وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل له ولد كبير، فسافر مع كرائم أمواله في البحرالمالح، وله آخر مراهق من أم أخرى مطلقة منه، ولها أب وأم، والولد عندهم مقيم، فأراد والده أخذه وتسفيره صحبة أخيه بغير رضا الوالدة، وغير رضا الولد، فهل له ذلك؟
فأجاب:
يخير الولد بين أبويه، فإن اختار المقام عند أمه وهي غير مزوجة كان عندها ولم يكن للأب تسفيره، لكن يكون عند أبيه نهارا ليعلمه ويؤدبه وعند أمه ليلاً. وإن اختار أن يكون عند الأب كان عنده. وإذا كان عند الأب ورأي من المصلحة له تسفيره ولم يكن في ذلك ضرر على الولد فله ذلك. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل تزوج بامرأة، ومعها بنت، وتوفيت الزوجة، وبقيت البنت عنده رباها، وقد تعرض بعض الجند لأخذها: فهل يجوز ذلك؟
الجواب:
ليس للجند عليها ولاية بمجرد ذلك، فإذا لم يكن لها من يستحق الحضانة بالنسب فمن كان أصلح لها حضنها، وزوج أمها محرم لها. وأما الجند فليس محرمًا لها، فإذا كان يحضنها حضانة تصلحها لم تنقل من عنده لأجنبي لا يحل له النظر إليها، والخلوة بها.
/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
فصل
إذا كان الابن في حضانة أمه، فأنفقت عليه تنوي بذلك الرجوع على الأب، فلها أن ترجع على الأب في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد في ظاهر مذهبه، الذي عليه قدماء أصحابه، فإن من أصلهما أن من أدي عن غيره واجبًا رجع عليه، وإن فعله بغير إذن، مثل أن يقضي دينه، أو ينفق على عبده، أو يخشي أن يقتله العدو، وقد قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع، ولم يشترط عقدًا ولا إذنا. فإن تبرعت بذلك لم يكن لها أن ترجع. فإذا شرط عليها أنها إن سافرت بالبنت لم يكن لها نفقة ورضيت بذلك فسافرت بها لم يكن لها نفقة، ولو نوت الرجوع؛ لأنها ظالمة متعدية بالسفر به؛ فإنه ليس لها أن تسافر به بغير إذن أبيه، وهو لم يأذن لها في السفر إلا إذا كانت متبرعة بالنفقة، فمتى سافرت وطلبت الرجوع بالنفقة لم يكن لها ذلك. والله أعلم.
/ كتاب الجنايات
سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن القصاص.
فأجاب:
القصاص ثابت بين المسلمين باتفاق الأمة، يقتص لله اشمي المسلم من الحبشي المسلم، وللحبشي المسلم من الهاشمي المسلم: في الدماء، والأموال، والأعراض، وغير ذلك. بحيث يجوز القصاص في الأعراض يجوز للرجل أن يقتص. فإذا قال له الهاشمي: يا كلب، قال له: يا كلب! وإذا قال: لعنك الله، قال له: لعنك الله. ويجوز ذلك. وهذا من معني قوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عليهم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ اليمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشوري: 41:43].
ولو كذب عليه لم يكن له أن يكذب عليه. وكذلك من سب أبا رجل فليس له أن يسب أباه، سواء كان هاشميا أو غير هاشمي، فإن أبا الساب /لم يظلمه، وإنما ظلمه الساب {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ولكن إن سب مسلم أبا مسلم فإنه يعزر على ذلك. فالهاشمي إذا سب أبا مسلم عزر الهاشمي على ذلك.
ومن سب أبا هاشمي عزر على ذلك، ولا يجعل ذلك سبًا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولو سب أباه وجده لم يحمل على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن اللفظ ليس ظاهرًا في ذلك، إذ الجد المطلق: هو أبو الأب. وإذا سمي العبد جدًا فأجداده كثيرة، فلا يتعين واحد، وسب النبي صلى الله عليه وسلم كفر يوجب القتل، فلا يزول الإيمان المتعين بالشك، ولا يباح الدم المعصوم بالشك، لا سيما والغالب من حال المسلم هو أن لا يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا لفظه ولا حاله يقتضي ذلك، ولا يقبل عليه قول من ادعي أنه قصد الرسول صلى الله عليه وسلم بلا حجة. والله أعلم.
وسئل شيخ الإسلام عن حكم قتل المتعمد، وما هو: هل إن قتله على مال، أو حقد، أو على أي شيء يكون قتل المتعمد؟ وقال قائل: إن كان قتل على مال فما هو هذا أو على حقد، أو على دين، فما هو متعمد. فقال القائل: فالمتعمد قال: إذا قتله على دين الإسلام لا يكون مسلمًا.
/فأجاب:
الحمد لله أما إذا قتله على دين الإسلام ـ مثل ما يقاتل النصراني المسلمين على دينهم ـ فهذا كافر شر من الكافر المعاهد، فإن هذا كافر محارب بمنزلة الكفار الذين يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهؤلاء مخلدون في جهنم، كتخليد غيرهم من الكفار.
وأما إذا قتله قتلاً محرمًا؛ لعداوة، أو مال، أو خصومة، ونحو ذلك فهذا من الكبائر، ولا يكفر بمجرد ذلك عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفر بمثل هذا الخوارج، ولا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد عند أهل السنة والجماعة، خلافًا للمعتزلة الذين يقولون بتخليد فساق الملة. وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عليه وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وجوابهم: على أنها محمولة على المتعمد لقتله على إيمانه، وأكثر الناس لم يحملوها على هذا، بل قالوا: هذا وعيد مطلق قد فسره قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]، وفي ذلك حكاية عن بعض أهل السنة أنه كان في مجلس فيه عمرو بن عبيد ـ شيخ المعتزلة ـ فقال عمرو: يؤتي بي يوم القيامة فيقال لي: يا عمرو، من أين قلت: إني لا أغفر لقاتل؟ فأقول: أنت يارب قلت: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]. قال: فقلت له: فإن قال لك: فإني قلت: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ فسكت عمرو بن عبيد!!
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن القاتل عمدًا، أو خطأ: هل تدفع الكفارة المذكورة في القرآن {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] أو يطالب بدية القاتل؟
فأجاب:
قتل الخطأ لا يجب فيه إلا الدية والكفارة، ولا إثم فيه. وأما القاتل عمدًا فعليه الإثم، فإذا عفي عنه أولياء المقتول، أو أخذوا الدية، لم يسقط بذلك حق المقتول في الآخرة. وإذا قتلوه ففيه نزاع في مذهب أحمد. والأظهر ألا يسقط، لكن القاتل إذا كثرت حسناته أخذ منه بعضها ما يرضي به المقتول، أو يعوضه الله من عنده إذا تاب القاتل توبة نصوحا.
وقاتل الخطأ تجب عليه الدية بنص القرآن واتفاق الأمة، والدية تجب للمسلم والمعاهد، كما قد دل عليه القرآن، وهو قول السلف والأئمة، ولا يعرف فيه خلاف متقدم، لكن بعض متأخرى الظاهرية زعم أنه الذي لا دية له.
/وأما القاتل عمدًا ففيه القود، فإن اصطلحوا على الدية جاز ذلك بالنص والإجماع، فكانت الدية من مال القاتل، بخلاف الخطأ فإن ديته على عاقلته.
وأما الكفارة فجمهور العلماء يقولون: قتل العمد أعظم من أن يكفر، وكذلك قالوا في اليمين الغموس. هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، كما اتفقوا كلهم على أن الزنا أعظم من أن يكفر فإنما وجبت الكفارة بوطء المظاهر، والوطء في رمضان. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى، بل تجب الكفارة في العمد، واليمين الغموس. واتفقوا على أن الإثم لا يسقط بمجرد الكفارة.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن جماعة اشتركوا في قتل رجل، وله ورثة صغار وكبار، فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم، أم لا؟ وإذا وافق ولي الصغار ـ الحاكم أو غيره ـ على القتل مع الكبار، فهل يقتلون، أم لا؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتله وجب القود على جميعهم باتفاق الأئمة الأربعة، وللورثة أن يقتلـوا، ولهم أن يعفوا. فإذا اتفق الكبار من الورثة على /قتلهم فلهم ذلك عند أكثر العلماء ـ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين ـ وكذا إذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار فيقتلون.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن الإنسان يقتل مؤمنًا متعمدًا أو خطأ، وأخذ منه القصاص في الدنيا أولياء المقتول والسلطان، فهل عليه القصاص في الآخرة، أم لا؟ وقد قال تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45].
