصلح من جمع بينهما، وتفريق بعوض أو بغيره. وهنا يملك الحكم الواحد مع الآخر الطلاق بدون إذن الرجل، ويملك الحكم الآخر مع الأول بذل العوض من مالها بدون إذنها؛ لكونهما صارا وليين لهما.
وطرد هذا القول: أن الأب يُطَلِّق على ابنه الصغير، والمجنون؛ إذا رأي المصلحة؛ كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وكذلك يخالع عن ابنته إذا رأى المصلحة لها.
وأبلغ من ذلك أنه إذا طلقها قبل الدخول فللأب أن يعفو عن نصف الصداق إذا قيل: هو الذي بيده عقدة النكاح. كما هو قول مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. والقرآن يدل على صحة هذا القول، وليس الصداق كسائر مالها؛ فإنه وجب في الأصل نحلة، وبضعها عاد إليها من غير نقص، وكان إلحاق الطلاق بالفسوخ، فوجب ألا يتنصف، لكن الشارع جبرها بتنصيف الصداق؛ لما حصل لها من الانكسار به.
ولهذا جعل ذلك عوضا عن المتعة عند ابن عمر والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، فأوجبوا المتعة لكل مطلقة؛ إلا لمن طلقت بعد الفرض وقبل / الدخول والمسيس، فحسبها ما فرض لها. وأحمد في الرواية الأخرى مع أبي حنيفة وغيره لا يوجبون المتعة إلا لمن طلقت قبل الفرض والدخول، ويجعلون المتعة عوضا عن نصف الصداق، ويقولون: كل مطلقة فإنها تأخذ صداقاً، إلا هذه. وأولئك يقولون: الصداق استقر قبل الطلاق بالعقد والدخول، والمتعة سببها الطلاق، فتجب لكل مطلقة، لكن المطلقة بعد الفرض وقبل المسيس متعت بنصف الصداق، فلا تستحق الزيادة. وهذا القول أقوي من ذلك القول: فإن الله جعل الطلاق سبب المتعة، فلا يجعل عوضا عما سببه العقد والدخول، لكن يقال على هذا: فالقول الثالث أصح، وهو الرواية الأخرى عن أحمد: أن كل مطلقة لها متعة؛ كما دل عليه ظاهر القرآن وعمومه، حيث قال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241].
وأيضاً، فإنه قد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]. فأمر بتمتيع المطلقات قبل المسيس، ولم يخص ذلك بمن لم يفرض لها، مع أن غالب النساء يطلقهن بعد الفرض.
وأيضا، فإذا كان سبب المتعة هو الطلاق، فسبب المهر هو العقد. فالمفوضة التي لم يسم لها مهراً يجب لها مهر المثل بالعقد، ويستقر بالموت، على القول الصحيح الذي دل عليه حديث بروع بنت واشق، التي تزوجت ومات عنها زوجها قبل أن يفرض لها مهر، وقضي لها النبي صلى الله عليه وسلم بأن لها مهر امرأة من نسائها، لا وَكْسَ ولا شَطَط، لكن هذه لو طلقت قبل / المسيس لم يجب لها نصف المهر بنص القرآن؛ لكونها لم تشترط مهراً مسمي، والكسر الذي حصل لها بالطلاق انجبر بالمتعة، وليس هذا موضع بسط هذه المسائل.
ولكن المقصود أن الشارع لا يكره المرأة على النكاح إذا لم ترده، بل إذا كرهت الزوج وحصل بينهما شقاق، فإنه يجعل أمرها إلى غير الزوج لمن ينظر في المصلحة من أهلها، مع من ينظر في المصلحة من أهله، فيخلصها من الزوج بدون أمره، فكيف تؤسر معه أبداً بدون أمرها. والمرأة أسيرة مع الزوج؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن بنت بالغ، وقد خطبت لقرابة لها فأبت، وقال أهلها للعاقد: اعقد وأبوها حاضر: فهل يجوز تزويجها؟
فأجاب:
أما إن كان الزوج ليس كفؤاً لها فلا تجبر على نكاحه بلا ريب، وأما إن كان كفؤاً فللعلماء فيه قولان مشهوران، لكن الأظهر في الكتاب والسنة والاعتبار أنها لا تجبر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح البكر حتى يستأذنها أبوها، وإذنها صماتها). والله أعلم.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل تزوج بكرا بولاية أبيها، ولم يستأذن حين العقد، وكان قدم العقد عليها لزوج قبله، وطلقت قبل الدخول بغير إصابة، ثم دخل بها الزوج الثاني فوجدها بنتاً، فكتم ذلك، وحملت الزوجة منه، واستقر الحال بينهما، فلما علم الزوج أنها لم تستأذن حين العقد عليها سأل عن ذلك، قيل له: إن العقد مفسوخ؛ لكونها بنتاً ولم تستأذن: فهل يكون العقد مفسوخاً؟ والوطء شبهة؟ ويلزم تجديد العقد أم لا؟
فأجاب:
أما إذا كانت ثيباً من زوج، وهي بالغ فهذه لا تنكح إلا بإذنها باتفاق الأئمة؛ ولكن إذا زوجت بغير إذنها، ثم أجازت العقد جاز ذلك في مذهب أبي حنيفة ومالك، والإمام أحمد في إحدى الروايتين، ولم يجز في مذهب الشافعي وأحمد في رواية أخري. وإن كانت ثيباً من زنا فهي كالثيب من النكاح في مذهب الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة. وفيه قول آخر: أنها كالبكر، وهو مذهب أبي حنيفة نفسه ومالك. وإن كانت البكارة زالت بوثبة، أو بأصبع، أو نحو ذلك فهي كالبكر عند الأئمة الأربعة.
