كتــاب الظهار إلى قتال أهــل البغي
/بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
باب الظهـار
سئل شيخ الإسلام أَحَمدُ بن تَيميَّة ـ قدسَ اللّه روحه ـ عن رجل قال لامرأته: أنت على مثل أمي، وأختي؟
فأجاب:
إن كان مقصوده أنت على مثل أمي وأختي في الكرامة فلا شيء عليه. وإن كان مقصوده يشبهها بأمه وأخته في باب النكاح فهذا ظهار، عليه ما على المظاهر، فإذا أمسكها فلا يقربها حتى يكفر كفارة ظهار.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل تزوج، وأراد الدخول الليلة الفلانية، وإلا كانت عندي مثل أمي وأختي، ولم تتهيأ له ذلك الوقت الذي طلبها فيه، فهل يقع طلاق؟
/فأجاب:
لا يقع عليه طلاق قي المذاهب الأربعة، لكن يكون مظاهرا فإذا أراد الدخول فإنه يكفر قبل ذلك. الكفارة التي ذكرها الله في سورة المجادلة فيعتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن رجل حنق من زوجته فقال: إن بقيت أنكحك أنكح أمي تحت ستور الكعبة: هل يجوز أن يصالحها؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا نكحها فعليه كفارة الظهار ـ عتق رقبة مؤمنة ـ فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، ولا يمسها حتى يُكَفِّر.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجلين قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، لا تفعل هذه الأمور بين يدي امرأتك، قبيح عليك، فقال: ما هي إلا مثل أمي. فقال: لأي شيء قلت؟ ! سمعت أنها تحرم بهذا اللفظ، ثم كرر على نفسه، وقال: أي والله هي عندي مثل أمي: هل تحرم على الزوج بهذا اللفظ؟
/فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن أراد بقوله: إنها مثل أمي أنها تستر على ولا تهتكني ولا تلومني، كما تفعل الأم مع ولدها، فإنه يؤدب على هذا القول، ولا تحرم عليه امرأته؛ فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سمع رجلا يقول لامرأته: يا أختي، فأدبه ـ وإن كان جاهلا لم يؤدب على ذلك، وإن استحق العقوبة على ما فعله من المنكر ـ وقال أختك هي؟ ! فلا ينبغي أن يجعل الإنسان امرأته كأمه.
وإن أراد بها عندي مثل أمي. أي في الامتناع عن وطئها، والاستمتاع بها، ونحو ذلك مما يحرم من الأم، فهي مثل أمي التي ليست محلا للاستمتاع بها، فهذا مظاهر يجب عليه ما يجب على المظاهر فلا يحل له أن يطأها حتى يكفر كفارة الظهار فيعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. وإذا فعل ذلك حل له ذلك باتفاق المسلمين، إلا ينوي أنها محرمة على كأمي، فهذا يكون مظاهرا في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد. وحكي في مذهب مالك نزاع في ذلك: هل يقع به الثلاث، أم لا؟
والصواب المقطوع به أنه لا يقع به طلاق، ولا يحل له الوطء حتى يكفر باتفاقهم، ولا يقع به الطلاق بذلك. والله أعلم.
/ وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل قال لامرأته بائن عنه إن رددتك تكوني مثل أمي وأختي: هل يجوز أن يردها، وما الذي يجب عليه؟
فأجاب:
في أحد قولي العلماء عليه كفارة ظهار، وإذا ردها في الآخر لا شيء. والأول أحوط.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل قال في غيظه لزوجته: أنت على حرام مثل أمي.
فأجاب:
هذا مظاهر من امرأته، داخل في قوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 2،4]، فهذا إذا أراد إمساك زوجته ووطأها فإنه لا يقربها حتى يكفر هذه الكفارة التي ذكرها الله.
/ وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل قالت له زوجته: أنت على حرام مثل أبي وأمي. وقال لها: أنت على حرام مثل أمي وأختي: فهل يجب عليه الطلاق؟
فأجاب:
لا طلاق بذلك، ولكن إن استمر على النكاح فعلى كل منهما كفارة ظهار قبل أن يجتمعا، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
/ باب ما يلحق من النَّسَبِ
وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن رجل تزوج بنتا بكراً، بالغاً، ودخل بها، فوجدها بكرا، ثم إنها ولدت ولدا بعد مضي ستة أشهر بعد دخوله بها: فهل يلحق به الولد أم لا؟ وأن الزوج حلف بالطلاق منها أن الولد ولده من صلبه: فهل يقع به الطلاق أم لا؟ والولد ابن سوي كامل الخلقة، وعمر سنين. أفتونا مأجورين.