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما القاتل خطأ فلا يؤخذ منه قصاص، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، لكن الواجب في ذلك الكفارة، ودية مسلمة إلى أهل القتيل، إلا أن يصدقوا. وأما القاتل عمدًا إذا اقتص منه في الدنيا: فهل للمقتول أن يستوفي حقه في الآخرة؟ فيه قولان في مذهب أحمد، وكذلك غيره فيما أظن من يقول: لا حق له عليه؛ لأن الذي عليه استوفي منه في الدنيا. ومنهم من يقول: بل عليه حق، فإن حقه لم يسقط بقتل الورثة، كما لم يسقط حق الله بذلك، وكما لا يسقط حق المظلوم الذي غصب ماله وأعيد إلى ورثته، بل له أن يطالب الظالم بما حرمه من الانتفاع به في حياته. والله أعلم.
/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل قتل رجلاً عمدًا، وللمقتول بنت عمرها خمس سنين، وزوجته حامل منه، وأبناء عم: فهل يجوز أن يقتص منه قبل بلوغ البنت ووضع الحمل، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس لسائر الورثة قبل وضع الحمل أن يقتصوا منه، إلا عند مالك، فإن عنده للعصبة أن يقتصوا منه قبل ذلك. أما إن وضعت بنتًا أو بنتين بحيث يكون لابني العم نصيب من التركة، كان للعصبة أن يقتصوا قبل بلوغ البنات عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، ولم يجز لهن القصاص في المشهور عنه، وهو قول الشافعي.
وهل لولي البنات كالحاكم أن يقوم مقامهن في الاستيفاء والصلح على مال؟ روايتان عن أحمد. إحداهما: وهو قول جمهور العلماء جواز ذلك. والثانية: لا يجوز القصاص، كقول الشافعي، لكن إذا كانت البنات محاويج هل لوليهن المصالحة على مال لهن؟ فيه خلاف مشهور في مذهب الشافعي.
/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل قتله جماعة وكان اثنان حاضران قتله، واتفق الجماعة على قتله، وقاضي الناحية عاين الضرب فيه ونواب الولاية؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا قامت البينة على من ضربه حتى مات واحدًا كان أو أكثر؛ فإن لأولياء الدم أن يقتلوهم كلهم، ولهم أن يقتلوا بعضهم. وإن لم تعلم عين القاتل فلأولياء المقتول أن يحلفوا على واحد بعينه أنه قتله ويحكم لهم بالدم. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن جماعة اجتمعوا وتحالفوا على قتل رجل مسلم، وقد أخذوا معهم جماعة أخرى ما حضروا تحليفهم، وتقدموا إلى الشخص وضربوه بالسيف، والدبابيس، ورموه في البحر: فهل القصاص عليهم جميعهم، أم لا؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتل معصوم بحيث أنهم جميعهم باشروا قتله وجب القود عليهم جميعهم؛ وإن كان بعضهم قد باشر وبعضهم قائم يحرس /المباشر، ويعاونه، ففيها قولان: أحدهما: لا يجب القود إلا على المباشر، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، بحيث أنه لابد في فعل كل شخص من أن يكون صالحًا للزهوق. والثاني: يجب على الجميع، وهو قول مالك. وإن كان قتله لغرض خاص ـ مثل أن يكون بينهم عداوة، أو خصومة، أو يكرهونه على فعل لا يبيح قتله ـ فهنا القود لوارثه: إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية. وإن كان الوارث صغيرًا لم يبلغ فلمن له الولاية عليه، وإن لم يكن له ولي فالسلطان وليه، والحاكم نائبه في أحد القولين للعلماء كمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين. وفي القول الثاني لا حتى يبلغ، وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.
وسئل ـ رحمه الله ـ عمن اتفق على قتله أولاده، وجواره، ورجل أجنبي: فما حكم الله فيهم؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتله جاز قتلهم جميعهم، والأمر في ذلك ليس للمشاركين في قتله، بل لغيرهم من ورثته، فإن كان له أخوة كانوا هم أولياءه، وكانوا ـ أيضًا ـ هم الوارثين لماله، فإن القاتل لا يرث المقتول. وليس للسلطان حق لا في دمه، ولا في ماله، بل الإخوة لهم الخيار؛ إن شاؤوا قتلـوا جميـع المشتركين في قتلـه البالـغ منهم، وإن شاؤوا قتلـوا بعضهم. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة. وأما المباشرون لقتله فيجوز قتلهم باتفاق الأئمة.
/وأما الذين أعانوا بمثل إدخال الرجل إلى البيت، وحفظ الأبواب، ونحو ذلك، ففي قتلهم قولان للعلماء، ويجـوز قتلهم في مـذهب مالك وغـيره. والممسك يقتـل في مـذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهما، ولا ميراث لهما. وإن كان الصغار من أولاده أعانوا ـ أيضًا ـ على قتله لم يكن دمه إليهم، ولا إلى وليهم، بل إلى الأخوة. وأما ميراثهم من ماله ففيه نزاع. والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد أنهم لا يرثون من ماله، والصغار يعاقبون بالتأديب ولا يقتلون، ومذهب أبي حنيفة ومالك: الصغار يرثون من ماله. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجلين تضاربا وتخانقا، فوقع أحدهما فمات، فما يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا خنقه الخنق الذي يموت به المرء غالبًا وجب القود عليه عند جمهور العلماء ـ كمالك، والشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة ـ ولو ادعي أن هذا لا يقتل غالبًا لم يقبل منه بغير حجة. فأما إن كان أحدهما قد غشي عليه بعد الخنق، ورفسه الآخر برجله حتى خرج من فمه شيء فمات، فهذا يجب عليه القود بلا ريب، فإن هذا قاتل نفسًا عمدًا، فيجب عليه القود، إذا كان المقتول يكافؤه بأن يكون حرًا مسلمًا، فيسلم إلى ورثة المقتول إن شاؤوا أن يقتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه، وإن شاؤوا أخذوا الدية.
/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجلين تخاصما وتقابضا، فقام واحد ونطح الآخر في أنفه، فجري دمه، فقام الذي جري دمه خنقه ورفسه برجله في مخاصيه فوقع ميتًا؟
فأجاب:
يجب القود على الخانق الذي رفس الآخر في أنثييه، فإن مثل هذا الفعل قد يقتل غالبًا، فإن موته بهذا الفعل دليل على أنه فعل به ما يقتل غالبًا، والفعل الذي يقتل غالبًا يجب به القود في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة، مثل ما لو ضربه في أنثييه حتى مات فيجب القود، ولو خنقه حتى مات وجب القود، فكيف إذا اجتمعا؟ ! وولي المقتول مخير إن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا عنه، وليس لولي الأمر أن يأخذ من القاتل شيئا لنفسه ولا لبيت المال، وإنما الحق في ذلك لأولياء المقتول.
