وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل قال لزوجته: أسقطي ما في بطنك والإثم علي، فإذا فعلت هذا، وسمعت منه، فما يجب عليهما من الكفارة؟
فأجاب:
إن فعلت ذلك فعليهما كفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجدا فصيام شهرين متتابعين وعليهما غرة عبد أو أمة لوارثه الذي لم يقتله، لا للأب فإن الأب هو الآمر بقتله، فلا يستحق شيئًا .
/ وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل عدل له جارية اعترف بوطئها بحضرة عدول، وأنها حبلت منه، وأنه سأل بعض الناس عن أشياء تسقط الحمل، وأنه ضرب الجارية ضربا مبرحا على فؤادها فأسقطت عقيب ذلك، وأن الجارية قالت: إنه كان يلطخ ذكره بالقطران ويطؤها حتى يسقطها، وأنه أسقاها السم وغيره من الأشياء المسقطة مكرهة، فما يجب على مالك الجارية بما ذكر؟ وهل هذا مسقط لعدالته، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد الذي قال اللّه فيه: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سئلتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9]، وقد قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31]، ولو قدر أن الشخص أسقط الحمل خطأ مثل أن يضرب المرأة خطأ فتسقط، فعليه غرة عبد أو أمة، بنص النبي صلى الله عليه وسلم، واتفاق الأئمة، وتكون قيمة الغرة بقدر عشر دية الأم عند جمهور العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد.
كذلك عليه كفارة القتل عند جمهور الفقهاء، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} إلى قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ} [النساء: 92]، وأما إذا تعمد الإسقاط فإنه يعاقب على ذلك عقوبة تردعه عن ذلك، وذلك مما يقدح في دينه وعدالته. واللّه أعلم.
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن امرأة حامل تعمدت اسقاط الجنين إما بضرب وإما بشرب دواء: فما يجب عليها؟
فأجاب:
يجب عليها بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم واتفاق الأئمة غرة عبد أو أمة، تكون هذه الغرة لورثة الجنين، غير أمه، فإن كان له أب كانت الغرة لأبيه، فإن أحب أن يسقط عن المرأة فله ذلك، وتكون قيمة الغرة عشر دية، أو خمسين دينارًا. وعليها ـ أيضا ـ عند أكثر العلماء عتق رقبة، فإن لم تجد صامت شهرين متتابعين، فإن لم تستطع أطعمت ستين مسكينًا.
وسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن امرأة دفنت ابنها بالحياة حتى مات، فإنها كانت مريضة، وهو مريض، فضجرت منه، فما يجب عليها؟
/فأجاب:
الحمد للّه، هذا هو الوأد الذي قال اللّه تعالى فيه: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سئلتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8،9]، وقال اللّه تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31]، وفي الصحيحين عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل للّه ندًا وهو خلقك). قيل: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك). وإذا كان اللّه قد حرم قتل الولد مع الحاجة وخشية الفقر فلأن يحرم قتله بدون ذلك أولى وأحري. وهذه في قول الجمهور يجب عليها الدية تكون لورثته، ليس لها منها شيء باتفاق الأئمة. وفي وجوب الكفارة عليها قولان. واللّه أعلم.
وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن الرجل يلطم الرجل، أو يكلمه، أو يسبه: هل يجوز أن يفعل به كما فعل؟
فأجاب:
وأما القصاص في اللطمة، والضربة ونحو ذلك، فمذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين أن القصاص ثابت في ذلك كله وهو المنصوص عن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي. وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه لا يشرع في ذلك قصاص؛ لأن المساواة فيه متعذرة في الغالب، وهذا قول كثير من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، /والأول أصح، فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مضت بالقصاص في ذلك، وكذلك سنة الخلفاء الراشدين، وقد قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشوري: 40]، وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ونحو ذلك.
وأما قول القائل: إن المماثلة في هذه الجناية متعذرة، فيقال: لابد لهذه الجناية من عقوبة: إما قصاص، وإما تعزير. فإذا جوز أن يعزر تعزيرًا غير مضبوط الجنس والقدر فلأن يعاقب إلى ماهو أقرب إلى الضبط من ذلك أولى وأحري. والعدل في القصاص معتبر بحسب الإمكان، ومن المعلوم أن الضارب إذا ضرب ضربة مثل ضربته أو قريبا منها كان هذا أقرب إلى العدل من أن يعزر بالضرب بالسوط. فالذي يمنع القصاص في ذلك خوفا من الظلم يبيح ماهو أعظم ظلما مما فر منه. فعلم أنما جاءت به السنة أعدل وأمثل.
وكذلك له أن يسبه كما يسبه، مثل أن يلعنه كما يلعنه. أو يقول: قبحك اللّه، فيقول: قبحك اللّه. أو: أخزاك اللّه، فيقول له: أخزاك اللّه. أو يقول: ياكلب، ياخنزير، فيقول: ياكلب، ياخنزير، فأما إذا كان محرم الجنس مثل تكفيره أو الكذب عليه لم يكن له أن يكفره ولا يكذب عليه. وإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه؛ لأن أباه لم يظلمه.
/ وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عمن ضرب غيره فعطل منفعة إصبعه.
فأجاب:
إذا تعطلت منفعة إصبعه بالجناية التي اعتدي فيها وجبت دية الإصبع، وهي عشر الدية الكاملة. واللّه أعلم.
وسئل ـ قدسَ اللّه روحَه ـ عن اثنين: أحدهما حر، والآخر عبد، حملوا خشبة فتهورت منهم الخشبة من غير عمد، فأصابت رجلا، فأقام يومين وتوفي: فما يجب على الحر والعبد؟ وماذا يجب على مالك العبد إذا تغيب العبد؟
فأجاب:
إذا حصل منهما تفريط أو عدوان وجب الضمان عليهما. وإن كان هو المفرط بوقوفه حيث لا يصلح فلا ضمان. وإن لم يحصل تفريط منهما فلا ضمان عليهما. وإن كان بطريق السبب فلا ضمان.
/وإذا وجب الضمان عليهما نصفين فنصيب العبد يتعلق برقبته، فإن شاء سيده أن يسلمه في الجناية، وإن شاء أن يفتديه. وإذا افتداه فإنه يفتديه بأقل الأمرين من قيمته وقدر جنايته في مذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وفي الأخرى، وفي مذهب مالك يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ. فأما إن جني العبد وهرب بحيث لا يمكن سيده تسليمه فليس على السيد شيئًا لا أن يختار. واللّه أعلم.
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن ثلاثة حملوا عامود رخام، ثم إن منهم اثنين رموا العامود على الآخر كسروا رجله، فما يجب عليهم؟
فأجاب:
الحمد للّه، نعم إذ ألقوا عليه عامود الرخام حتى كسروا ساقه وجب ضمان ذلك، لكن من العلماء من يوجب بعيرين من الإبل، كما هو المشهور عن أحمد. ومنهم من يوجب فيه حكومة، وهو أن يقوم المجني عليه كأنه لا كسر به، ثم يقوم مكسورًا، فينظر ما نقص من قيمته، فيجب بقسطه. واللّه أعلم.
/ وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجلين تخاصما وتماسكا بالأيدي، ولم يضرب أحدهما الآخر، وكان أحدهما مريضا، ثم تفارقا في عافية، ثم بعد أسبوع توفي أحدهما، وهرب الآخر قبل موته بثلاثة أيام، فمسك أبو الهارب وألزموه بإحضار ولده، فاعتقد أن الخصم لم يمت، والتزم لأهله أنه مهما تم عليه كان هو القائم به، فلما مات اعتقلوا أباه تسعة أشهر فراضي أبوه أهل الميت بمال، وأبري المتهوم وكل أهله: فهل لهذا الملتزم بالمبلغ أن يرجع على أحد من بني عمه بشيء من المبلغ؟ وهل يبرأ الهارب؟
فأجاب:
إن ثبت أن الهارب قتله خطأ بأن يكون أحدهما مريضا وقد ضربه الآخر ضربا شديدا يزيد في مرضه، وكان سببا في موته، فالدية على العاقلة. فعلى عصبة بني العم وغيرهما أن يتحملوا هذا القدر الذي رضي به أهل القتيل فإنه أخف من الدية، وأما إن لم يثبت شيء من ذلك، لكن أخذ الأب بمجرد إقراره، لم يلزمهم بإقرار الأب شيء، وليس لأهل الدية الذين صالحوا على هذا القدر أن يطالبوا بأكثر منه. واللّه أعلم.
/ وسئل ـ قدس اللّه رُوحه ـ عن رجل رأى رجلًا قتل ثلاثة من المسلمين في شهر رمضان، ولحس السيف بفمه. وأن ولي الأمر لم يقدر عليه ليقيم عليه الحد، وأن الذي رآه قد وجده في مكان لم يقدر على مسكه: فهل له أن يقتل القاتل المذكور بغير حق؟ وإذا قتله هل يؤجر على ذلك أو يطالب بدمه؟
فأجاب:
إن كان قاطع طريق قتلهم لأخذ أموالهم وجب قتله، ولا يجوز العفو عنه، وإن كان قتلهم لغرض خاص مثل خصومة بينهم، أو عداوة، فأمره إلى ورثة القتيل: إن أحبوا قتله قتلوه، وإن أحبوا عفوا عنه، وإن أحبوا أخذوا الدية. فلا يجوز قتله إلا بإذن الورثة الأخرىن. وأما إن كان قاطع طريق، فقيل: بإذن الإمام، فمن علم أن الإمام أذن في قتله بدلائل الحال جاز أن يقتله على ذلك، وذلك مثل أن يعرف أن ولاة الأمور يطلبونه ليقتلوه، وأن قتله واجب في الشرع، فهذا يعرف أنهم آذنون في قتله، وإذا وجب قتله كان قاتله مأجورًا في ذلك.
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجلين قبض أحدهما لواحد، والآخر ضربه فشلت يده.
فأجاب:
الحمد للّه، هذا فيه نزاع. والأظهر أنه يجب على الاثنين القود إن وجب، وإلا فالدية عليهما. واللّه أعلم.
/ وسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن رجل وجد عند امرأته رجلا أجنبيا فقتلها، ثم تاب بعد موتها، وكان له أولاد صغار، فلما كبر أحدهما أراد أداء كفارة القتل، ولم يجد قدرة على العتق، فأراد أن يصوم شهرين متتابعين: فهل تجب الكفارة على القاتل؟ وهل يجزئ قيام الولد بها؟ وإذا كان الولد امرأة فحاضت في زمن الشهرين: هل ينقطع التتابع؟ وإذا غلب على ظنها أن الطهر يحصل في وقت معين: هل يجب عليها الإمساك، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إن كان قد وجدهما يفعلان الفاحشة وقتلها فلا شيء عليه في الباطن في أظهر قولي العلماء، وهو أظهر القولين في مذهب أحمد، وإن كان يمكنه دفعه عن وطئها بالكلام، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أن رجلا اطلع في بيتك ففقأت عينه ما كان عليك شيء)، ونظر رجل مرة في بيته فجعل يتبع عينه بمدري لو أصابته لقلعت عينه، وقال: (إنما جعل الاستئذان من أجل النظر) وقد كان يمكن دفعه بالكلام. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ /وبيده سيف متلطخ بدم قد قتل امرأته، فجاء أهلها يشكون عليه، فقال الرجل: إني وجدت لكاعا قد تفخذها فضربت ما هنالك بالسيف فأخذ السيف فهزه، ثم أعاده إليه، فقال: إن عاد فعد.
ومن العلماء من قال: يسقط القود عنه إذا كان الزاني محصنا، سواءكان القاتل هو زوج المرأة أو غيره، كما يقوله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد.
والقول الأول إنما مأخذه أنه جني على حرمته فهو كفقء عين الناظر، وكالذي انتزع يده من فم العاض حتى سقطت ثناياه، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وقال: (يدع يده في فيك فتقضمها كما يقضم الفحل؟!)، وهذا الحديث الأول القول به مذهب الشافعي وأحمد.
ومن العلماء من لم يأخذ به، قال: لأن دفع الصائل يكون بالأسهل. والنص يقدم على هذا القول، وهذا القول فيه نزاع بين السلف والخلف، فقد دخل اللص على عبد الله بن عمر، فأصلت له السيف، قالوا: فلولا أنا نهيناه عنه لضربه، وقد استدل أحمد بن حنبل بفعل ابن عمر هذا مع ما تقدم من الحديثين، وأخذ بذلك.
وأما إن كان الرجل لم يفعل بعد الفاحشة، ولكن وصل لأجل ذلك فهذا فيه نزاع، والأحوط لهذا أن يتوب من القتل من مثل هذه الصورة، وفي /وجوب الكفارة عليه نزاع، فإذا كفر فقد فعل الأحوط، فإن الكفارة تجب في قتل الخطأ. وأما قتل العمد فلا كفارة فيه عند الجمهور، كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه. وعليه الكفارة عند الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.
وإذا مات من عليه الكفارة ولم يكفر فليطعم عنه وليه ستين مسكينا فإنه بدل الصيام الذي عجزت عنه قوته، فإذا أطعم عنه في صيام رمضان فهذا أولي. والمرأة إن صامت شهرين متتابعين لم يقطع الحيض تتابعها، بل تبني بعد الطهر باتفاق الأئمة. واللّه أعلم.
وسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن رجل ضرب رجلا بسيف شل يده، ثم إنه جاءه ودفع إليه أربعة أفدنه طين سواء، مصالحة، ثم أكلها اثني عشر سنة، ولم يكتب بينه وبينه أبدًا، وحال المضروب ضعيف: فهل يلزم الضارب الدية؟
فأجاب:
إن كان صالحه عن شلل يده على شيء وجب ما اصطلحا عليه، ولم يكن لهذا أن يزيده، ولا لهذا أن ينقصه. وأما إن كان أعطاه شيئًا بلا مصالحة فله أن يطلب تمام حقه. وشلل اليد فيه دية اليد. واللّه أعلم.