وإذا كانت بكراً فالبكر يجبرها أبوها على النكاح، وإن كانت بالغة، في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين. وفي الأخرى ـ وهي / مذهب أبي حنيفة وغيره ـ أن الأب لا يجبرها إذا كانت بالغاً. وهذا أصح ما دل عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشواهد الأصول. فقد تبين في هذه المسألة أن أكثر العلماء يقولون: إذا اختارت هي العقد جاز، وإلا يحتاج إلى استئناف. وقد يقال: هو الأقوي هنا؛ لا سيما والأب إنما عقد معتقدًا أنها بكر، وأنه لا يحتاج إلى استئذانها؛ فإذا كانت في الباطن بخلاف ذلك كان معذوراً. فإذا اختارت هي النكاح لم يكن هذا بمنزلة تصرف الفضولي. ووقف العقد على الإجازة فيه نزاع مشهور بين العلماء، والأظهر فيه التفصيل بين بعضها وبعض. كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
وقال الشيخ ـ رحمه الله:
ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك، وأولى؛ فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك، ولا يمكن فراقه.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل تحت حجر والده، وقد تزوج بغير إذن والده، وشهد المعروفون أن والده مات وهو حي: فهل يصح العقد أم لا؟ وهل يجب على الولد إذا تزوج بغير إذن والده حق أم لا؟
/فأجاب:
إن كان سفيها محجوراً عليه، لا يصح نكاحه بدون إذن أبيه ويفرق بينهما. وإذا فرق بينهما قبل الدخول فلا شيء عليه. وإن كان رشيداً صح نكاحه، وإن لم يأذن له أبوه. وإذا تنازع الزوجان، هل نكح وهو رشيد أو وهو سفيه، فالقول قول مدعي صحة النكاح.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل خطب امرأة، ولها ولد، والعاقد مالكي، فطلب العاقد الولد فتعذر حضوره، وجيء بغيره، وأجاب العاقد في تزويجها: فهل يصح العقد؟
فأجاب:
لا يصح هذا العقد؛ وذلك لأن الولد وليها، وإذا كان حاضرا غير ممتنع لم تزوج إلا بإذنه. فأما إن غاب غيبة بعيدة انتقلت الولاية إلى الأبعد أو الحاكم. ولو زوجها شافعي معتقداً أن الولد لا ولاية له كان من مسائل الاجتهاد، لكن الذي زوجها مالكي يعتقد ألا يزوجها إلا ولدها، فإذا لبس عليه وزوجها من يعتقده ولدها ولم يكن هذا الحاكم قد زوجها بولايته، ولا زوجت بولاية ولي من نسب أو ولاء، فتكون منكوحة بدون إذن ولي أصلا. وهذا النكاح باطل عند الجمهور، كما وردت به النصوص.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن امرأة خلاها أخوها في مكان لتوفي عدة زوجها، فلما انقضت العدة هربت إلى بلد مسيرة يوم. وتزوجت بغير إذن أخيها، ولم يكن لها ولي غيره: فهل يصح العقد، أم لا؟
/فأجاب:
إذا لم يكن أخوها عاضلا لها، وكان أهلا للولاية، لم يصح نكاحها بدون إذنه، والحال هذه. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل تزوج بالغة من جدها أبي أبيها، وما رشدها، ولا معه وصية من أبيها، فلما دنت وفاة جدها أوصى على البنت رجلا أجنبياً: فهل للجد المذكور على الزوجة ولاية بعد أن أصابها الزوج، وهل له أن يوصى عليها؟
فأجاب:
أما إذا كانت رشيدة فلا ولاية عليها، لا للجد ولا غيره باتفاق الأئمة، وإن كانت ممن يستحق الحجر عليها ففيه للعلماء قولان: أحدهما: أن الجد له ولاية، وهذا مذهب أبي حنيفة. والثاني: لا ولاية له، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه. وإذا تزوجت الجارية ومضت عليها سنة وأولدها أمكن أن تكون رشيدة باتفاق العلماء.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه ـ عمن أصابه سهم من سهام إبليس المسمومة؟
فأجاب:
من أصابه جرح مسموم فعليه بما يخرج السم ويبرئ الجرح بالترياق والمرهم. وذلك بأمور:
منها: أن يتزوج أو يتسري؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نظر أحدكم إلى محاسن امرأة فليأت أهله؛ فإنما معها مثل ما معها)، وهذا مما ينقص الشهوة، ويضعف العشق.
الثاني: أن يداوم على الصلوات الخمس، والدعاء، والتضرع وقت السحر. وتكون صلاته بحضور قلب وخشوع، وليكثر من الدعاء بقوله: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك. يا مصرف القلوب، صرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك)، فإنه متى أدمن الدعاء والتضرع للهصرف قلبه عن ذلك، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
/الثالث: أن يبعد عن مسكن هذا الشخص، والاجتماع بمن يجتمع به؛ بحيث لا يسمع له خبر، ولا يقع له على عين ولا أثر؛ فإن البعد جفا، ومتى قل الذكر ضعف الأثر في القلب. فليفعل هذه الأمور، وليطالع بما تجدد له من الأحوال. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل عازب، ونفسه تتوق إلى الزواج؛ غير أنه يخاف أن يتكلف من المرأة ما لا يقدر عليه، وقد عاهد الله ألا يسأل أحداً شيئا فيه منة لنفسه وهو كثير التطلع إلى الزواج: فهل يأثم بترك الزواج؟ أم لا؟
فأجاب:
قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء). و[استطاعة النكاح]: هو القدرة على المؤنة؛ ليس هو القدرة على الوطء؛ فإن الحديث إنما هو خطاب للقادر على فعل الوطء؛ ولهذا أمر من لم يستطع أن يصوم؛ فإنه له وجاء. ومن لا مال له: هل يستحب أن يقترض ويتزوج؟ فيه نزاع في مذهب الإمام أحمد وغيره. وقد قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حتى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33]. وأما [الرجل الصالح] فهو القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل خطب على خطبته رجل آخر: فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه، ولا يستام على سوم أخيه)؛ ولهذا اتفق الأئمة الأربعة في المنصوص عنهم وغيرهم من الأئمة على تحريم ذلك، وإنما تنازعوا في صحة نكاح الثاني؟ على قولين:
أحدهما: أنه باطل؛ كقول مالك وأحمد في إحدى الروايتين.