وسئل ـ رحمه الله ـ عمن ضرب رجلاً ضربة فمكث زمانًا ثم مات، والمدة التي مكث فيها كان ضعيفًا من الضربة: مالذي يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا ضربه عدوانا فهذا شبه عمد فيه دية مغلظة، ولا قود فيه، وهذا إن لم يكن موته من الضربة. والله أعلم.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل يهودي قتله مسلم، فهل يقتل به، أو ماذا يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله، لا قصاص عليه عند أئمة المسلمين، ولا يجوز قتل الذمي بغير حق، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقتل مسلم بكافر)، ولكن تجب عليه الدية. فقيل: الدية الواجبة نصف دية المسلم. وقيل: ثلث ديته. وقيل: يفرق بين العمد والخطأ، فيجب في العمد مثل دية المسلم، ويروي ذلك عن عثمان بن عفان: أن مسلمًا قتل ذميا فغلظ عليه، وأوجب عليه كمال الدية. وفي الخطأ نصف الدية، ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جعل دية الذمي نصف دية المسلم. وعلى كل حال تجب كفارة القتل أيضًا وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن طائفة تسمي العشيرة قيس ويمن، يكثر القتل بينهم، ولا يبالون به، وإذا طلب منهم القاتل أحضروا شخصًا غير القاتل يتفقون معه على أن يعترف /بالقتل عند ولي الأمر، فإذا اعترف جهزوا إلى المتولي من يدعي أنه من قرابة المقتول، ويقول: أنا قد أبريت هذا القاتل مما استحقه عليه، ويجعلون ذلك ذريعة إلى سفك الدماء، وإقامة الفتن، فإذا رأي ولي الأمر وضع دية المقتول الذي لا يعرف قاتله من الطوائف الذين أثبت أسمائهم في الديوان على جميع الطوائف منهم له ذلك أم لا، أو رأي وضع ذلك على أهل محلة القاتل، كما نقل عن بعض الأئمة ـ رضي الله عنهم ـ أو رأي تعزير هؤلاء العشير عند إظهارهم الفتن وسفك الدماء والفساد بوضع مال عليهم يؤخذ منهم، ليكف نفوسهم العادية عن ذلك كله: فهل له ذلك أم لا؟ وهل يثاب على ذلك؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب ـ أيده الله:
الحمد لله، أما إذا عرف القاتل فلا توضع الدية على أهل مكان المقتول باتفاق الأئمة. وأما إذا لم يعرف قاتله لا بينة ولا إقرار، ففي مثل هذا تشرع القسامة. فإذا كان هناك لوث حلف المدعون خمسين يمينًا عند الجمهور ـ مالك، والشافعي، وأحمد ـ كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة القتيل الذي وجد بخيبر، فإن لم يحلفوا حلف المدعي عليه، ومذهب أبي حنيفة يحلف المدعي عليهم أولاً، فإن مذهبه أن اليمين لا تكون إلا في جانب المدعي عليه، والجمهور يقولون هي في جنب أقوي المتداعيين.
فأما إذا عرف القاتل فإن كان قتله لأخذ مال فهو محارب يقتله الإمام حدًا وليس لأحد أن يعفو عنه، لا أولياء المقتول، ولا غيرهم. وإن قتل لأمر خاص، فهذا أمره إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا عفوا عنه، وللإمام في مذهب /مالك أن يجلده مائة، ويحبسه سنة، فهذا التعزير يحصل المقصود. وعلى هذا، فإذا كان أولياء المقتول قد رضوا بقتل صاحبهم فلا أرغم الله إلا بآنافهم. وإذا قيل: توضع الدية في بعض الصور على أهل المكان مع القسامة فالدية لورثة المقتول، لا لبيت المال، ولم يقل أحد من الأئمة أن دية المقتول لبيت المال. وكذلك لا توضع الدية بدون قسامة باتفاق الأئمة. وهؤلاء المعروفون بالفتن والفساد لولي الأمر أن يمسك منهم من عرف بذلك فيحبسه، وله أن ينقله إلى أرض أخرى ليكف بذلك عدوانه، وله أن يعزر ـ أيضًا ـ من ظهر منه الشر ليكف به شره وعدوانه، ففي العقوبات الجارية على سنن العدل والشرع ما يعصم الدماء والأموال، ويغني ولاة الأمور عن وضع جبايات تفسد العباد والبلاد. ومن اتهم بقتل وكان معروفًا بالفجور فلولي الأمر عند طائفة من العلماء أن يعاقبه تعزيرًا على فجوره، وتعزيرًا له، وبهذا وأمثاله يحصل مقصود السياسة العادلة. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عمن قال: أنا ضاربه، والله قاتله.
فأجاب:
الحمد لله، هذا يؤاخذ بإقراره، ويجب عليه ما يجب على القاتل. وأما قوله: والله قاتله، إن أراد به أن الله قابض روحه، أو أن الله هو المميت كل أحد، وهو خالق أفعال العباد، ونحو ذلك، فهذا لا يندفع عنه موجب القتل بذلك، بل يجب عليه ما يجب على القاتل.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل راكب فرس، مر به دباب ومعه دب، فجفل الفرس ورمي راكبه، ثم هرب ورمي رجلاً فمات؟
فأجاب:
لا ضمان على صاحب الفرس والحالة هذه، لكن الدباب عليه العقوبة. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل أخذ له مال فاتهم به رجلاً من أهل التهم ذكر ذلك عنده فضربه على تقريره فأقر، ثم أنكر، فضربه حتى مات، فما عليه؟ ولم يضربه إلا لأجل ما أخبر عنه بذلك.
فأجاب:
عليه أن يعتق رقبة مؤمنة كفارة، وتجب دية هذا المقتول، إلا أن يصالح ورثته على أقل من ذلك، ولو كان قد فعل به فعلاً يقتل غالبًا بلا حق ولا شبهة لوجب القود، ولو كان بحق لم يجب شيء. والله أعلم.
/ وسئل ـ قدس الله روحه ـ عن رجل جندي وله أقطاع في بلد الريع، وقال: في البلد قتيل، فقالوا: إن الفلاح النصراني الذي هو من الريع هو القاتل، فطلب القاتل إلى ولاة الأمور فلم يوجد، ومسكوا أخا النصراني المتهوم وهو في السجن، ومع ذلك يتطلبون الجندي بإحضار النصراني ولم يكن ضامنًا؟
فأجاب:
إذا كان الجندي لا يعلم حال المتهم ولا هو ضامن له، لم تجز مطالبته لكن إذا كان مطلوبًا بحق وهو يعرف مكانه دل عليه، فإن قال: أنه لا يعرف مكانه فالقول قوله.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل عثر على سبعة أنفس، فحصل بينهم خصومة، فقاموا بأجمعهم ضربوه بحضرة رجلين لا يقربا لهؤلاء ولا لهؤلاء، وعايناه إلى أن مات من ضربهم، فما يلزم السبعة الذين يساعدون على قتله؟
/فأجاب:
إذا شهد لأولياء المقتول شاهدان، ولم يثبت عدالتهما، فهذا لوث إذا حلف معه المدعون خمسين يمينًا ـ أيمان القسامه ـ على واحد بعينه حكم لهم بالدم؛ وإن أقسموا على أكثر من واحد ففي القود نزاع. وأما إن ادعوا أن القتل كان خطأ أو شبه عمد مثل أن يضربوه بعصا ضربًا لا يقتل مثله غالبًا، فهنا إذا ادعوا على الجماعة أنهم اشتركوا في ذلك فدعواهم مقبولة، ويستحقون الدية.
وسئل ـ رحمه الله ـ عما إذا قال المضروب: ما قاتلي إلا فلان: فهل يقبل قوله، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، لا يؤخذ بمجرد قوله بلا نزاع، ولكن هل يكون قوله لوثا يحلف معه أولياء المقتول خمسين يمينًا ويستحقون دم المحلوف عليه؟ على قولين مذكورين للعلماء: أحدهما: أنه ليس بلوث، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة. والثاني: أنه لوث، وهو قول مالك.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجلين شربا، وكان معهما رجل آخر، فلما أرادوا أن يرجعوا إلى بيوتهم تكلما فضرب واحد صاحبه ضربة بالدبوس، فوقع عن فرسه، فوقف /عنده ذلك الرجل الذي معهما حتى ركب فرسه وجاء معه إلى منزله، ولم يقف عنده، فوقع عن فرسه ثانية، ثم إنه أصبح ميتًا، فسأل رجل من أصحاب الميت ذلك الرجل خفية، ولم يعلمه بموته، فذكر له قضيتهما، فشهد عليه الشهود بأن فلانًا ضربه ولم يسمع الشهود من الميت، وأن المتهوم لم يظهر نفسه خوف العقوبة، لكي لا يقر على نفسه، وللميت بنت ترضع، وأخوة.