/ وسئل ـ قدسَ اللّه روحَه ـ عن رجل ضرب رجلا فتحول حنكه، ووقعت أنيابه، وخيطوا حنكه بالإبر، فما يجب؟
فأجاب:
يجب في الأسنان في كل سن نصف عشر الدية خمسون دينارا، أو خمس من الإبل أو ستمائة درهم. ويجب في تحويل الحنك الأرش: يقوم المجني عليه كأنه عبد سليم، ثم يقوم وهو عبد معيب، ثم ينظر تفاوت ما بين القيميين، فيجب بنسبته من الدية. وإذا كانت الضربة مما تقلع الأسنان في العادة فللمجني عليه القصاص، وهو أن يقلع له مثل تلك الأسنان من الضارب.
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن مسلم قتل مسلما متعمدا بغير حق، ثم تاب بعد ذلك: فهل ترجي له التوبة، وينجو من النار، أم لا؟ وهل يجب عليه دية، أم لا؟
فأجاب:
قاتل النفس بغير حق عليه حقان: حق للّه بكونه تعدي حدود اللّه وانتهك حرماته، فهذا الذنب يغفره اللّه بالتوبة الصحيحة، كما قال/ تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، أي: لمن تاب. وقال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 68،70]، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا قتل تسعة وتسعين رجلا، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه، فسأله: هل من توبة؟ فقال: أبعد تسعة وتسعين تكون لك توبة؟ !! فقتله، فكمل به مائة! ثم مكث ما شاء اللّه، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه، فسأله هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ! ولكن ائت قرية كذا فإن فيها قوما صالحين فاعبد اللّه معهم، فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فبعث اللّه ملكا يحكم بينهم فأمر أن يقاس فإلى أي القريتين كان أقرب ألحق به، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة فغفر اللّه له).
والحق الثاني حق الآدميين، فعلى القاتل أن يعطي أولياء المقتول حقهم، فيمكنهم من القصاص، أو يصالحهم بمال، أو يطلب منهم العفو فإذا فعل ذلك فقد أدي ما عليه من حقهم، وذلك من تمام التوبة.
/وهل يبقي للمقتول عليه حق يطالبه به يوم القيامة؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره، ومن قال يبقي له؛ فإنه يستكثر القاتل من الحسنات حتى يعطي المقتول من حسناته بقدر حقه، ويبقي له ما يبقي، فإذا استكثر القاتل التائب من الحسنات رجيت له رحمة اللّه، وأنجاه من النار، ولا يقنط من رحمة اللّه إلا القوم الفاسقون.
وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن رجلين اختلفا في قتل النفس عمدًا. فقال أحدهما: إن هذا ذنب لا يغفر، وقال الآخر: إذا تاب تاب اللّه عليه.
فأجاب:
أما حق المظلوم فإنه لا يسقط باستغفار الظالم القاتل، لا في قتل النفس، ولا في سائر مظالم العباد، فإن حق المظلوم لا يسقط بمجرد الاستغفار، لكن تقبل توبة القاتل وغيره من الظلمة؛ فيغفر اللّه له بالتوبة الحق الذي له. وأما حقوق المظلومين فإن اللّه يوفيهم إياها: إما من حسنات الظالم، وإما من عنده. واللّه أعلم.
/ وسئل ـ رحمه اللّه تعالى ـ عمن اتهموه النصارى في قتل نصارى ولم يظهر عليه، فأحضروه إلى النائب بالكرك، وألزموه أن يعاقبه، فعوقب حتى مات ولم يقر بشيء، فما يلزم النصارى الذين التزموا بدمه؟
فأجاب:
يجب عليهم ضمان الذي التزموا دمه إن مات تحت العقوبة بل يعاقبون كما عوقب ـ أيضا ـ كـما روي أبو داود فـي السنن عن النعمان بن بشير أنه قضي نحو ذلك. واللّه أعلم.
/ كتاب الحدود
قال شيخ الإسلام ـ قدس اللّه روحه:
فصل
خاطب اللّه المؤمنين بالحدود والحقوق خطابًا مطلقًا، كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ} [المائدة: 38]، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]، وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4]، وكذلك قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرًا عليه، والعاجزون لا يحب عليهم، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد. فقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]، وقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} [البقرة: 244]، وقوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ} [التوبة: 39]، ونحو ذلك، هو فرض على الكفاية من القادرين. والقدرة هي السلطان؛ فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه.
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، أو غير ذلك /فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق؛ ولهذا قال العلماء إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة، فإن ذلك ـ أيضا ـ إذا اسقط عنه إلزامهم بذلك لم يسقط عنهم القيام بذلك، بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق، أو إضاعته لذلك، لكان ذلك الفرض على القادر عليه.
وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه. إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل، كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم، إنما هو العادل القادر فإذا كان مضيعا لأموال اليتامي، أو عاجزًا عنها، لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه، وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزًا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه.
والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه. واللّه أعلم.
/ باب حد الزنا
سئل شَيخ الإسلام ـ قدس اللّه روحه ـ عمن زنا بأخته: ماذا يجب عليه؟
فأجاب:
وأما من زنا بأخته مع علمه بتحريم ذلك وجب قتله، والحجة في ذلك ما رواه البراء بن عازب، قال: مر بي خالي أبو بردة، ومعه راية، فقلت: أين تذهب ياخالي! قال: بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج بامرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وأخمس ماله. واللّه أعلم.
وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن امرأة مزوجة بزوج كامل، ولها أولاد، فتعلقت بشخص من الأطراف أقامت معه على الفجور، فلما ظهر أمرها سعت في مفارقة الزوج: فهل بقي لها حق على أولادها بعد هذا الفعل؟ وهل عليهم إثم في قطعها؟ وهل يجوز لمن تحقق ذلك منها قتلها سرا؟ وإن فعل ذلك غيره يأثم؟
/فأجاب:
الحمد للّه، الواجب على أولادها وعصبتها أن يمنعوها من المحرمات فإن لم تمتنع إلا بالحبس حبسوها، وإن احتاجت إلى القيد قيدوها. وما ينبغي للولد أن يضرب أمه. وأما برها فليس لهم أن يمنعوها برها، ولا يجوز لهم مقاطعتها بحيث تتمكن بذلك من السوء، بل يمنعوها بحسب قدرتهم. وإن احتاجت إلى رزق وكسوة رزقوها، وكسوها، ولا يجوز لهم إقامة الحد عليها بقتل ولا غيره، وعليهم الإثم في ذلك.
وسئل ـ رحمه اللّه تعالى ـ عن بلد فيها جوار سائبات يزنون مع النصارى والمسلمين.