والآخر: أنه صحيح؛ كقول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخري؛ بناء على أن المحرم هو ما تقدم على العقد، وهو الخطبة. ومن أبطله قال: إن ذلك تحريم للعقد بطريق الأولى. ولا نزاع بينهم في أن فاعل ذلك عاص للهورسوله؛ وإن نازع في ذلك بعض أصحابهم. والإصرار على المعصية مع العلم بها يقدح في دين الرجل وعدالته وولايته على المسلمين.
/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن امرأة فارقت زوجها، وخطبها رجل في عدتها، وهو ينفق عليها: فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة، ولو كانت في عدة وفاة باتفاق المسلمين. فكيف إذا كانت في عدة الطلاق؟ ! ومن فعل ذلك يستحق العقوبة التي تردعه وأمثاله عن ذلك، فيعاقب الخاطب والمخطوبة جميعاً، ويزجر عن التزويج بها؛ معاقبة له بنقيض قصده. والله أعلم.
وسئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا، وأوفت العدة عنده، وخرجت، وبعد وفاء العدة تزوجت، وطلقت في يومها، ولم يعلم مطلقها إلا ثاني يوم: فهل يجوز له أن يتفق معها إذا أوفت عدتها أن يراجعها؟
فأجاب:
ليس له في زمن العدة من غيره أن يخطبها، ولا ينفق عليها ليتزوجها، وإذا كان الطلاق رجعيا لم يجز له التعريض أيضا، وإن كان بائنا ففي جواز التعريض نزاع. هذا إذا كانت قد تزوجت بنكاح رغبة. وأما إن كانت قد تزوجت بنكاح محلل فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له.
/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن رجل خطب ابنة رجل من العدول، واتفق معه على المهر؛ منه عاجل ومنه آجل. وأوصل إلى والدها المعجل من مدة أربع سنين، وهو يواصلهم بالنفقة، ولم يكن بينهم مكاتبة. ثم بعد هذا جاء رجل فخطبها، وزاد عليه في المهر، ومنع الزوج الأول؟
فأجاب:
لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه إذا أجيب إلى النكاح وركنوا إليه باتفاق الأئمة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه). وتجب عقوبة من فعل ذلك وأعان عليه؛ عقوبة تمنعهم وأمثالهم عن ذلك. وهل يكون نكاح الثاني صحيحاً، أو فاسداً؟ فيه قولان للعلماء؛ في مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل يدخل على امرأة أخيه، وبنات عمه، وبنات خاله: هل يحل له ذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
لا يجوز له أن يخلو بها، ولكن إذا دخل مع غيره من غير خلوة ولا ريبة جاز له ذلك. والله أعلم.
/وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل أملك على بنت، وله مدة سنين ينفق عليها، ودفع لها، وعزم على الدخول: فوجد والدها قد زوجها غيره؟
فأجاب:
قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسلم أخو المسلم، لا يحل للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه؛ ولا يستام على سوم أخيه؛ ولا يبيع على بيع أخيه). فالرجل إذا خطب امرأة، وركن إليه من إليه نكاحها ـ كالأب المجبر ـ فإنه لا يحل لغيره أن يخطبها. فكيف إذا كانوا قد ركنوا إليه، وأشهدوا بالإملاك المتقدم للعقد، وقبضوا منه الهدايا، وطالت المدة؟ ! فإن هؤلاء فعلوا محرما يستحقون العقوبة عليه بلا ريب، ولكن العقد الثاني هل يقع صحيحاً أو باطلا؟ فيه قولان للعلماء:
أحدهما ـ وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد ـ: أن عقد الثاني باطل؛ فتنزع منه وترد إلى الأول.
والثاني: أن النكاح صحيح؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، فيعاقب من فعل المحرم، ويرد إلى الأول جميع ما أخذ منه. والقول الأول أشبه بما في الكتاب والسنة.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل طلق زوجته ثلاثا، ولهما ولدان، وهي مقيمة عند الزوج في بيته مدة سنين، ويبصرها وتبصره: فهل يحل لها الأكل الذي تأكل من عنده؟ أم لا؟ وهل له عليها حكم؟ أم لا؟
فأجاب:
المطلقة ثلاثًا هي أجنبية من الرجل، بمنزلة سائر الأجنبيات، فليس للرجل أن يخلو بها، كما ليس له أن يخلو بالأجنبية. وليس له أن ينظر إليها إلى مالا ينظر إليه من الأجنبية؛ وليس له عليها حكم أصلا.