فأجاب:
إن كان الذي شرب الخمر يعلم ما يقول فهذا إذا قتل فهو قاتل يجب عليه القود وعقوبة قاتل النفس باتفاق العلماء. وأما إن كان قد سكر بحيث لا يعلم ما يقول، أو أكثر من ذلك، وقتل: فهل يجب عليه القود، ويسلم إلى أولياء المقتول ليقتلوه إن شاؤوا؟ هذا فيه قولان للعلماء، وفيه روايتان عن أحمد، لكن أكثر الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وكثير من أصحاب أحمد يوجبون عليه القود، كما يوجبونه على الصاحي، فإن لم يشهد بالقتل إلا واحد لم يحكم به إلا أن يحلف مع ذلك أولياء المقتول خمسين يمينًا، وهذا إذا مات بضربه، وكان ضربه عدوانًا محضًا، فأما إن مات مع ضرب الآخر، ففي القود نزاع، وكذلك إن ضربه دفعا لعدوانه عليه، أو ضربه مثل ما ضربه، سواء مات بسبب آخر أو غيره. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل واعد آخر على قتل مسلم بمال معين، ثم قتله؛ فما يجب عليه في الشرع؟
/فأجاب:
نعم إذا قتله الموعود والحالة هذه وجب القود، وأولياء المقتول بالخيار: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية، وإن أحبوا عفوا. وأما الواعد فيجب أن يعاقب عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا. وعند بعضهم يجب عليه القود.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن القاتل ولده عمدًا لمن ديته؟
فأجاب:
وأما الوارث كالأب وغيره إذا قتل مورثه عمدًا فإنه لا يرث شيئا من ماله، ولا ديته باتفاق الأئمة، بل تكون ديته كسائر ماله يحرمها القاتل أبا كان أو غيره، ويرثها سائر الورثة غير القاتل.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل تخاصم مع شخص، فراح إلى بيته، فحصل له ضعف، فلما قارب الوفاة أشهد على نفسه أن قاتله فلان، فقيل له: كيف قتلك؟ فلم يذكر شيئا. فهل يلزمه شيء، أم لا؟ وليس بهذا المريض أثر قتل ولا ضرب أصلاً وقد شهد خلق من العدول أنه لم يضربه، ولا فعل به شيئا؟
/فأجاب:
أما بمجرد هذا القول فلا يلزمه شيء بإجماع المسلمين، بل إنما يجب على المدعي عليه اليمين بنفي ما ادعي عليه، إما يمين واحدة عند أكثر العلماء ـ كأبي حنيفة، وأحمد ـ وإما خمسون يمينا ـ كقول الشافعي. والعلماء قد تنازعوا في الرجل إذا كان به أثر القتل ـ كجرح أو أثر ضرب ـ فقال: فلان ضربني عمدًا: هل يكون ذلك لوثا؟ فقال أكثرهم ـ كأبي حنيفة والشافعي وأحمد ـ: ليس بلوث، وقال مالك: هو لوث، فإذا حلف أولياء الدم خمسين يمينًا حكم به. ولو كان القتل خطأ فلا قسامة فيه في أصح الروايتين عن مالك. وهذه الصورة قيل: لم تكن خطأ، فكيف وليس به أثر قتل، وقد شهد الناس بما شهدوا به، فهذه الصورة ليس فيها قسامة بلا ريب على مذهب الأئمة.
وسئل عمن اتهم بقتيل: فهل يضرب ليقر، أم لا؟
فأجاب:
إن كان هناك لوث وهو ما يغلب على الظن أنه قتله جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقون دمه، وأما ضربه ليقر فلا يجوز إلا مع القرائن التي تدل على أنه قتله، فإن بعض العلماء جوز تقريره بالضرب في هذه الحال، وبعضهم منع من ذلك مطلقًا.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن أهل قريتين بينهما عداوة في الاعتقاد. وخاصم رجل آخر في غنم ضاعت له، وقال: ما يكون عوض هذا إلا رقبتك. ثم وجد هذا مقتولاً، وأثر الدم أقرب إلى القرية التي منها المتهم، وذكر رجل له قتله؟
فأجاب:
إذا حلف أولياء المقتول خمسين يمينًا أن ذلك المخاصم هو الذي قتله حكم لهم بدمه، وبراءة من سواه، فإنما بينهما من العداوة والخصومة والوعيد بالقتل وأثر الدم وغير ذلك لوث وقرينة وأمارة على أن هذا المتهم هو الذي قتله، فإذا حلفوا مع ذلك أيمان القسامة الشرعية استحقوا دم المتهم، وسلم إليهم برمته، كما قضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الذي قتل بخيبر ولم يجب على أهل البقعة جناية، لا في العادة السلطانية، ولا في حكم الشريعة.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن شخصين أتهما بقتيل، فأمسكا، وعوقبا العقوبة المؤلمة، فأقر أحدهما على نفسه وعلى رفيقه، ولم يقر الآخر، ولا اعترف بشيء: فهل يقبل قوله، أم لا؟
/فأجاب:
إن شهد شاهد مقبول على شخص أنه قتله كان لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقوا الدم. وكذلك إن كان هناك لوث يغلب على الظن الصدق، وإلا حلف المدعى عليه ولا يؤاخذ بلا حجة.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عمن اتهموا بقتيل فضربوهم، واعترف واحد منهم بالعقوبة: فهل يسري على الباقي؟
فأجاب:
الحمد لله، إن أقر واحد عدل أنه قتله كان لوثا، فلأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينًا، ويستحقوا به الدم. وأما إذا أقر مكرهًا، ولم يتبين صدق إقراره، فهنا لا يترتب عليه حكم، ولا يؤخذ هو به ولا غيره. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن سفارة جاءتهم حرامية فقاتلوهم، فقتل الحرامية من السفارة رجلاً، ثم إن ابن عم المقتول اتبع الحرامية هو وناس من قومه، فلحقهم، وقبضهم وسأل عن القاتل، فعين الحرامية شخصًا منهم، وقالوا: هذا قتل ابن عمك، فقتله، ثم بعد ذلك طلع القاتل أخا ذلك الشخص الذي عينه الحرامية.
/فأجاب:
أما المسافر المقتول ظلمًا فيجب على من قتله من الحرامية القود بشروطه، وأما الشخص الثاني المقتول ظلمًا إذا كان معصومًا فإن كان الدال عليه متعمدًا الكذب فعليه القود، وإن كان مخطئًا وجبت الدية على عاقلته إن كان له عاقلة، وإلا فعليه. وأما قاتله فإن لم يتعمد قتله، بل أخطأ فيه، فللورثة أن يطالبوا بالدية له، أو لعاقلته؛ لكن إذا ضمن الدية رجع بها على الدال أو عاقلته، فإنه هو الذي يضاف إليه القتل في مثل هذا؛ ولهذا يجب قتله إذا تعمد الكذب، كما يجب القتل على الشهود إذا رجعوا عن الشهادة، وقالوا: تعمدنا الكذب. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل قتل قتيلاً، وله أب وأم، وقد وهبا للقاتل دم ولدهما، وكتبا عليه حجة أنه لا ينزل بلادهم، ولا يسكن فيها، ومتى سكن في البلاد كان دم ولدهما على القاتل، فإذا سكن، فهل يجوز لهم المطالبة بالدم، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا عفوا عنه بهذا الشرط ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازمًا، بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول بعض العلماء، وبالدم في قول آخر. وسواء قيل: هذا الشرط صحيح، أم فاسد. وسواء قيل: يفسد العقد بفساده، أو لا يفسد، فإن ذينك القولين مبنيان على هذه الأصول.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن صبي دون البلوغ جني جناية يجب عليه فيها دية: مثل أن يكسر سنًا، أو يفقأ عينًا، ونحو ذلك، خطأ: فهل لأولياء ذلك أن يأخذوا دية الجناية من أبي الصبي وحده إن كان موسرًا، أم يطلبوها من عم الصبي أو ابن عمه؟
فأجاب:
الحمد لله، أما إذا فعل ذلك خطأ فديته على عاقلته بلا ريب، كالبالغ وأولى. وإن فعل عمدًا فعمده خطأ عند الجمهور، كأبي حنيفة، ومالك وأحمد في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه. وفي القول الآخر عنه، وعن أحمد أن عمده إذا كان غير بالغ في ماله.
وأما العاقلة التي تحمل، فهم عصبته، كالعم وبنيه، والأخوة وبنيهم باتفاق العلماء. وأما أبو الرجل وابنه فهو من عاقلته ـ أيضًا ـ عند الجمهور، كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في أظهر الروايتين عنه. وفي الرواية الأخرى ـ وهو قول الشافعي ـ: أبوه وابنه ليسا من العاقلة.
/والذي تحمله العاقلة بالاتفاق ما كان فوق ثلث الدية: مثل قلع العين فإنه يجب فيه نصف الدية. وأما دون الثلث ـ كدية السن ـ وهو نصف عشر الدية، ودية الأصبع وهي عشر الدية ـ فهذا لا تحمله العاقلة في مذهب مالك وأحمد، بل هو في ماله عند الشافعي. وعند أبي حنيفة: لا تحمل ما دون دية السن والموضحة، وهو المقدر كأرش الشجة التي دون الموضحة. وإذا وجب على الصبي شيء ولم يكن له مال حمله عنه أبوه في إحدى الروايتين عن أحمد، وروي ذلك عن ابن عباس. وفي الرواية الأخرى وهو قول الأكثرين: أنه في ذمته، وليس على أبيه شيء. واللّه أعلم.