فأجاب:
وأما على سيد الأمة إذا زنت أن يقيم عليها الحد، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت في الرابعة فليبعها ولو بضفير)، والضفير: الحبل، فإن لم يفعل ما أمره به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان عاصيا للّه ورسوله. وكان إصراره على المعصية قادحًا في عدالته، فأما إذا كان هو يرسلها لتبغي وتنفق على نفسها من مهر البغاء، أو يأخذ هو شيئًا من ذلك، فهذا ممن لعنه اللّه ورسوله، وهو فاسق خبيث، آذن في الكبيرة، وآخذ مهر البغي، ولم ينهها عن الفاحشة. ومثل هذا لا يجوز أن يكون معدلًا، بل لا يجوز إقراره بين المسلمين، بل يستحق العقوبة /الغليظة حتى يصون إماءه. وأقل العقوبة أن يهجر فلا يسلم عليه، ولا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة خلف غيره، ولا يستشهد ولا يولى ولاية أصلًا. ومن استحل ذلك فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكان مرتدًا لا ترثه ورثته المسلمون. وإن كان جاهلًا بالتحريم عرف ذلك حتى تقوم عليه الحجة، فإن هذا من المحرمات المجمع عليها.
وسئل ـ رحمه اللّه تعالى ـ عمن حلف لولده أنه إن فعل منكرًا يقيم عليه الحد، فأقر لوالده فضربه مائة جلدة، وبقي تغريب عام، فهل يجوز في تغريب العام كفارة، أم لا؟
فأجاب:
أنه إذا غربه في الحبس ولو في دار الأب يوفي يمينه، وإن كان مطلقا غير مقيد في موضع معين، فإنه لا يجب القيد، ولا جعله في مكان مظلم. واللّه أعلم.
وسئل عمن وجب عليه حد الزنا فتاب قبل أن يحد: فهل يسقط عنه الحد بالتوبة؟
/فأجاب:
إن تاب من الزنا، والسرقة، أو شرب الخمر، قبل أن يرفع إلى الإمام: فالصحيح أن الحد يسقط عنه، كما يسقط من المحاربين بالإجماع إذا تابوا قبل القدرة.
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل أذنب ذنبا يجب عليه حد من الحدود: مثل جلد، أو حصب ثم تاب من ذلك الذنب، وأقلع، واستغفر، ونوي ألا يعود: فهل يجزئه ذلك؟ أو يحتاج مع ذلك إلى أن يأتي إلى ولي الأمر ويعرفه بذنبه ليقيم عليه الحد، أم لا؟ وهل ستره على نفسه وتوبته أفضل، أم لا؟
فأجاب:
إذا تاب توبة صحيحة تاب اللّه عليه من غير حاجة إلى أن يقر بذنبه حتى يقام عليه الحد، وفي الحديث: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر اللّه، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه). وفي الأثر أيضا: من أذنب سرًا فليتب سرًا، ومن أذنب علانية فليتب علانية. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} الآية [آل عمران: 135].
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن إثم المعصية، وحد الزنا: هل تزاد في الأيام المباركة، أم لا؟
فأجاب:
نعم، المعاصي في الأيام المفضلة والأمكنة المفضلة تغلظ، وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان.
/ وسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن امرأة قوادة تجمع الرجال والنساء، وقد ضربت، وحبست، ثم عادت تفعل ذلك، وقد لحق الجيران الضرر بها: فهل لولي الأمر نقلها من بينهم، أم لا؟
فأجاب:
نعم، لولي الأمر كصاحب الشرطة أن يصرف ضررها بما يراه مصلحة: إما بحبسها، وإما بنقلها عن الحرائر، وإما بغير ذلك مما يري فيه المصلحة، وقد كان عمر بن الخطاب يأمر العزاب ألا تسكن بين المتأهلين، وألايسكن المتأهل بين العزاب، وهكذا فعل المهاجرون لما قدموا المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونفوا شابا خافوا الفتنة به من المدينة إلى البصرة، وثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفي المخنثين وأمر بنفيهم من البيوت خشية أن يفسدوا النساء. فالقوادة شر من هؤلاء، واللّه يعذبها مع أصحابها.
وسئل عن الفاعل، والمفعول به بعد إدراكهما ما يجب عليهما؟ وما يطهرهما؟ وما ينويان عند الطهارة؟
/فأجاب:
أما الفاعل والمفعول به فيجب قتلهما رجما بالحجارة، سواءكانا محصنين أو غير محصنين، لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اتفقوا على قتلهما. وعليهما الاغتسال من الجنابة، وترتفع الجنابة من الاغتسال، لكن لا يطهران من نجاسة الذنب إلا بالتوبة، وهذا معني ما روي أنهما لو اغتسلا بالماء ينويان رفع الجنابة واستباحة الصلاة. . . .
وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن قوله في التهذيب: من أتي بهيمة فاقتلوا المفعول، واقتلوا الفاعل بها: فهل يجب ذلك، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، هذا فيه حديث، رواه أبو داود في السنن، وهو قوله: (من أتي بهيمة فاقتلوه، واقتلوها)، وهو أحد قولي العلماء، كأحد القولين في مذهب أحمد، ومذهب الشافعي.
/ باب حَد القَذف
وسئل شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ اللّه ـ عمن قذف رجلا لأنه ينظر إلى حريم الناس، وهو كاذب عليه، فما يجب على القاذف؟
الجواب
إذا كان الأمر على ما ذكر، فإنه يعزر على افترائه على هذا الشخص بما يزجره وأمثاله، إذا طلب المقذوف ذلك.
وسئل ـ رَحِمهُ اللّه تعالى ـ عن رجل تزوج امرأة من أهل الخير وله مطلقة، وشرط إن رد مطلقته كان الصداق حالًا، ثم إنه رد المطلقة، وقذف هو ومطلقته عرض الزوجة، ورموها بالزنا، بأنها كانت حاملًا من الزنا، وطلقها بعد دخوله بها، فما الذي يجب عليهما؟ وهل يقبل قولهما؟ وهل يسقط الصداق، أم لا؟
/فأجاب
الحمد لله رب العالمين، أما مطلقته فتحد على قذفها ثمانين جلدة إذا طلبت ذلك المرأة المقذوفة، ولا تقبل لها شهادة أبدًا؛ لأنها فاسقة. وكذلك الرجل عليه ثمانون جلدة إذا طلبت المرأة ذلك، ولاتقبل له شهادة أبدًا، وهو فاسق إذا لم يتب.
وهل له إسقاط الحد باللعان؟ فيه للفقهاء ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يلاعن. وقيل: لا يلاعن. وقيل: إن كان ثم ولد يريد نفيه لاعن، وإلا فلا. وصداقها باق عليها لا يسقط باللعان، كما سن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كله باتفاق الأئمة، إلا ما ذكرناه من جواز اللعان ففيه الأقوال الثلاثة: أحدها: لا يلاعن، بل يحد حد القذف، وتسقط شهادته، وهذا مذهب أحمد في أشهر الروايات عنه، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي. والثاني: يلاعن، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في رواية عنه. والثالث: إن كان هناك حمل لاعن، لنفيه، وإلا فلا. وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد. والله أعلم.