ولا يجوز له أن يواطئها على أن تزوج غيره ثم تطلقه وترجع إليه، ولا يجوز أن يعطيها ما تنفقه في ذلك؛ فإنها لو تزوجت رجلا غيره بالنكاح المعروف الذي جرت به عادة المسلمين ثم مات زوجها أو طلقها ثلاثا لم يجز لهذا الأول أن يخطبها في العدة صريحاً باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عليكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235]، ونهاه أن يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، أي حتى تنقضي العدة. فإذا كان قد نهاه عن هذه المواعدة والعزم في العدة فكيف إذا كانت في عصمة زوجها؟ ! فكيف إذا كان الرجل لم يتزوجها بعد؛ تواعد / على أن تتزوجه، ثم تطلقه، وتزوج بها المواعد. فهذا حرام باتفاق المسلمين، سواء قيل: إنه يصح نكاح المحلل، أو قيل: لا. فلم يتنازعوا في أن التصريح بخطبة معتدة من غيره أو متزوجة بغيره أو بخطبة مطلقة ثلاثا أنه لا يجوز. ومن فعل ذلك يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة باتفاق الأئمة.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل يتكلم شبه كلام النساء، وهو [طنجير] هل يحل دخوله على النساء؟ وما الحكم فيه؟
فأجاب:
بل مثل هذا يجب نفيه، وإخراجه؛ فلا يسكن بين الرجال، ولا بين النساء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفي المخنث، وأمر بنفي المخنثين، وقال: (أخرجوهم من بيوتكم)، ومع هذا فلم يكن طنجيراً، فكيف الطنجير؟ ! وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
فصل
في الأسباب التي بين الله وعباده، وبين العباد: الخلقية والكسبية، الشرعية والشرطية، قـال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عليكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، افتتح السورة بذكر خلق الجنس الإنساني من نفس واحدة؛ وأن زوجها مخلوق منها، وأنه بث منهما الرجال والنساء؛ أكمل الأسباب وأجلها، ثم / ذكر ما بين الآدميين من الأسباب المخلوقة الشرعية: كالولادة، ومن الكسبية الشرطية: كالنكاح. ثم قال: {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}. قال طائفة من المفسرين من السلف: {تَسَاءلُونَ بِهِ}: تتعاهدون به، وتتعاقدون. وهو كما قالوا؛ لأن كل واحد من المتعاقدين عقد البيع أو النكاح أو الهدنة أو غير ذلك يسأل الآخر مطلوبه؛ هذا يطلب تسليم المبيع، وهذا تسليم الثمن. وكل منهما قد أوجب على نفسه مطلوب الآخر، فكل منهما طالب من الآخر موجب لمطلوب الآخر.
ثم قال: {وَالأَرْحَامَ}. و[العهود] و[الأرحام]: هما جماع الأسباب التي بين بني آدم؛ فإن الأسباب التي بينهم: إما أن تكون بفعل الله أو بفعلهم. فالأول [الأرحام]، والثاني [العهود]؛ ولهذا جمع الله بينهما في مواضع، في مثل قوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10]، فالإل: القرابة، والرحم، والذمة: العهد، والميثاق. وقال تعالى في أول البـقرة: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} [البقرة: 27]، وقال: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}[الرعد: 20ـ 25]. واعلم أن حق الله داخل في الحقين، ومقدم عليهما؛ ولهذا قدمـه في قوله: {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم} [النساء: 1]، فإن الله خلق العبد وخلق أبويه، وخلقه من أبويه. فالسبب الذي بينه وبين الله هو الخلقي التام؛ بخلاف سبب الأبوين؛ فإن أصل مادته منهما، وله مـادة مـن غيرهما؛ ثم إنهما لم يصـوراه في الأرحـام. والعبـد ليس له مادة إلا / من أبويه، والله هو خالقه وبارئه ومصوره ورازقه وناصره وهاديه، وإنما حق الأبوين فيه بعض المناسبة لذلك؛ فلذلك قرن حق الأبوين بحقه في قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وفي قـوله: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شيئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وفي قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم التبرؤ من الأبوين كفراً؛ لمناسبته للتبرؤ من الرب. وفي الحديث الصحيح: (من ادعي إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر) أخرجاه في الصحيحين، وقوله: (كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق)، وقوله: (لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم. فحق النسب والقرابة والرحم تقدمه حق الربوبية، وحق القريب المجيب الرحمن؛ فإن غاية تلك أن تتصل بهذا، كما قال الله: (أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)، وقال: (الرحم شُجْنَة من الرحمن)، وقال: (لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة). وقد قيل في قوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ} [التوبة: 10]، إن [الإل]: الرب، كقول الصديق ـ لما سمع قرآن مسيلمة ـ: إن هذا كلام لم يخرج من إلّ. وأما دخول حق الرب في العهود والعقود. فكدخول العبد في الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله؛ فإن هذا عهد الإسلام، وهو أشرف العهود وأوكدها وأعمها وأكملها.
/ باب أركان النكاح وشروطه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى:
فصل
عمدة من قال: لا يصح النكاح إلا بلفظ [الإنكاح] و[التزويج] ـ وهم أصحاب الشافعي، وابن حامد، ومن وافقهم من أصحابنا كأبي الخطاب والقاضي، وأصحابه، ومن بعده ـ إلا في لفظ: [أعتقتك، وجعل عتقك صداقك]، أنهم قالوا: ما سوي هذين اللفظين [كناية]، والكناية لا تقتضي الحكم إلا بالنية، والنية في القلب لا تعلم، فلا يصح عقد النكاح بالكناية؛ لأن صحته مفتقرة إلى الشهادة عليه، والنية لا يشهد عليها، بخلاف ما يصح بالكناية؛ من طلاق وعتق وبيع؛ فإن الشهادة لا تشترط في صحة ذلك. ومنهم من يجعل ذلك تعبداً؛ لما فيه من ثبوت العبادات. وهذا قول من لا يصححه إلا بالعربية من أصحابنا وغيرهم. وهذا ضعيف لوجوه:
أحدها: لا نسلم أن ما سوي هذين كناية، بل ثم ألفاظ هي حقائق عرفية في العقد أبلغ من لفظ [أنكحت]، فإن هذا اللفظ مشترك بين الوطء والعقد، ولفظ [الإملاك] خاص بالعقد، لا يفهم إذا قال القائل: أملك فلان على فلانة، إلا العقد، كما في الصحيحين: (أملكتكها على ما معك من القرآن)، سواء كانت الرواية باللفظ أو بالمعنى.
/الثاني: أنا لا نسلم أن الكناية تفتقر إلى النية مطلقاً، بل إذا قرن بها لفظ من ألفاظ الصريح، أو حكم من أحكام العقد كانت صريحة، كما قالوا في [الوقف]: إنه ينعقد بالكناية؛ كتصدقت، وحرمت، وأبدت. إذا قرن بها لفظ أو حكم. فإذا قال: أملكتكها فقال: قبلت هذا التزويج. أو أعطيتكها زوجة فقال: قبلت. أو أملكتكها على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ونحو ذلك؛ فقد قرن بها من الألفاظ والأحكام ما يجعله صريحاً.