فأجاب:
يخير الولد بين أبويه، فإن اختار المقام عند أمه وهي غير مزوجة كان عندها ولم يكن للأب تسفيره، لكن يكون عند أبيه نهارا ليعلمه ويؤدبه وعند أمه ليلاً. وإن اختار أن يكون عند الأب كان عنده. وإذا كان عند الأب ورأي من المصلحة له تسفيره ولم يكن في ذلك ضرر على الولد فله ذلك. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل تزوج بامرأة، ومعها بنت، وتوفيت الزوجة، وبقيت البنت عنده رباها، وقد تعرض بعض الجند لأخذها: فهل يجوز ذلك؟
الجواب:
ليس للجند عليها ولاية بمجرد ذلك، فإذا لم يكن لها من يستحق الحضانة بالنسب فمن كان أصلح لها حضنها، وزوج أمها محرم لها. وأما الجند فليس محرمًا لها، فإذا كان يحضنها حضانة تصلحها لم تنقل من عنده لأجنبي لا يحل له النظر إليها، والخلوة بها.
/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
فصل
إذا كان الابن في حضانة أمه، فأنفقت عليه تنوي بذلك الرجوع على الأب، فلها أن ترجع على الأب في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد في ظاهر مذهبه، الذي عليه قدماء أصحابه، فإن من أصلهما أن من أدي عن غيره واجبًا رجع عليه، وإن فعله بغير إذن، مثل أن يقضي دينه، أو ينفق على عبده، أو يخشي أن يقتله العدو، وقد قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع، ولم يشترط عقدًا ولا إذنا. فإن تبرعت بذلك لم يكن لها أن ترجع. فإذا شرط عليها أنها إن سافرت بالبنت لم يكن لها نفقة ورضيت بذلك فسافرت بها لم يكن لها نفقة، ولو نوت الرجوع؛ لأنها ظالمة متعدية بالسفر به؛ فإنه ليس لها أن تسافر به بغير إذن أبيه، وهو لم يأذن لها في السفر إلا إذا كانت متبرعة بالنفقة، فمتى سافرت وطلبت الرجوع بالنفقة لم يكن لها ذلك. والله أعلم.
/ كتاب الجنايات
سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن القصاص.
فأجاب:
القصاص ثابت بين المسلمين باتفاق الأمة، يقتص لله اشمي المسلم من الحبشي المسلم، وللحبشي المسلم من الهاشمي المسلم: في الدماء، والأموال، والأعراض، وغير ذلك. بحيث يجوز القصاص في الأعراض يجوز للرجل أن يقتص. فإذا قال له الهاشمي: يا كلب، قال له: يا كلب! وإذا قال: لعنك الله، قال له: لعنك الله. ويجوز ذلك. وهذا من معني قوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عليهم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ اليمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشوري: 41:43].
ولو كذب عليه لم يكن له أن يكذب عليه. وكذلك من سب أبا رجل فليس له أن يسب أباه، سواء كان هاشميا أو غير هاشمي، فإن أبا الساب /لم يظلمه، وإنما ظلمه الساب {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ولكن إن سب مسلم أبا مسلم فإنه يعزر على ذلك. فالهاشمي إذا سب أبا مسلم عزر الهاشمي على ذلك.
ومن سب أبا هاشمي عزر على ذلك، ولا يجعل ذلك سبًا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولو سب أباه وجده لم يحمل على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن اللفظ ليس ظاهرًا في ذلك، إذ الجد المطلق: هو أبو الأب. وإذا سمي العبد جدًا فأجداده كثيرة، فلا يتعين واحد، وسب النبي صلى الله عليه وسلم كفر يوجب القتل، فلا يزول الإيمان المتعين بالشك، ولا يباح الدم المعصوم بالشك، لا سيما والغالب من حال المسلم هو أن لا يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا لفظه ولا حاله يقتضي ذلك، ولا يقبل عليه قول من ادعي أنه قصد الرسول صلى الله عليه وسلم بلا حجة. والله أعلم.
وسئل شيخ الإسلام عن حكم قتل المتعمد، وما هو: هل إن قتله على مال، أو حقد، أو على أي شيء يكون قتل المتعمد؟ وقال قائل: إن كان قتل على مال فما هو هذا أو على حقد، أو على دين، فما هو متعمد. فقال القائل: فالمتعمد قال: إذا قتله على دين الإسلام لا يكون مسلمًا.
/فأجاب:
الحمد لله أما إذا قتله على دين الإسلام ـ مثل ما يقاتل النصراني المسلمين على دينهم ـ فهذا كافر شر من الكافر المعاهد، فإن هذا كافر محارب بمنزلة الكفار الذين يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهؤلاء مخلدون في جهنم، كتخليد غيرهم من الكفار.
وأما إذا قتله قتلاً محرمًا؛ لعداوة، أو مال، أو خصومة، ونحو ذلك فهذا من الكبائر، ولا يكفر بمجرد ذلك عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفر بمثل هذا الخوارج، ولا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد عند أهل السنة والجماعة، خلافًا للمعتزلة الذين يقولون بتخليد فساق الملة. وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عليه وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وجوابهم: على أنها محمولة على المتعمد لقتله على إيمانه، وأكثر الناس لم يحملوها على هذا، بل قالوا: هذا وعيد مطلق قد فسره قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]، وفي ذلك حكاية عن بعض أهل السنة أنه كان في مجلس فيه عمرو بن عبيد ـ شيخ المعتزلة ـ فقال عمرو: يؤتي بي يوم القيامة فيقال لي: يا عمرو، من أين قلت: إني لا أغفر لقاتل؟ فأقول: أنت يارب قلت: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]. قال: فقلت له: فإن قال لك: فإني قلت: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ فسكت عمرو بن عبيد!!
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن القاتل عمدًا، أو خطأ: هل تدفع الكفارة المذكورة في القرآن {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] أو يطالب بدية القاتل؟
فأجاب:
قتل الخطأ لا يجب فيه إلا الدية والكفارة، ولا إثم فيه. وأما القاتل عمدًا فعليه الإثم، فإذا عفي عنه أولياء المقتول، أو أخذوا الدية، لم يسقط بذلك حق المقتول في الآخرة. وإذا قتلوه ففيه نزاع في مذهب أحمد. والأظهر ألا يسقط، لكن القاتل إذا كثرت حسناته أخذ منه بعضها ما يرضي به المقتول، أو يعوضه الله من عنده إذا تاب القاتل توبة نصوحا.
وقاتل الخطأ تجب عليه الدية بنص القرآن واتفاق الأمة، والدية تجب للمسلم والمعاهد، كما قد دل عليه القرآن، وهو قول السلف والأئمة، ولا يعرف فيه خلاف متقدم، لكن بعض متأخرى الظاهرية زعم أنه الذي لا دية له.
/وأما القاتل عمدًا ففيه القود، فإن اصطلحوا على الدية جاز ذلك بالنص والإجماع، فكانت الدية من مال القاتل، بخلاف الخطأ فإن ديته على عاقلته.
وأما الكفارة فجمهور العلماء يقولون: قتل العمد أعظم من أن يكفر، وكذلك قالوا في اليمين الغموس. هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، كما اتفقوا كلهم على أن الزنا أعظم من أن يكفر فإنما وجبت الكفارة بوطء المظاهر، والوطء في رمضان. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى، بل تجب الكفارة في العمد، واليمين الغموس. واتفقوا على أن الإثم لا يسقط بمجرد الكفارة.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن جماعة اشتركوا في قتل رجل، وله ورثة صغار وكبار، فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم، أم لا؟ وإذا وافق ولي الصغار ـ الحاكم أو غيره ـ على القتل مع الكبار، فهل يقتلون، أم لا؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتله وجب القود على جميعهم باتفاق الأئمة الأربعة، وللورثة أن يقتلـوا، ولهم أن يعفوا. فإذا اتفق الكبار من الورثة على /قتلهم فلهم ذلك عند أكثر العلماء ـ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين ـ وكذا إذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار فيقتلون.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن الإنسان يقتل مؤمنًا متعمدًا أو خطأ، وأخذ منه القصاص في الدنيا أولياء المقتول والسلطان، فهل عليه القصاص في الآخرة، أم لا؟ وقد قال تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45].