فأجاب:
إن فعلت ذلك فعليهما كفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجدا فصيام شهرين متتابعين وعليهما غرة عبد أو أمة لوارثه الذي لم يقتله، لا للأب فإن الأب هو الآمر بقتله، فلا يستحق شيئًا .
/ وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل عدل له جارية اعترف بوطئها بحضرة عدول، وأنها حبلت منه، وأنه سأل بعض الناس عن أشياء تسقط الحمل، وأنه ضرب الجارية ضربا مبرحا على فؤادها فأسقطت عقيب ذلك، وأن الجارية قالت: إنه كان يلطخ ذكره بالقطران ويطؤها حتى يسقطها، وأنه أسقاها السم وغيره من الأشياء المسقطة مكرهة، فما يجب على مالك الجارية بما ذكر؟ وهل هذا مسقط لعدالته، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد الذي قال اللّه فيه: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سئلتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9]، وقد قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31]، ولو قدر أن الشخص أسقط الحمل خطأ مثل أن يضرب المرأة خطأ فتسقط، فعليه غرة عبد أو أمة، بنص النبي صلى الله عليه وسلم، واتفاق الأئمة، وتكون قيمة الغرة بقدر عشر دية الأم عند جمهور العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد.
كذلك عليه كفارة القتل عند جمهور الفقهاء، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} إلى قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ} [النساء: 92]، وأما إذا تعمد الإسقاط فإنه يعاقب على ذلك عقوبة تردعه عن ذلك، وذلك مما يقدح في دينه وعدالته. واللّه أعلم.
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن امرأة حامل تعمدت اسقاط الجنين إما بضرب وإما بشرب دواء: فما يجب عليها؟
فأجاب:
يجب عليها بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم واتفاق الأئمة غرة عبد أو أمة، تكون هذه الغرة لورثة الجنين، غير أمه، فإن كان له أب كانت الغرة لأبيه، فإن أحب أن يسقط عن المرأة فله ذلك، وتكون قيمة الغرة عشر دية، أو خمسين دينارًا. وعليها ـ أيضا ـ عند أكثر العلماء عتق رقبة، فإن لم تجد صامت شهرين متتابعين، فإن لم تستطع أطعمت ستين مسكينًا.
وسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن امرأة دفنت ابنها بالحياة حتى مات، فإنها كانت مريضة، وهو مريض، فضجرت منه، فما يجب عليها؟
/فأجاب:
الحمد للّه، هذا هو الوأد الذي قال اللّه تعالى فيه: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سئلتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8،9]، وقال اللّه تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31]، وفي الصحيحين عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل للّه ندًا وهو خلقك). قيل: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك). وإذا كان اللّه قد حرم قتل الولد مع الحاجة وخشية الفقر فلأن يحرم قتله بدون ذلك أولى وأحري. وهذه في قول الجمهور يجب عليها الدية تكون لورثته، ليس لها منها شيء باتفاق الأئمة. وفي وجوب الكفارة عليها قولان. واللّه أعلم.
وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن الرجل يلطم الرجل، أو يكلمه، أو يسبه: هل يجوز أن يفعل به كما فعل؟
فأجاب:
وأما القصاص في اللطمة، والضربة ونحو ذلك، فمذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين أن القصاص ثابت في ذلك كله وهو المنصوص عن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي. وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه لا يشرع في ذلك قصاص؛ لأن المساواة فيه متعذرة في الغالب، وهذا قول كثير من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، /والأول أصح، فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مضت بالقصاص في ذلك، وكذلك سنة الخلفاء الراشدين، وقد قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشوري: 40]، وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ونحو ذلك.
وأما قول القائل: إن المماثلة في هذه الجناية متعذرة، فيقال: لابد لهذه الجناية من عقوبة: إما قصاص، وإما تعزير. فإذا جوز أن يعزر تعزيرًا غير مضبوط الجنس والقدر فلأن يعاقب إلى ماهو أقرب إلى الضبط من ذلك أولى وأحري. والعدل في القصاص معتبر بحسب الإمكان، ومن المعلوم أن الضارب إذا ضرب ضربة مثل ضربته أو قريبا منها كان هذا أقرب إلى العدل من أن يعزر بالضرب بالسوط. فالذي يمنع القصاص في ذلك خوفا من الظلم يبيح ماهو أعظم ظلما مما فر منه. فعلم أنما جاءت به السنة أعدل وأمثل.
وكذلك له أن يسبه كما يسبه، مثل أن يلعنه كما يلعنه. أو يقول: قبحك اللّه، فيقول: قبحك اللّه. أو: أخزاك اللّه، فيقول له: أخزاك اللّه. أو يقول: ياكلب، ياخنزير، فيقول: ياكلب، ياخنزير، فأما إذا كان محرم الجنس مثل تكفيره أو الكذب عليه لم يكن له أن يكفره ولا يكذب عليه. وإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه؛ لأن أباه لم يظلمه.
/ وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عمن ضرب غيره فعطل منفعة إصبعه.
فأجاب:
إذا تعطلت منفعة إصبعه بالجناية التي اعتدي فيها وجبت دية الإصبع، وهي عشر الدية الكاملة. واللّه أعلم.
وسئل ـ قدسَ اللّه روحَه ـ عن اثنين: أحدهما حر، والآخر عبد، حملوا خشبة فتهورت منهم الخشبة من غير عمد، فأصابت رجلا، فأقام يومين وتوفي: فما يجب على الحر والعبد؟ وماذا يجب على مالك العبد إذا تغيب العبد؟
فأجاب:
إذا حصل منهما تفريط أو عدوان وجب الضمان عليهما. وإن كان هو المفرط بوقوفه حيث لا يصلح فلا ضمان. وإن لم يحصل تفريط منهما فلا ضمان عليهما. وإن كان بطريق السبب فلا ضمان.
/وإذا وجب الضمان عليهما نصفين فنصيب العبد يتعلق برقبته، فإن شاء سيده أن يسلمه في الجناية، وإن شاء أن يفتديه. وإذا افتداه فإنه يفتديه بأقل الأمرين من قيمته وقدر جنايته في مذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وفي الأخرى، وفي مذهب مالك يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ. فأما إن جني العبد وهرب بحيث لا يمكن سيده تسليمه فليس على السيد شيئًا لا أن يختار. واللّه أعلم.
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن ثلاثة حملوا عامود رخام، ثم إن منهم اثنين رموا العامود على الآخر كسروا رجله، فما يجب عليهم؟
فأجاب:
الحمد للّه، نعم إذ ألقوا عليه عامود الرخام حتى كسروا ساقه وجب ضمان ذلك، لكن من العلماء من يوجب بعيرين من الإبل، كما هو المشهور عن أحمد. ومنهم من يوجب فيه حكومة، وهو أن يقوم المجني عليه كأنه لا كسر به، ثم يقوم مكسورًا، فينظر ما نقص من قيمته، فيجب بقسطه. واللّه أعلم.
/ وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجلين تخاصما وتماسكا بالأيدي، ولم يضرب أحدهما الآخر، وكان أحدهما مريضا، ثم تفارقا في عافية، ثم بعد أسبوع توفي أحدهما، وهرب الآخر قبل موته بثلاثة أيام، فمسك أبو الهارب وألزموه بإحضار ولده، فاعتقد أن الخصم لم يمت، والتزم لأهله أنه مهما تم عليه كان هو القائم به، فلما مات اعتقلوا أباه تسعة أشهر فراضي أبوه أهل الميت بمال، وأبري المتهوم وكل أهله: فهل لهذا الملتزم بالمبلغ أن يرجع على أحد من بني عمه بشيء من المبلغ؟ وهل يبرأ الهارب؟
فأجاب:
إن ثبت أن الهارب قتله خطأ بأن يكون أحدهما مريضا وقد ضربه الآخر ضربا شديدا يزيد في مرضه، وكان سببا في موته، فالدية على العاقلة. فعلى عصبة بني العم وغيرهما أن يتحملوا هذا القدر الذي رضي به أهل القتيل فإنه أخف من الدية، وأما إن لم يثبت شيء من ذلك، لكن أخذ الأب بمجرد إقراره، لم يلزمهم بإقرار الأب شيء، وليس لأهل الدية الذين صالحوا على هذا القدر أن يطالبوا بأكثر منه. واللّه أعلم.
/ وسئل ـ قدس اللّه رُوحه ـ عن رجل رأى رجلًا قتل ثلاثة من المسلمين في شهر رمضان، ولحس السيف بفمه. وأن ولي الأمر لم يقدر عليه ليقيم عليه الحد، وأن الذي رآه قد وجده في مكان لم يقدر على مسكه: فهل له أن يقتل القاتل المذكور بغير حق؟ وإذا قتله هل يؤجر على ذلك أو يطالب بدمه؟
فأجاب:
إن كان قاطع طريق قتلهم لأخذ أموالهم وجب قتله، ولا يجوز العفو عنه، وإن كان قتلهم لغرض خاص مثل خصومة بينهم، أو عداوة، فأمره إلى ورثة القتيل: إن أحبوا قتله قتلوه، وإن أحبوا عفوا عنه، وإن أحبوا أخذوا الدية. فلا يجوز قتله إلا بإذن الورثة الأخرىن. وأما إن كان قاطع طريق، فقيل: بإذن الإمام، فمن علم أن الإمام أذن في قتله بدلائل الحال جاز أن يقتله على ذلك، وذلك مثل أن يعرف أن ولاة الأمور يطلبونه ليقتلوه، وأن قتله واجب في الشرع، فهذا يعرف أنهم آذنون في قتله، وإذا وجب قتله كان قاتله مأجورًا في ذلك.
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجلين قبض أحدهما لواحد، والآخر ضربه فشلت يده.
فأجاب:
الحمد للّه، هذا فيه نزاع. والأظهر أنه يجب على الاثنين القود إن وجب، وإلا فالدية عليهما. واللّه أعلم.
/ وسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن رجل وجد عند امرأته رجلا أجنبيا فقتلها، ثم تاب بعد موتها، وكان له أولاد صغار، فلما كبر أحدهما أراد أداء كفارة القتل، ولم يجد قدرة على العتق، فأراد أن يصوم شهرين متتابعين: فهل تجب الكفارة على القاتل؟ وهل يجزئ قيام الولد بها؟ وإذا كان الولد امرأة فحاضت في زمن الشهرين: هل ينقطع التتابع؟ وإذا غلب على ظنها أن الطهر يحصل في وقت معين: هل يجب عليها الإمساك، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، إن كان قد وجدهما يفعلان الفاحشة وقتلها فلا شيء عليه في الباطن في أظهر قولي العلماء، وهو أظهر القولين في مذهب أحمد، وإن كان يمكنه دفعه عن وطئها بالكلام، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أن رجلا اطلع في بيتك ففقأت عينه ما كان عليك شيء)، ونظر رجل مرة في بيته فجعل يتبع عينه بمدري لو أصابته لقلعت عينه، وقال: (إنما جعل الاستئذان من أجل النظر) وقد كان يمكن دفعه بالكلام. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ /وبيده سيف متلطخ بدم قد قتل امرأته، فجاء أهلها يشكون عليه، فقال الرجل: إني وجدت لكاعا قد تفخذها فضربت ما هنالك بالسيف فأخذ السيف فهزه، ثم أعاده إليه، فقال: إن عاد فعد.
ومن العلماء من قال: يسقط القود عنه إذا كان الزاني محصنا، سواءكان القاتل هو زوج المرأة أو غيره، كما يقوله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد.
والقول الأول إنما مأخذه أنه جني على حرمته فهو كفقء عين الناظر، وكالذي انتزع يده من فم العاض حتى سقطت ثناياه، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وقال: (يدع يده في فيك فتقضمها كما يقضم الفحل؟!)، وهذا الحديث الأول القول به مذهب الشافعي وأحمد.
ومن العلماء من لم يأخذ به، قال: لأن دفع الصائل يكون بالأسهل. والنص يقدم على هذا القول، وهذا القول فيه نزاع بين السلف والخلف، فقد دخل اللص على عبد الله بن عمر، فأصلت له السيف، قالوا: فلولا أنا نهيناه عنه لضربه، وقد استدل أحمد بن حنبل بفعل ابن عمر هذا مع ما تقدم من الحديثين، وأخذ بذلك.
وأما إن كان الرجل لم يفعل بعد الفاحشة، ولكن وصل لأجل ذلك فهذا فيه نزاع، والأحوط لهذا أن يتوب من القتل من مثل هذه الصورة، وفي /وجوب الكفارة عليه نزاع، فإذا كفر فقد فعل الأحوط، فإن الكفارة تجب في قتل الخطأ. وأما قتل العمد فلا كفارة فيه عند الجمهور، كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه. وعليه الكفارة عند الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.
وإذا مات من عليه الكفارة ولم يكفر فليطعم عنه وليه ستين مسكينا فإنه بدل الصيام الذي عجزت عنه قوته، فإذا أطعم عنه في صيام رمضان فهذا أولي. والمرأة إن صامت شهرين متتابعين لم يقطع الحيض تتابعها، بل تبني بعد الطهر باتفاق الأئمة. واللّه أعلم.
وسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن رجل ضرب رجلا بسيف شل يده، ثم إنه جاءه ودفع إليه أربعة أفدنه طين سواء، مصالحة، ثم أكلها اثني عشر سنة، ولم يكتب بينه وبينه أبدًا، وحال المضروب ضعيف: فهل يلزم الضارب الدية؟
فأجاب:
إن كان صالحه عن شلل يده على شيء وجب ما اصطلحا عليه، ولم يكن لهذا أن يزيده، ولا لهذا أن ينقصه. وأما إن كان أعطاه شيئًا بلا مصالحة فله أن يطلب تمام حقه. وشلل اليد فيه دية اليد. واللّه أعلم.