الثالث: أن إضافة ذلك إلى الحرة يبين المعنى؛ فإنه إذا قال في ابنته: ملكتكها، أو أعطيتكها، أو زوجتكها، ونحو ذلك؛ فالمحل ينفي الإجمال والاشتراك.
الرابع: أن هذا منقوض عليهم بالشهادة في الرجعة؛ فإنها مشروعة إما واجبة، وإما مستحبة. وهي شرط في صحة الرجعة على قول، وبالشهادة على البيع وسائر العقود؛ فإن ذلك مشروع مطلقاً، سواء كان العقد بصريح أو كناية مفسرة.
الخامس: أن الشهادة تصح على العقد. ويثبت بها عند الحاكم على أي صورة انعقدت. فعلم أن اعتبار الشهادة فيه لا يمنع ذلك.
السادس: أن العاقدين يمكنهما تفسير مرادهما. ويشهد الشهود على ما فسروه.
/السابع: أن الكناية عندنا إذا اقترن بها دلالة الحال كانت صريحة في الظاهر بلا نزاع. ومعلوم أن اجتماع الناس، وتقديم الخطبة، وذكر المهر، والمفاوضة فيه، والتحدث بأمر النكاح، قاطع في إرادة النكاح. وأما التعبد فيحتاج إلى دليل شرعي. ثم العقد جنس لا يشرع فيه التعبد بالألفاظ؛ لأنها لا يشترط فيها الإيمان، بل تصح من الكافر، وما يصح من الكافر لا تعبد فيه. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل وكل ذميا في قبول نكاح امرأة مسلمة: هل يصح النكاح؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة فيها نزاع؛ فإن الوكيل في قبول النكاح لابد أن يكون ممن يصح منه قبوله النكاح لنفسه في الجملة. فلو وكل امرأة أو مجنوناً أو صبياً غير مميز لم يجز، ولكن إذا كان الوكيل ممن يصح منه قبول النكاح بإذن وليه، ولا يصح منه القبول بدون إذن وليه، فوكل في ذلك؛ مثل أن يوكل عبداً في قبول النكاح بلا إذن سيده، أو يوكل سفيهاً محجوراً عليه بدون إذن وليه، أو يوكل صبياً مميزاً بدون إذن وليه فهذا فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد، وغيره. وإن كان يصح منه النكاح بغير إذن، لكن في الصورة المعينة لا يجوز لمانع فيه؛ مثل أن يوكل في نكاح الأمة من لا يجوز له تزوجها صحت الوكالة.
/وأما توكل الذمي في قبول النكاح له فهو يشبه تزويج الذمي ابنته الذمية من مسلم، ولو زوجها من ذمي جاز، ولكن إذا زوجها من مسلم ففيها قولان في مذهب أحمد وغيره. قيل: يجوز. وقيل: لا يجوز، بل يوكل مسلماً. وقيل: لا يزوجها إلا الحاكم بإذنه. وكونه ولياً في تزويج المسلم مثل كونه وكيلا في تزويج المسلمة. ومن قال: إن ذلك كله جائز، قال: إن الملك في النكاح يحصل للزوج؛ لا للوكيل باتفاق العلماء، بخلاف الملك في غيره؛ فإن الفقهاء تنازعوا في ذلك: فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أن حقوق العقد تتعلق بالموكل، والملك يحصل له: فلو وكل مسلم ذمياً في شراء خمر لم يجز. وأبو حنيفة يخالف في ذلك. وإذا كان الملك يحصل للزوج، وهو الموكل للمسلم، فتوكيل الذمي بمنزلة توكله في تزويج المرأة بعض محارمها. كخالها؛ فإنه يجوز توكله في قبول نكاحها للموكل. وإن كان لا يجوز له تزوجها، كذلك الذمي إذا توكل في نكاح مسلم. وإن كان لا يجوز له تزوج المسلمة، لكن الأحوط ألا يفعل ذلك؛ لما فيه من النزاع؛ ولأن النكاح فيه شوب العبادات.
ويستحب عقده في المساجد، وقد جاء في الآثار: (من شهد إملاك مسلم فكأنما شهد فتحًا في سبيل الله). ولهذا وجب في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره أن يعقد بالعربية، كالأذكار المشروعة.
وإذا كان كذلك لم ينبغ أن يكون الكافر متولياً لنكاح مسلم، ولكن لا يظهر مع ذلك أن العقد باطل؛ فإنه ليس على بطلانه دليل شرعي، والكافر يصح منه النكاح، وليس هو من أهل العبادات. والله أعلم.