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما القاتل خطأ فلا يؤخذ منه قصاص، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، لكن الواجب في ذلك الكفارة، ودية مسلمة إلى أهل القتيل، إلا أن يصدقوا. وأما القاتل عمدًا إذا اقتص منه في الدنيا: فهل للمقتول أن يستوفي حقه في الآخرة؟ فيه قولان في مذهب أحمد، وكذلك غيره فيما أظن من يقول: لا حق له عليه؛ لأن الذي عليه استوفي منه في الدنيا. ومنهم من يقول: بل عليه حق، فإن حقه لم يسقط بقتل الورثة، كما لم يسقط حق الله بذلك، وكما لا يسقط حق المظلوم الذي غصب ماله وأعيد إلى ورثته، بل له أن يطالب الظالم بما حرمه من الانتفاع به في حياته. والله أعلم.
/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل قتل رجلاً عمدًا، وللمقتول بنت عمرها خمس سنين، وزوجته حامل منه، وأبناء عم: فهل يجوز أن يقتص منه قبل بلوغ البنت ووضع الحمل، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس لسائر الورثة قبل وضع الحمل أن يقتصوا منه، إلا عند مالك، فإن عنده للعصبة أن يقتصوا منه قبل ذلك. أما إن وضعت بنتًا أو بنتين بحيث يكون لابني العم نصيب من التركة، كان للعصبة أن يقتصوا قبل بلوغ البنات عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، ولم يجز لهن القصاص في المشهور عنه، وهو قول الشافعي.
وهل لولي البنات كالحاكم أن يقوم مقامهن في الاستيفاء والصلح على مال؟ روايتان عن أحمد. إحداهما: وهو قول جمهور العلماء جواز ذلك. والثانية: لا يجوز القصاص، كقول الشافعي، لكن إذا كانت البنات محاويج هل لوليهن المصالحة على مال لهن؟ فيه خلاف مشهور في مذهب الشافعي.
/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل قتله جماعة وكان اثنان حاضران قتله، واتفق الجماعة على قتله، وقاضي الناحية عاين الضرب فيه ونواب الولاية؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا قامت البينة على من ضربه حتى مات واحدًا كان أو أكثر؛ فإن لأولياء الدم أن يقتلوهم كلهم، ولهم أن يقتلوا بعضهم. وإن لم تعلم عين القاتل فلأولياء المقتول أن يحلفوا على واحد بعينه أنه قتله ويحكم لهم بالدم. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن جماعة اجتمعوا وتحالفوا على قتل رجل مسلم، وقد أخذوا معهم جماعة أخرى ما حضروا تحليفهم، وتقدموا إلى الشخص وضربوه بالسيف، والدبابيس، ورموه في البحر: فهل القصاص عليهم جميعهم، أم لا؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتل معصوم بحيث أنهم جميعهم باشروا قتله وجب القود عليهم جميعهم؛ وإن كان بعضهم قد باشر وبعضهم قائم يحرس /المباشر، ويعاونه، ففيها قولان: أحدهما: لا يجب القود إلا على المباشر، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، بحيث أنه لابد في فعل كل شخص من أن يكون صالحًا للزهوق. والثاني: يجب على الجميع، وهو قول مالك. وإن كان قتله لغرض خاص ـ مثل أن يكون بينهم عداوة، أو خصومة، أو يكرهونه على فعل لا يبيح قتله ـ فهنا القود لوارثه: إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية. وإن كان الوارث صغيرًا لم يبلغ فلمن له الولاية عليه، وإن لم يكن له ولي فالسلطان وليه، والحاكم نائبه في أحد القولين للعلماء كمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين. وفي القول الثاني لا حتى يبلغ، وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.
وسئل ـ رحمه الله ـ عمن اتفق على قتله أولاده، وجواره، ورجل أجنبي: فما حكم الله فيهم؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتله جاز قتلهم جميعهم، والأمر في ذلك ليس للمشاركين في قتله، بل لغيرهم من ورثته، فإن كان له أخوة كانوا هم أولياءه، وكانوا ـ أيضًا ـ هم الوارثين لماله، فإن القاتل لا يرث المقتول. وليس للسلطان حق لا في دمه، ولا في ماله، بل الإخوة لهم الخيار؛ إن شاؤوا قتلـوا جميـع المشتركين في قتلـه البالـغ منهم، وإن شاؤوا قتلـوا بعضهم. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة. وأما المباشرون لقتله فيجوز قتلهم باتفاق الأئمة.
/وأما الذين أعانوا بمثل إدخال الرجل إلى البيت، وحفظ الأبواب، ونحو ذلك، ففي قتلهم قولان للعلماء، ويجـوز قتلهم في مـذهب مالك وغـيره. والممسك يقتـل في مـذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهما، ولا ميراث لهما. وإن كان الصغار من أولاده أعانوا ـ أيضًا ـ على قتله لم يكن دمه إليهم، ولا إلى وليهم، بل إلى الأخوة. وأما ميراثهم من ماله ففيه نزاع. والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد أنهم لا يرثون من ماله، والصغار يعاقبون بالتأديب ولا يقتلون، ومذهب أبي حنيفة ومالك: الصغار يرثون من ماله. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجلين تضاربا وتخانقا، فوقع أحدهما فمات، فما يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا خنقه الخنق الذي يموت به المرء غالبًا وجب القود عليه عند جمهور العلماء ـ كمالك، والشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة ـ ولو ادعي أن هذا لا يقتل غالبًا لم يقبل منه بغير حجة. فأما إن كان أحدهما قد غشي عليه بعد الخنق، ورفسه الآخر برجله حتى خرج من فمه شيء فمات، فهذا يجب عليه القود بلا ريب، فإن هذا قاتل نفسًا عمدًا، فيجب عليه القود، إذا كان المقتول يكافؤه بأن يكون حرًا مسلمًا، فيسلم إلى ورثة المقتول إن شاؤوا أن يقتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه، وإن شاؤوا أخذوا الدية.
/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجلين تخاصما وتقابضا، فقام واحد ونطح الآخر في أنفه، فجري دمه، فقام الذي جري دمه خنقه ورفسه برجله في مخاصيه فوقع ميتًا؟
فأجاب:
يجب القود على الخانق الذي رفس الآخر في أنثييه، فإن مثل هذا الفعل قد يقتل غالبًا، فإن موته بهذا الفعل دليل على أنه فعل به ما يقتل غالبًا، والفعل الذي يقتل غالبًا يجب به القود في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة، مثل ما لو ضربه في أنثييه حتى مات فيجب القود، ولو خنقه حتى مات وجب القود، فكيف إذا اجتمعا؟ ! وولي المقتول مخير إن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا عنه، وليس لولي الأمر أن يأخذ من القاتل شيئا لنفسه ولا لبيت المال، وإنما الحق في ذلك لأولياء المقتول.
وسئل ـ رحمه الله ـ عمن ضرب رجلاً ضربة فمكث زمانًا ثم مات، والمدة التي مكث فيها كان ضعيفًا من الضربة: مالذي يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا ضربه عدوانا فهذا شبه عمد فيه دية مغلظة، ولا قود فيه، وهذا إن لم يكن موته من الضربة. والله أعلم.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل يهودي قتله مسلم، فهل يقتل به، أو ماذا يجب عليه؟
فأجاب:
الحمد لله، لا قصاص عليه عند أئمة المسلمين، ولا يجوز قتل الذمي بغير حق، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقتل مسلم بكافر)، ولكن تجب عليه الدية. فقيل: الدية الواجبة نصف دية المسلم. وقيل: ثلث ديته. وقيل: يفرق بين العمد والخطأ، فيجب في العمد مثل دية المسلم، ويروي ذلك عن عثمان بن عفان: أن مسلمًا قتل ذميا فغلظ عليه، وأوجب عليه كمال الدية. وفي الخطأ نصف الدية، ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جعل دية الذمي نصف دية المسلم. وعلى كل حال تجب كفارة القتل أيضًا وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن طائفة تسمي العشيرة قيس ويمن، يكثر القتل بينهم، ولا يبالون به، وإذا طلب منهم القاتل أحضروا شخصًا غير القاتل يتفقون معه على أن يعترف /بالقتل عند ولي الأمر، فإذا اعترف جهزوا إلى المتولي من يدعي أنه من قرابة المقتول، ويقول: أنا قد أبريت هذا القاتل مما استحقه عليه، ويجعلون ذلك ذريعة إلى سفك الدماء، وإقامة الفتن، فإذا رأي ولي الأمر وضع دية المقتول الذي لا يعرف قاتله من الطوائف الذين أثبت أسمائهم في الديوان على جميع الطوائف منهم له ذلك أم لا، أو رأي وضع ذلك على أهل محلة القاتل، كما نقل عن بعض الأئمة ـ رضي الله عنهم ـ أو رأي تعزير هؤلاء العشير عند إظهارهم الفتن وسفك الدماء والفساد بوضع مال عليهم يؤخذ منهم، ليكف نفوسهم العادية عن ذلك كله: فهل له ذلك أم لا؟ وهل يثاب على ذلك؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب ـ أيده الله:
الحمد لله، أما إذا عرف القاتل فلا توضع الدية على أهل مكان المقتول باتفاق الأئمة. وأما إذا لم يعرف قاتله لا بينة ولا إقرار، ففي مثل هذا تشرع القسامة. فإذا كان هناك لوث حلف المدعون خمسين يمينًا عند الجمهور ـ مالك، والشافعي، وأحمد ـ كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة القتيل الذي وجد بخيبر، فإن لم يحلفوا حلف المدعي عليه، ومذهب أبي حنيفة يحلف المدعي عليهم أولاً، فإن مذهبه أن اليمين لا تكون إلا في جانب المدعي عليه، والجمهور يقولون هي في جنب أقوي المتداعيين.