/ وسئل ـ قدسَ اللّه روحَه ـ عن رجل ضرب رجلا فتحول حنكه، ووقعت أنيابه، وخيطوا حنكه بالإبر، فما يجب؟
فأجاب:
يجب في الأسنان في كل سن نصف عشر الدية خمسون دينارا، أو خمس من الإبل أو ستمائة درهم. ويجب في تحويل الحنك الأرش: يقوم المجني عليه كأنه عبد سليم، ثم يقوم وهو عبد معيب، ثم ينظر تفاوت ما بين القيميين، فيجب بنسبته من الدية. وإذا كانت الضربة مما تقلع الأسنان في العادة فللمجني عليه القصاص، وهو أن يقلع له مثل تلك الأسنان من الضارب.
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن مسلم قتل مسلما متعمدا بغير حق، ثم تاب بعد ذلك: فهل ترجي له التوبة، وينجو من النار، أم لا؟ وهل يجب عليه دية، أم لا؟
فأجاب:
قاتل النفس بغير حق عليه حقان: حق للّه بكونه تعدي حدود اللّه وانتهك حرماته، فهذا الذنب يغفره اللّه بالتوبة الصحيحة، كما قال/ تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، أي: لمن تاب. وقال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 68،70]، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا قتل تسعة وتسعين رجلا، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه، فسأله: هل من توبة؟ فقال: أبعد تسعة وتسعين تكون لك توبة؟ !! فقتله، فكمل به مائة! ثم مكث ما شاء اللّه، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه، فسأله هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ! ولكن ائت قرية كذا فإن فيها قوما صالحين فاعبد اللّه معهم، فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فبعث اللّه ملكا يحكم بينهم فأمر أن يقاس فإلى أي القريتين كان أقرب ألحق به، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة فغفر اللّه له).
والحق الثاني حق الآدميين، فعلى القاتل أن يعطي أولياء المقتول حقهم، فيمكنهم من القصاص، أو يصالحهم بمال، أو يطلب منهم العفو فإذا فعل ذلك فقد أدي ما عليه من حقهم، وذلك من تمام التوبة.
/وهل يبقي للمقتول عليه حق يطالبه به يوم القيامة؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره، ومن قال يبقي له؛ فإنه يستكثر القاتل من الحسنات حتى يعطي المقتول من حسناته بقدر حقه، ويبقي له ما يبقي، فإذا استكثر القاتل التائب من الحسنات رجيت له رحمة اللّه، وأنجاه من النار، ولا يقنط من رحمة اللّه إلا القوم الفاسقون.
وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن رجلين اختلفا في قتل النفس عمدًا. فقال أحدهما: إن هذا ذنب لا يغفر، وقال الآخر: إذا تاب تاب اللّه عليه.
فأجاب:
أما حق المظلوم فإنه لا يسقط باستغفار الظالم القاتل، لا في قتل النفس، ولا في سائر مظالم العباد، فإن حق المظلوم لا يسقط بمجرد الاستغفار، لكن تقبل توبة القاتل وغيره من الظلمة؛ فيغفر اللّه له بالتوبة الحق الذي له. وأما حقوق المظلومين فإن اللّه يوفيهم إياها: إما من حسنات الظالم، وإما من عنده. واللّه أعلم.
/ وسئل ـ رحمه اللّه تعالى ـ عمن اتهموه النصارى في قتل نصارى ولم يظهر عليه، فأحضروه إلى النائب بالكرك، وألزموه أن يعاقبه، فعوقب حتى مات ولم يقر بشيء، فما يلزم النصارى الذين التزموا بدمه؟
فأجاب:
يجب عليهم ضمان الذي التزموا دمه إن مات تحت العقوبة بل يعاقبون كما عوقب ـ أيضا ـ كـما روي أبو داود فـي السنن عن النعمان بن بشير أنه قضي نحو ذلك. واللّه أعلم.
/ كتاب الحدود
قال شيخ الإسلام ـ قدس اللّه روحه:
فصل
خاطب اللّه المؤمنين بالحدود والحقوق خطابًا مطلقًا، كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ} [المائدة: 38]، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]، وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4]، وكذلك قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرًا عليه، والعاجزون لا يحب عليهم، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد. فقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]، وقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} [البقرة: 244]، وقوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ} [التوبة: 39]، ونحو ذلك، هو فرض على الكفاية من القادرين. والقدرة هي السلطان؛ فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه.
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، أو غير ذلك /فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق؛ ولهذا قال العلماء إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة، فإن ذلك ـ أيضا ـ إذا اسقط عنه إلزامهم بذلك لم يسقط عنهم القيام بذلك، بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق، أو إضاعته لذلك، لكان ذلك الفرض على القادر عليه.
وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه. إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل، كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم، إنما هو العادل القادر فإذا كان مضيعا لأموال اليتامي، أو عاجزًا عنها، لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه، وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزًا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه.
والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه. واللّه أعلم.
/ باب حد الزنا
سئل شَيخ الإسلام ـ قدس اللّه روحه ـ عمن زنا بأخته: ماذا يجب عليه؟
فأجاب:
وأما من زنا بأخته مع علمه بتحريم ذلك وجب قتله، والحجة في ذلك ما رواه البراء بن عازب، قال: مر بي خالي أبو بردة، ومعه راية، فقلت: أين تذهب ياخالي! قال: بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج بامرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وأخمس ماله. واللّه أعلم.
وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن امرأة مزوجة بزوج كامل، ولها أولاد، فتعلقت بشخص من الأطراف أقامت معه على الفجور، فلما ظهر أمرها سعت في مفارقة الزوج: فهل بقي لها حق على أولادها بعد هذا الفعل؟ وهل عليهم إثم في قطعها؟ وهل يجوز لمن تحقق ذلك منها قتلها سرا؟ وإن فعل ذلك غيره يأثم؟
/فأجاب:
الحمد للّه، الواجب على أولادها وعصبتها أن يمنعوها من المحرمات فإن لم تمتنع إلا بالحبس حبسوها، وإن احتاجت إلى القيد قيدوها. وما ينبغي للولد أن يضرب أمه. وأما برها فليس لهم أن يمنعوها برها، ولا يجوز لهم مقاطعتها بحيث تتمكن بذلك من السوء، بل يمنعوها بحسب قدرتهم. وإن احتاجت إلى رزق وكسوة رزقوها، وكسوها، ولا يجوز لهم إقامة الحد عليها بقتل ولا غيره، وعليهم الإثم في ذلك.
وسئل ـ رحمه اللّه تعالى ـ عن بلد فيها جوار سائبات يزنون مع النصارى والمسلمين.