/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن مريض تزوج في مرضه: فهل يصح العقد؟
فأجاب:
نكاح المريض صحيح، ترث المرأة في قول جماهير علماء المسلمين من الصحابة والتابعين، ولا تستحق إلا مهر المثل، لا تستحق الزيادة على ذلك بالاتفاق.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل له بنت، وهي دون البلوغ، فزوجوها في غيبة أبيها، ولم يكن لها ولي، وجعلوا أن أباها توفي وهو حي، وشهدوا أن خالها أخوها فهل يصح العقد أم لا؟
فأجاب:
إذا شهدوا أن خالها أخوها فهذه شهادة زور، ولا يصير الخال ولياً بذلك، بل هذه قد تزوجت بغير ولي، فيكون نكاحها باطلا عند أكثر العلماء والفقهاء، كالشافعي وأحمد وغيرهما. وللأب أن يجدده. ومن شهد أن خالها أخوها وأن أباها مات فهو شاهد زور، يجب تعزيره، ويعزر الخال. وإن كان دخل بها فلها المهر، ويجوز أن يزوجها الأب في عدة النكاح الفاسد عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه. والله أعلم.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن امرأة لها أب وأخ، ووكيل أبيها في النكاح وغيره حاضر، فذهبت إلى الشهود وغيرت اسمها واسم أبيها، وادعت أن لها مطلقاً يريد تجديد النكاح وأحضرت رجلاً أجنبياً، وذكرت أنه أخوها، فكتبت الشهود كتابها على ذلك ثم ظهر ما فعلته، وثبت ذلك بمجلس الحكم: فهل تعزر على ذلك؟ وهل يجب تعزير المعرفين، والذي ادعي أنه أخوها، والذي عرف الشهود بما ذكر؟ وهل يختص التعزير بالحاكم؟ أو يعزرهم ولي الأمر من محتسب وغيره؟
فأجاب:
الحمد لله، تعزر تعزيرا بليغاً؛ ولو عزرها ولي الأمر مرات كان ذلك حسناً. كما كان عمر بن الخطاب يكرر التعزير في الفعل إذا اشتمل على أنواع من المحرمات، فكان يعزر في اليوم الأول مائة، وفي الثاني مائة، وفي الثالث مائة: يفرق التعزير؛ لئلا يفضي إلى فساد بعض الأعضاء. وذلك أن هذه قد ادعت إلى غير أبيها، واستخلفت أخاها، وهذا من الكبائر، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ادعي إلى غير أبيه أو تولي غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)، بل قد ثبت في الصحيح عن سعد وأبي بكرة أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ادعي إلى غير أبيه /فالجنة عليه حرام). وثبت ما هو أبلغ من ذلك في الصحيح عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (ليس منا من ادعي إلى غير أبيه وهو يعلم إلا كَفَر، ومن ادعي ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن رمى رجلا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه)، وهذا تغليظ عظيم يقتضى أن يعاقب على ذلك عقوبة عظيمة، يستحق فيها مائة سوط، ونحو ذلك.
وأيضاً، فإنها لَبَّست على الشهود، وأوقعتهم في العقود الباطلة، ونكحت نكاحاً باطلاً؛ فإن جمهور العلماء يقولون: النكاح بغير ولي باطل، يعزرون من يفعل ذلك اقتداء بعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه. وهذا مذهب الشافعي وغيره، بل طائفة منهم يقيمون الحد في ذلك بالرجم وغيره. ومن جوز النكاح بلا ولي مطلقاً، أو في المدينة، فلم يجوز على هذا الوجه من دعوى النسب الكاذب، وإقامة الولي الباطل، فكان عقوبة هذه متفقاً عليها بين المسلمين.
وتعاقب ـ أيضاً ـ على كذبها، وكذلك الدعوي أنه كان زوجها وطلقها، ويعاقب الزوج أيضاً. وكذلك الذي ادعي أنه أخوها. يعاقب على هذين الريبتين. وأما المعرفون بهم يعاقبون على شهادة الزور؛ بالنسب لها، والتزويج والتطليق، وعدم ولي حاضر. وينبغي أن يبالغ في عقوبة هؤلاء؛ فإن الفقهاء قد نصوا على أن شاهد الزور يسود وجهه؛ بما نقل عن عمر بن الخطاب / ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يسود وجهه. إشارة إلى سواد وجهه بالكذب. وأنه كان يركبه دابة مقلوباً إلى خلف. إشارة إلى أنه قلب الحديث، ويطاف به حتى يشهره بين الناس أنه شاهد زور.
وتعزير هؤلاء ليس يختص بالحاكم، بل يعزره الحاكم والمحتسب وغيرهما من ولاة الأمور القادرين على ذلك، ويتعين ذلك في مثل هذه الحال التي ظهر فيها فساد كثير في النساء، وشهادة الزور كثيرة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه). والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن إجبار الأب لابنته البكر البالغ على النكاح: هل يجوز أم لا؟
فأجاب:
وأما إجبار الأب لابنته البكر البالغة على النكاح، ففيه قولان مشهوران؛ هما روايتان عن أحمد.
إحداهما: أنه يجبر البكر البالغ؛ كما هو مذهب مالك والشافعي، وهو اختيار الخرقي والقاضي وأصحابه.
والثانية: لا يجبرها؛ كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز بن جعفر. وهذا القول هو الصواب. والناس متنازعون في [مناط الإجبار]، هل /هو البكارة؟ أو الصغر؟ أو مجموعها؟ أو كل منهما؟ على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره. والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر، وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر) فقيل له: إن البكر تستحي؟ فقال: (إذنها صماتها). وفي لفظ في الصحيح: (البكر يستأذنها أبوها). فهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تنكح حتى تستأذن. وهذا يتناول الأب وغيره، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة، وأن الأب نفسه يستأذنها.
وأيضاً، فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها وبضعها أعظم من مالها، فكيف يجوز أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها؟
وأيضاً، فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع. وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام؛ فإن الشارع لم يجعل البكارة سببا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع.
وأيضاً، فإن الذين قالوا بالإجبار اضطربوا فيما إذا عينت كفؤاً، وعين الأب كفؤاً آخر: هل يؤخذ بتعيينها؟ أو بتعيين الأب؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد. فمن جعل العبرة بتعيينها نقض أصله، ومن جعل / العبرة بتعيين الأب كان في قوله من الفساد والضرر والشر مالا يخفي؛ فإنه قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الأيم أحق بنفسها من وليها؛ والبكر تستأذن، وإذنها صماتها). وفي رواية: (الثيب أحق بنفسها من وليها). فلما جعل الثيب أحق بنفسها دل على أن البكر ليست أحق بنفسها، بل الولي أحق، وليس ذلك إلا للأب والجد. هذه عمدة المجبرين وهم تركوا العمل بنص الحديث، وظاهره، وتمسكوا بدليل خطابه، ولم يعلموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك أن قوله: (الأيم أحق بنفسها من وليها) يعم كل ولي، وهم يخصونه بالأب والجد. والثاني قوله: (والبكر تستأذن) وهم لا يوجبون استئذانها، بل قالوا: هو مستحب، حتى طرد بعضهم قياسه، وقالوا: لما كان مستحباً اكتفي فيه بالسكوت، وادعي أنه حيث يجب استئذان البكر فلابد من النطق. وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد.
وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم، ولنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة؛ واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها فإنه يستأذنها، وإذنها صماتها. وأما المفهوم، فالنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين البكر والثيب؛ كما قال في الحديث الآخر: (لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر)، فذكر في هذه لفظ: [الإذن]، وفي هذه لفظ: [الأمر]، وجعل إذن هذه الصمات؛ كما أن إذن تلك النطق. فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر /والثيب، لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار؛ وذلك لأن [البكر] لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها، بل تخطب إلى وليها، ووليها يستأذنها، فتأذن له، لا تأمره ابتداء، بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صماتها. وأما الثيب فقد زال عنها حياء البكر فتتكلم بالنكاح، فتخطب إلى نفسها، وتأمر الولي أن يزوجها. فهي آمرة له، وعليه أن يعطيها فيزوجها من الكفؤ إذا أمرته بذلك. فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذن للبكر. فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح، فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره مباضعته، ومعاشرة من تكره معاشرته؟ ! والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها عنه. فأي مودة ورحمة في ذلك؟
ثم إنه إذا وقع الشقاق بين الزوجين فقد أمر الله ببعث حكم من أهله وحكم من أهلها. و[الحكمان] كما سماهما الله ـ عز وجل ـ: هما حكمان عند أهل المدينة، وهو أحد القولين للشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة. والقول الآخر: هما [وكيلان]. والأول أصح؛ لأن الوكيل / ليس بحكم، ولا يحتاج فيه إلى أمر الأئمة، ولا يشترط أن يكون من الأهل، ولا يختص بحال الشقاق، ولا يحتاج في ذلك إلى نص خاص، ولكن إذا وقع الشقاق فلابد من ولي لهما، يتولي أمرهما؛ لتعذر اختصاص أحدهما بالحكم على الآخر. فأمر الله أن يجعل أمرهما إلى اثنين من أهلهما، فيفعلان ما هو الأصلح من جمع بينهما، وتفريق بعوض أو بغيره. وهنا يملك الحكم الواحد مع الآخر الطلاق بدون إذن الرجل، ويملك الحكم الآخر مع الأول بذل العوض من مالها بدون إذنها؛ لكونهما صارا وليين لهما.
وطرد هذا القول: أن الأب يُطَلِّق على ابنه الصغير، والمجنون؛ إذا رأي المصلحة؛ كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وكذلك يخالع عن ابنته إذا رأى المصلحة لها.
وأبلغ من ذلك أنه إذا طلقها قبل الدخول فللأب أن يعفو عن نصف الصداق إذا قيل: هو الذي بيده عقدة النكاح. كما هو قول مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. والقرآن يدل على صحة هذا القول، وليس الصداق كسائر مالها؛ فإنه وجب في الأصل نحلة، وبضعها عاد إليها من غير نقص، وكان إلحاق الطلاق بالفسوخ، فوجب ألا يتنصف، لكن الشارع جبرها بتنصيف الصداق؛ لما حصل لها من الانكسار به.
ولهذا جعل ذلك عوضا عن المتعة عند ابن عمر والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، فأوجبوا المتعة لكل مطلقة؛ إلا لمن طلقت بعد الفرض وقبل / الدخول والمسيس، فحسبها ما فرض لها. وأحمد في الرواية الأخرى مع أبي حنيفة وغيره لا يوجبون المتعة إلا لمن طلقت قبل الفرض والدخول، ويجعلون المتعة عوضا عن نصف الصداق، ويقولون: كل مطلقة فإنها تأخذ صداقاً، إلا هذه. وأولئك يقولون: الصداق استقر قبل الطلاق بالعقد والدخول، والمتعة سببها الطلاق، فتجب لكل مطلقة، لكن المطلقة بعد الفرض وقبل المسيس متعت بنصف الصداق، فلا تستحق الزيادة. وهذا القول أقوي من ذلك القول: فإن الله جعل الطلاق سبب المتعة، فلا يجعل عوضا عما سببه العقد والدخول، لكن يقال على هذا: فالقول الثالث أصح، وهو الرواية الأخرى عن أحمد: أن كل مطلقة لها متعة؛ كما دل عليه ظاهر القرآن وعمومه، حيث قال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241].
وأيضاً، فإنه قد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]. فأمر بتمتيع المطلقات قبل المسيس، ولم يخص ذلك بمن لم يفرض لها، مع أن غالب النساء يطلقهن بعد الفرض.
وأيضا، فإذا كان سبب المتعة هو الطلاق، فسبب المهر هو العقد. فالمفوضة التي لم يسم لها مهراً يجب لها مهر المثل بالعقد، ويستقر بالموت، على القول الصحيح الذي دل عليه حديث بروع بنت واشق، التي تزوجت ومات عنها زوجها قبل أن يفرض لها مهر، وقضي لها النبي صلى الله عليه وسلم بأن لها مهر امرأة من نسائها، لا وَكْسَ ولا شَطَط، لكن هذه لو طلقت قبل / المسيس لم يجب لها نصف المهر بنص القرآن؛ لكونها لم تشترط مهراً مسمي، والكسر الذي حصل لها بالطلاق انجبر بالمتعة، وليس هذا موضع بسط هذه المسائل.