فأما إذا عرف القاتل فإن كان قتله لأخذ مال فهو محارب يقتله الإمام حدًا وليس لأحد أن يعفو عنه، لا أولياء المقتول، ولا غيرهم. وإن قتل لأمر خاص، فهذا أمره إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا عفوا عنه، وللإمام في مذهب /مالك أن يجلده مائة، ويحبسه سنة، فهذا التعزير يحصل المقصود. وعلى هذا، فإذا كان أولياء المقتول قد رضوا بقتل صاحبهم فلا أرغم الله إلا بآنافهم. وإذا قيل: توضع الدية في بعض الصور على أهل المكان مع القسامة فالدية لورثة المقتول، لا لبيت المال، ولم يقل أحد من الأئمة أن دية المقتول لبيت المال. وكذلك لا توضع الدية بدون قسامة باتفاق الأئمة. وهؤلاء المعروفون بالفتن والفساد لولي الأمر أن يمسك منهم من عرف بذلك فيحبسه، وله أن ينقله إلى أرض أخرى ليكف بذلك عدوانه، وله أن يعزر ـ أيضًا ـ من ظهر منه الشر ليكف به شره وعدوانه، ففي العقوبات الجارية على سنن العدل والشرع ما يعصم الدماء والأموال، ويغني ولاة الأمور عن وضع جبايات تفسد العباد والبلاد. ومن اتهم بقتل وكان معروفًا بالفجور فلولي الأمر عند طائفة من العلماء أن يعاقبه تعزيرًا على فجوره، وتعزيرًا له، وبهذا وأمثاله يحصل مقصود السياسة العادلة. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عمن قال: أنا ضاربه، والله قاتله.
فأجاب:
الحمد لله، هذا يؤاخذ بإقراره، ويجب عليه ما يجب على القاتل. وأما قوله: والله قاتله، إن أراد به أن الله قابض روحه، أو أن الله هو المميت كل أحد، وهو خالق أفعال العباد، ونحو ذلك، فهذا لا يندفع عنه موجب القتل بذلك، بل يجب عليه ما يجب على القاتل.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل راكب فرس، مر به دباب ومعه دب، فجفل الفرس ورمي راكبه، ثم هرب ورمي رجلاً فمات؟
فأجاب:
لا ضمان على صاحب الفرس والحالة هذه، لكن الدباب عليه العقوبة. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل أخذ له مال فاتهم به رجلاً من أهل التهم ذكر ذلك عنده فضربه على تقريره فأقر، ثم أنكر، فضربه حتى مات، فما عليه؟ ولم يضربه إلا لأجل ما أخبر عنه بذلك.
فأجاب:
عليه أن يعتق رقبة مؤمنة كفارة، وتجب دية هذا المقتول، إلا أن يصالح ورثته على أقل من ذلك، ولو كان قد فعل به فعلاً يقتل غالبًا بلا حق ولا شبهة لوجب القود، ولو كان بحق لم يجب شيء. والله أعلم.
/ وسئل ـ قدس الله روحه ـ عن رجل جندي وله أقطاع في بلد الريع، وقال: في البلد قتيل، فقالوا: إن الفلاح النصراني الذي هو من الريع هو القاتل، فطلب القاتل إلى ولاة الأمور فلم يوجد، ومسكوا أخا النصراني المتهوم وهو في السجن، ومع ذلك يتطلبون الجندي بإحضار النصراني ولم يكن ضامنًا؟
فأجاب:
إذا كان الجندي لا يعلم حال المتهم ولا هو ضامن له، لم تجز مطالبته لكن إذا كان مطلوبًا بحق وهو يعرف مكانه دل عليه، فإن قال: أنه لا يعرف مكانه فالقول قوله.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل عثر على سبعة أنفس، فحصل بينهم خصومة، فقاموا بأجمعهم ضربوه بحضرة رجلين لا يقربا لهؤلاء ولا لهؤلاء، وعايناه إلى أن مات من ضربهم، فما يلزم السبعة الذين يساعدون على قتله؟
/فأجاب:
إذا شهد لأولياء المقتول شاهدان، ولم يثبت عدالتهما، فهذا لوث إذا حلف معه المدعون خمسين يمينًا ـ أيمان القسامه ـ على واحد بعينه حكم لهم بالدم؛ وإن أقسموا على أكثر من واحد ففي القود نزاع. وأما إن ادعوا أن القتل كان خطأ أو شبه عمد مثل أن يضربوه بعصا ضربًا لا يقتل مثله غالبًا، فهنا إذا ادعوا على الجماعة أنهم اشتركوا في ذلك فدعواهم مقبولة، ويستحقون الدية.
وسئل ـ رحمه الله ـ عما إذا قال المضروب: ما قاتلي إلا فلان: فهل يقبل قوله، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، لا يؤخذ بمجرد قوله بلا نزاع، ولكن هل يكون قوله لوثا يحلف معه أولياء المقتول خمسين يمينًا ويستحقون دم المحلوف عليه؟ على قولين مذكورين للعلماء: أحدهما: أنه ليس بلوث، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة. والثاني: أنه لوث، وهو قول مالك.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجلين شربا، وكان معهما رجل آخر، فلما أرادوا أن يرجعوا إلى بيوتهم تكلما فضرب واحد صاحبه ضربة بالدبوس، فوقع عن فرسه، فوقف /عنده ذلك الرجل الذي معهما حتى ركب فرسه وجاء معه إلى منزله، ولم يقف عنده، فوقع عن فرسه ثانية، ثم إنه أصبح ميتًا، فسأل رجل من أصحاب الميت ذلك الرجل خفية، ولم يعلمه بموته، فذكر له قضيتهما، فشهد عليه الشهود بأن فلانًا ضربه ولم يسمع الشهود من الميت، وأن المتهوم لم يظهر نفسه خوف العقوبة، لكي لا يقر على نفسه، وللميت بنت ترضع، وأخوة.