فأجاب:
وأما على سيد الأمة إذا زنت أن يقيم عليها الحد، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت في الرابعة فليبعها ولو بضفير)، والضفير: الحبل، فإن لم يفعل ما أمره به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان عاصيا للّه ورسوله. وكان إصراره على المعصية قادحًا في عدالته، فأما إذا كان هو يرسلها لتبغي وتنفق على نفسها من مهر البغاء، أو يأخذ هو شيئًا من ذلك، فهذا ممن لعنه اللّه ورسوله، وهو فاسق خبيث، آذن في الكبيرة، وآخذ مهر البغي، ولم ينهها عن الفاحشة. ومثل هذا لا يجوز أن يكون معدلًا، بل لا يجوز إقراره بين المسلمين، بل يستحق العقوبة /الغليظة حتى يصون إماءه. وأقل العقوبة أن يهجر فلا يسلم عليه، ولا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة خلف غيره، ولا يستشهد ولا يولى ولاية أصلًا. ومن استحل ذلك فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكان مرتدًا لا ترثه ورثته المسلمون. وإن كان جاهلًا بالتحريم عرف ذلك حتى تقوم عليه الحجة، فإن هذا من المحرمات المجمع عليها.
وسئل ـ رحمه اللّه تعالى ـ عمن حلف لولده أنه إن فعل منكرًا يقيم عليه الحد، فأقر لوالده فضربه مائة جلدة، وبقي تغريب عام، فهل يجوز في تغريب العام كفارة، أم لا؟
فأجاب:
أنه إذا غربه في الحبس ولو في دار الأب يوفي يمينه، وإن كان مطلقا غير مقيد في موضع معين، فإنه لا يجب القيد، ولا جعله في مكان مظلم. واللّه أعلم.
وسئل عمن وجب عليه حد الزنا فتاب قبل أن يحد: فهل يسقط عنه الحد بالتوبة؟
/فأجاب:
إن تاب من الزنا، والسرقة، أو شرب الخمر، قبل أن يرفع إلى الإمام: فالصحيح أن الحد يسقط عنه، كما يسقط من المحاربين بالإجماع إذا تابوا قبل القدرة.
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل أذنب ذنبا يجب عليه حد من الحدود: مثل جلد، أو حصب ثم تاب من ذلك الذنب، وأقلع، واستغفر، ونوي ألا يعود: فهل يجزئه ذلك؟ أو يحتاج مع ذلك إلى أن يأتي إلى ولي الأمر ويعرفه بذنبه ليقيم عليه الحد، أم لا؟ وهل ستره على نفسه وتوبته أفضل، أم لا؟
فأجاب:
إذا تاب توبة صحيحة تاب اللّه عليه من غير حاجة إلى أن يقر بذنبه حتى يقام عليه الحد، وفي الحديث: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر اللّه، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه). وفي الأثر أيضا: من أذنب سرًا فليتب سرًا، ومن أذنب علانية فليتب علانية. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} الآية [آل عمران: 135].
وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن إثم المعصية، وحد الزنا: هل تزاد في الأيام المباركة، أم لا؟
فأجاب:
نعم، المعاصي في الأيام المفضلة والأمكنة المفضلة تغلظ، وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان.
/ وسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن امرأة قوادة تجمع الرجال والنساء، وقد ضربت، وحبست، ثم عادت تفعل ذلك، وقد لحق الجيران الضرر بها: فهل لولي الأمر نقلها من بينهم، أم لا؟
فأجاب:
نعم، لولي الأمر كصاحب الشرطة أن يصرف ضررها بما يراه مصلحة: إما بحبسها، وإما بنقلها عن الحرائر، وإما بغير ذلك مما يري فيه المصلحة، وقد كان عمر بن الخطاب يأمر العزاب ألا تسكن بين المتأهلين، وألايسكن المتأهل بين العزاب، وهكذا فعل المهاجرون لما قدموا المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونفوا شابا خافوا الفتنة به من المدينة إلى البصرة، وثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفي المخنثين وأمر بنفيهم من البيوت خشية أن يفسدوا النساء. فالقوادة شر من هؤلاء، واللّه يعذبها مع أصحابها.
وسئل عن الفاعل، والمفعول به بعد إدراكهما ما يجب عليهما؟ وما يطهرهما؟ وما ينويان عند الطهارة؟
/فأجاب:
أما الفاعل والمفعول به فيجب قتلهما رجما بالحجارة، سواءكانا محصنين أو غير محصنين، لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اتفقوا على قتلهما. وعليهما الاغتسال من الجنابة، وترتفع الجنابة من الاغتسال، لكن لا يطهران من نجاسة الذنب إلا بالتوبة، وهذا معني ما روي أنهما لو اغتسلا بالماء ينويان رفع الجنابة واستباحة الصلاة. . . .
وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن قوله في التهذيب: من أتي بهيمة فاقتلوا المفعول، واقتلوا الفاعل بها: فهل يجب ذلك، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، هذا فيه حديث، رواه أبو داود في السنن، وهو قوله: (من أتي بهيمة فاقتلوه، واقتلوها)، وهو أحد قولي العلماء، كأحد القولين في مذهب أحمد، ومذهب الشافعي.
/ باب حَد القَذف
وسئل شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ اللّه ـ عمن قذف رجلا لأنه ينظر إلى حريم الناس، وهو كاذب عليه، فما يجب على القاذف؟
الجواب
إذا كان الأمر على ما ذكر، فإنه يعزر على افترائه على هذا الشخص بما يزجره وأمثاله، إذا طلب المقذوف ذلك.
وسئل ـ رَحِمهُ اللّه تعالى ـ عن رجل تزوج امرأة من أهل الخير وله مطلقة، وشرط إن رد مطلقته كان الصداق حالًا، ثم إنه رد المطلقة، وقذف هو ومطلقته عرض الزوجة، ورموها بالزنا، بأنها كانت حاملًا من الزنا، وطلقها بعد دخوله بها، فما الذي يجب عليهما؟ وهل يقبل قولهما؟ وهل يسقط الصداق، أم لا؟
/فأجاب
الحمد لله رب العالمين، أما مطلقته فتحد على قذفها ثمانين جلدة إذا طلبت ذلك المرأة المقذوفة، ولا تقبل لها شهادة أبدًا؛ لأنها فاسقة. وكذلك الرجل عليه ثمانون جلدة إذا طلبت المرأة ذلك، ولاتقبل له شهادة أبدًا، وهو فاسق إذا لم يتب.
وهل له إسقاط الحد باللعان؟ فيه للفقهاء ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يلاعن. وقيل: لا يلاعن. وقيل: إن كان ثم ولد يريد نفيه لاعن، وإلا فلا. وصداقها باق عليها لا يسقط باللعان، كما سن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كله باتفاق الأئمة، إلا ما ذكرناه من جواز اللعان ففيه الأقوال الثلاثة: أحدها: لا يلاعن، بل يحد حد القذف، وتسقط شهادته، وهذا مذهب أحمد في أشهر الروايات عنه، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي. والثاني: يلاعن، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في رواية عنه. والثالث: إن كان هناك حمل لاعن، لنفيه، وإلا فلا. وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد. والله أعلم.