ولكن المقصود أن الشارع لا يكره المرأة على النكاح إذا لم ترده، بل إذا كرهت الزوج وحصل بينهما شقاق، فإنه يجعل أمرها إلى غير الزوج لمن ينظر في المصلحة من أهلها، مع من ينظر في المصلحة من أهله، فيخلصها من الزوج بدون أمره، فكيف تؤسر معه أبداً بدون أمرها. والمرأة أسيرة مع الزوج؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن بنت بالغ، وقد خطبت لقرابة لها فأبت، وقال أهلها للعاقد: اعقد وأبوها حاضر: فهل يجوز تزويجها؟
فأجاب:
أما إن كان الزوج ليس كفؤاً لها فلا تجبر على نكاحه بلا ريب، وأما إن كان كفؤاً فللعلماء فيه قولان مشهوران، لكن الأظهر في الكتاب والسنة والاعتبار أنها لا تجبر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح البكر حتى يستأذنها أبوها، وإذنها صماتها). والله أعلم.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل تزوج بكرا بولاية أبيها، ولم يستأذن حين العقد، وكان قدم العقد عليها لزوج قبله، وطلقت قبل الدخول بغير إصابة، ثم دخل بها الزوج الثاني فوجدها بنتاً، فكتم ذلك، وحملت الزوجة منه، واستقر الحال بينهما، فلما علم الزوج أنها لم تستأذن حين العقد عليها سأل عن ذلك، قيل له: إن العقد مفسوخ؛ لكونها بنتاً ولم تستأذن: فهل يكون العقد مفسوخاً؟ والوطء شبهة؟ ويلزم تجديد العقد أم لا؟
فأجاب:
أما إذا كانت ثيباً من زوج، وهي بالغ فهذه لا تنكح إلا بإذنها باتفاق الأئمة؛ ولكن إذا زوجت بغير إذنها، ثم أجازت العقد جاز ذلك في مذهب أبي حنيفة ومالك، والإمام أحمد في إحدى الروايتين، ولم يجز في مذهب الشافعي وأحمد في رواية أخري. وإن كانت ثيباً من زنا فهي كالثيب من النكاح في مذهب الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة. وفيه قول آخر: أنها كالبكر، وهو مذهب أبي حنيفة نفسه ومالك. وإن كانت البكارة زالت بوثبة، أو بأصبع، أو نحو ذلك فهي كالبكر عند الأئمة الأربعة.
وإذا كانت بكراً فالبكر يجبرها أبوها على النكاح، وإن كانت بالغة، في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين. وفي الأخرى ـ وهي / مذهب أبي حنيفة وغيره ـ أن الأب لا يجبرها إذا كانت بالغاً. وهذا أصح ما دل عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشواهد الأصول. فقد تبين في هذه المسألة أن أكثر العلماء يقولون: إذا اختارت هي العقد جاز، وإلا يحتاج إلى استئناف. وقد يقال: هو الأقوي هنا؛ لا سيما والأب إنما عقد معتقدًا أنها بكر، وأنه لا يحتاج إلى استئذانها؛ فإذا كانت في الباطن بخلاف ذلك كان معذوراً. فإذا اختارت هي النكاح لم يكن هذا بمنزلة تصرف الفضولي. ووقف العقد على الإجازة فيه نزاع مشهور بين العلماء، والأظهر فيه التفصيل بين بعضها وبعض. كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
وقال الشيخ ـ رحمه الله:
ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك، وأولى؛ فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك، ولا يمكن فراقه.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل تحت حجر والده، وقد تزوج بغير إذن والده، وشهد المعروفون أن والده مات وهو حي: فهل يصح العقد أم لا؟ وهل يجب على الولد إذا تزوج بغير إذن والده حق أم لا؟
/فأجاب:
إن كان سفيها محجوراً عليه، لا يصح نكاحه بدون إذن أبيه ويفرق بينهما. وإذا فرق بينهما قبل الدخول فلا شيء عليه. وإن كان رشيداً صح نكاحه، وإن لم يأذن له أبوه. وإذا تنازع الزوجان، هل نكح وهو رشيد أو وهو سفيه، فالقول قول مدعي صحة النكاح.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل خطب امرأة، ولها ولد، والعاقد مالكي، فطلب العاقد الولد فتعذر حضوره، وجيء بغيره، وأجاب العاقد في تزويجها: فهل يصح العقد؟
فأجاب:
لا يصح هذا العقد؛ وذلك لأن الولد وليها، وإذا كان حاضرا غير ممتنع لم تزوج إلا بإذنه. فأما إن غاب غيبة بعيدة انتقلت الولاية إلى الأبعد أو الحاكم. ولو زوجها شافعي معتقداً أن الولد لا ولاية له كان من مسائل الاجتهاد، لكن الذي زوجها مالكي يعتقد ألا يزوجها إلا ولدها، فإذا لبس عليه وزوجها من يعتقده ولدها ولم يكن هذا الحاكم قد زوجها بولايته، ولا زوجت بولاية ولي من نسب أو ولاء، فتكون منكوحة بدون إذن ولي أصلا. وهذا النكاح باطل عند الجمهور، كما وردت به النصوص.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن امرأة خلاها أخوها في مكان لتوفي عدة زوجها، فلما انقضت العدة هربت إلى بلد مسيرة يوم. وتزوجت بغير إذن أخيها، ولم يكن لها ولي غيره: فهل يصح العقد، أم لا؟
/فأجاب:
إذا لم يكن أخوها عاضلا لها، وكان أهلا للولاية، لم يصح نكاحها بدون إذنه، والحال هذه. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل تزوج بالغة من جدها أبي أبيها، وما رشدها، ولا معه وصية من أبيها، فلما دنت وفاة جدها أوصى على البنت رجلا أجنبياً: فهل للجد المذكور على الزوجة ولاية بعد أن أصابها الزوج، وهل له أن يوصى عليها؟
فأجاب:
أما إذا كانت رشيدة فلا ولاية عليها، لا للجد ولا غيره باتفاق الأئمة، وإن كانت ممن يستحق الحجر عليها ففيه للعلماء قولان: أحدهما: أن الجد له ولاية، وهذا مذهب أبي حنيفة. والثاني: لا ولاية له، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه. وإذا تزوجت الجارية ومضت عليها سنة وأولدها أمكن أن تكون رشيدة باتفاق العلماء.