فأجاب:
إن كان الذي شرب الخمر يعلم ما يقول فهذا إذا قتل فهو قاتل يجب عليه القود وعقوبة قاتل النفس باتفاق العلماء. وأما إن كان قد سكر بحيث لا يعلم ما يقول، أو أكثر من ذلك، وقتل: فهل يجب عليه القود، ويسلم إلى أولياء المقتول ليقتلوه إن شاؤوا؟ هذا فيه قولان للعلماء، وفيه روايتان عن أحمد، لكن أكثر الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وكثير من أصحاب أحمد يوجبون عليه القود، كما يوجبونه على الصاحي، فإن لم يشهد بالقتل إلا واحد لم يحكم به إلا أن يحلف مع ذلك أولياء المقتول خمسين يمينًا، وهذا إذا مات بضربه، وكان ضربه عدوانًا محضًا، فأما إن مات مع ضرب الآخر، ففي القود نزاع، وكذلك إن ضربه دفعا لعدوانه عليه، أو ضربه مثل ما ضربه، سواء مات بسبب آخر أو غيره. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل واعد آخر على قتل مسلم بمال معين، ثم قتله؛ فما يجب عليه في الشرع؟
/فأجاب:
نعم إذا قتله الموعود والحالة هذه وجب القود، وأولياء المقتول بالخيار: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية، وإن أحبوا عفوا. وأما الواعد فيجب أن يعاقب عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا. وعند بعضهم يجب عليه القود.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن القاتل ولده عمدًا لمن ديته؟
فأجاب:
وأما الوارث كالأب وغيره إذا قتل مورثه عمدًا فإنه لا يرث شيئا من ماله، ولا ديته باتفاق الأئمة، بل تكون ديته كسائر ماله يحرمها القاتل أبا كان أو غيره، ويرثها سائر الورثة غير القاتل.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل تخاصم مع شخص، فراح إلى بيته، فحصل له ضعف، فلما قارب الوفاة أشهد على نفسه أن قاتله فلان، فقيل له: كيف قتلك؟ فلم يذكر شيئا. فهل يلزمه شيء، أم لا؟ وليس بهذا المريض أثر قتل ولا ضرب أصلاً وقد شهد خلق من العدول أنه لم يضربه، ولا فعل به شيئا؟
/فأجاب:
أما بمجرد هذا القول فلا يلزمه شيء بإجماع المسلمين، بل إنما يجب على المدعي عليه اليمين بنفي ما ادعي عليه، إما يمين واحدة عند أكثر العلماء ـ كأبي حنيفة، وأحمد ـ وإما خمسون يمينا ـ كقول الشافعي. والعلماء قد تنازعوا في الرجل إذا كان به أثر القتل ـ كجرح أو أثر ضرب ـ فقال: فلان ضربني عمدًا: هل يكون ذلك لوثا؟ فقال أكثرهم ـ كأبي حنيفة والشافعي وأحمد ـ: ليس بلوث، وقال مالك: هو لوث، فإذا حلف أولياء الدم خمسين يمينًا حكم به. ولو كان القتل خطأ فلا قسامة فيه في أصح الروايتين عن مالك. وهذه الصورة قيل: لم تكن خطأ، فكيف وليس به أثر قتل، وقد شهد الناس بما شهدوا به، فهذه الصورة ليس فيها قسامة بلا ريب على مذهب الأئمة.
وسئل عمن اتهم بقتيل: فهل يضرب ليقر، أم لا؟
فأجاب:
إن كان هناك لوث وهو ما يغلب على الظن أنه قتله جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقون دمه، وأما ضربه ليقر فلا يجوز إلا مع القرائن التي تدل على أنه قتله، فإن بعض العلماء جوز تقريره بالضرب في هذه الحال، وبعضهم منع من ذلك مطلقًا.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن أهل قريتين بينهما عداوة في الاعتقاد. وخاصم رجل آخر في غنم ضاعت له، وقال: ما يكون عوض هذا إلا رقبتك. ثم وجد هذا مقتولاً، وأثر الدم أقرب إلى القرية التي منها المتهم، وذكر رجل له قتله؟
فأجاب:
إذا حلف أولياء المقتول خمسين يمينًا أن ذلك المخاصم هو الذي قتله حكم لهم بدمه، وبراءة من سواه، فإنما بينهما من العداوة والخصومة والوعيد بالقتل وأثر الدم وغير ذلك لوث وقرينة وأمارة على أن هذا المتهم هو الذي قتله، فإذا حلفوا مع ذلك أيمان القسامة الشرعية استحقوا دم المتهم، وسلم إليهم برمته، كما قضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الذي قتل بخيبر ولم يجب على أهل البقعة جناية، لا في العادة السلطانية، ولا في حكم الشريعة.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن شخصين أتهما بقتيل، فأمسكا، وعوقبا العقوبة المؤلمة، فأقر أحدهما على نفسه وعلى رفيقه، ولم يقر الآخر، ولا اعترف بشيء: فهل يقبل قوله، أم لا؟
/فأجاب:
إن شهد شاهد مقبول على شخص أنه قتله كان لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقوا الدم. وكذلك إن كان هناك لوث يغلب على الظن الصدق، وإلا حلف المدعى عليه ولا يؤاخذ بلا حجة.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عمن اتهموا بقتيل فضربوهم، واعترف واحد منهم بالعقوبة: فهل يسري على الباقي؟
فأجاب:
الحمد لله، إن أقر واحد عدل أنه قتله كان لوثا، فلأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينًا، ويستحقوا به الدم. وأما إذا أقر مكرهًا، ولم يتبين صدق إقراره، فهنا لا يترتب عليه حكم، ولا يؤخذ هو به ولا غيره. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن سفارة جاءتهم حرامية فقاتلوهم، فقتل الحرامية من السفارة رجلاً، ثم إن ابن عم المقتول اتبع الحرامية هو وناس من قومه، فلحقهم، وقبضهم وسأل عن القاتل، فعين الحرامية شخصًا منهم، وقالوا: هذا قتل ابن عمك، فقتله، ثم بعد ذلك طلع القاتل أخا ذلك الشخص الذي عينه الحرامية.
/فأجاب:
أما المسافر المقتول ظلمًا فيجب على من قتله من الحرامية القود بشروطه، وأما الشخص الثاني المقتول ظلمًا إذا كان معصومًا فإن كان الدال عليه متعمدًا الكذب فعليه القود، وإن كان مخطئًا وجبت الدية على عاقلته إن كان له عاقلة، وإلا فعليه. وأما قاتله فإن لم يتعمد قتله، بل أخطأ فيه، فللورثة أن يطالبوا بالدية له، أو لعاقلته؛ لكن إذا ضمن الدية رجع بها على الدال أو عاقلته، فإنه هو الذي يضاف إليه القتل في مثل هذا؛ ولهذا يجب قتله إذا تعمد الكذب، كما يجب القتل على الشهود إذا رجعوا عن الشهادة، وقالوا: تعمدنا الكذب. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل قتل قتيلاً، وله أب وأم، وقد وهبا للقاتل دم ولدهما، وكتبا عليه حجة أنه لا ينزل بلادهم، ولا يسكن فيها، ومتى سكن في البلاد كان دم ولدهما على القاتل، فإذا سكن، فهل يجوز لهم المطالبة بالدم، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا عفوا عنه بهذا الشرط ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازمًا، بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول بعض العلماء، وبالدم في قول آخر. وسواء قيل: هذا الشرط صحيح، أم فاسد. وسواء قيل: يفسد العقد بفساده، أو لا يفسد، فإن ذينك القولين مبنيان على هذه الأصول.
/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن صبي دون البلوغ جني جناية يجب عليه فيها دية: مثل أن يكسر سنًا، أو يفقأ عينًا، ونحو ذلك، خطأ: فهل لأولياء ذلك أن يأخذوا دية الجناية من أبي الصبي وحده إن كان موسرًا، أم يطلبوها من عم الصبي أو ابن عمه؟
فأجاب:
الحمد لله، أما إذا فعل ذلك خطأ فديته على عاقلته بلا ريب، كالبالغ وأولى. وإن فعل عمدًا فعمده خطأ عند الجمهور، كأبي حنيفة، ومالك وأحمد في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه. وفي القول الآخر عنه، وعن أحمد أن عمده إذا كان غير بالغ في ماله.
وأما العاقلة التي تحمل، فهم عصبته، كالعم وبنيه، والأخوة وبنيهم باتفاق العلماء. وأما أبو الرجل وابنه فهو من عاقلته ـ أيضًا ـ عند الجمهور، كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في أظهر الروايتين عنه. وفي الرواية الأخرى ـ وهو قول الشافعي ـ: أبوه وابنه ليسا من العاقلة.
/والذي تحمله العاقلة بالاتفاق ما كان فوق ثلث الدية: مثل قلع العين فإنه يجب فيه نصف الدية. وأما دون الثلث ـ كدية السن ـ وهو نصف عشر الدية، ودية الأصبع وهي عشر الدية ـ فهذا لا تحمله العاقلة في مذهب مالك وأحمد، بل هو في ماله عند الشافعي. وعند أبي حنيفة: لا تحمل ما دون دية السن والموضحة، وهو المقدر كأرش الشجة التي دون الموضحة. وإذا وجب على الصبي شيء ولم يكن له مال حمله عنه أبوه في إحدى الروايتين عن أحمد، وروي ذلك عن ابن عباس. وفي الرواية الأخرى وهو قول الأكثرين: أنه في ذمته، وليس على أبيه شيء. واللّه أعلم.