فأجاب ـ رضي الله عنه:
الحمد لله، إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر حين دخل بها ولو بلحظة لحقه الولد باتفاق الأئمة. ومثل هذه القصة وقعت في زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ واستدل الصحابة على إمكان كون الولد لستة أشهر بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، فإذا كان مدة الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر، فجمع في الآية أقل الحمل وتمام الرضاع ولو لم يستلحقه، فكيف إذا استلحقه وأقر به؟ ! بل لو استلحق مجهول النسب، وقال: إنه ابني لحقه باتفاق المسلمين، إذا كان ذلك ممكنا، ولم يدع أحد أنه ابنه، كان بارا في يمينه، ولا حنث عليه. والله أعلم.
/ وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن رجل اشترى جارية بكرا، وباشرها، وهي لا تخرج ولا تدخل، وهي حامل منه، فأخرجها إلى السوق، وينكر ويحلف أنه ما هو ولده.
فأجاب:
إذا اعترف أنه وطئها مثل أن يكون قد أقر بذلك فإن الولد يلحقه، ويجعل هذا الحمل منه إذا وضعت لمدة الإمكان، وليس له أن يبيع الحمل، ولا أمه؛ لكن إذا ادعي الاستبراء ففي قبول قوله وتحليفه نزاع بين العلماء. والله أعلم.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل تزوج امرأة وأقامت في صحبته خمسة عشر يوما، ثم طلقها الطلاق البائن، وتزوجت بعده بزوج آخر بعد إخبارها بانقضاء العدة من الأول، ثم طلقها الزوج الثاني بعد مدة ست سنين، وجاءت بابنة، وادعت أنها من الزوج الأول: فهل يصح دعواها. ويلزم الزوج الأول، ولم يثبت أنها ولدت البنت، وهذا الزوج والمرأة مقيمان ببلد واحد، وليس لها مانع من دعوي النساء، ولا طالبته بنفقة ولا فرض.
/فأجاب:
الحمد لله، لا يلحق هذا الولد الذي هو البنت بمجرد دعواها والحالة هذه باتفاق الأئمة. بل لو ادعت أنها ولدته في حال يلحق به نسبه إذا ولدته وكانت مطلقة وأنكر هو أن تكون ولدته لم تقبل في دعوي الولادة بلا نزاع، حتى تقيم بذلك بينة. ويكفي امرأة واحدة عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعند مالك وأحمد في الرواية الأخرى لابد من امرأتين. وأما الشافعي فيحتاج عنده إلى أربع نسوة، ويكفي يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته.
وأما إن كانت الزوجية قائمة ففيها قولان في مذهب أحمد: أحدهما: لا يقبل قولها، كمذهب الشافعي. والثاني: يقبل، كمذهب مالك. وأما إذا انقضت عدتها ومضي لها أكثر الحمل. ثم ادعت وجود حمل من الزوج الأول المطلق، فهذه لا يقبل قولها بلا نزاع، بل لو أخبرت بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا ولدون مدة الحمل، فهل يلحقه؟ على قولين مشهورين لأهل العلم. ومذهب أبي حنيفة وأحمد أنه يلحق، وهذا اختيار ابن سريج من أصحاب الشافعي، لكن المشهور من مذهب الشافعي ومالك أنه لا يلحقه.
وهذا النزاع إذا لم تتزوج، فأما إذا تزوجت بعد إخبارها بانقضاء عدتها، ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، فإن هذا لا يلحق نسبه بالأول قولا واحدا. فإذا عرفت مذهب الأئمة في هذين الأصلين فكيف يلحقه نسبه /بدعواها بعد ست سنين. ولو قالت: ولدته ذلك الزمن قبل أن يطلقني لم يقبل قولها أيضا، بل القول مع يمينه أنها لم تلدها على فراشه.
ولو قالت هي: وضعت هذا الحمل قبل أن أتزوج بالثاني، وأنكر الزوج الأول ذلك، فالقول قوله ـ أيضا ـ أنها لم تضعها قبل تزوجها بالثاني، لا سيما مع تأخر دعواها إلى أن تزوجت الثاني، فإن هذا مما يدل على كذبها في دعواها، لا سيما على أصل مالك في تأخر الدعوي الممكنة بغير عذر في هذه المسائل ونحوها.
وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عمن طلق امرأته ثلاثا، وأفتاه مفت بأنه لم يقع الطلاق، فقلده الزوج ووطئ زوجته بعد ذلك، وأتت منه بولد، فقيل: إنه ولد زنا.
فأجاب:
من قال ذلك فهو في غاية الجهل والضلالة، والمشاقة لله ورسوله؛ فإن المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ إذا وطئ فيه فإنه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا في نفس الأمر باتفاق المسلمين، سواء كان الناكح كافرا أو مسلماً. وإليهودي إذا تزوج بنت أخيه كان ولده منه يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين وإذا كان ذلك النكاح باطلا باتفاق المسلمين، /ومن استحله كان كافراً تجب استتابته. وكذلك المسلم الجاهل لو تزوج امرأة في عدتها كما يفعل جهال الأعراب ووطأها يعتقدها زوجة كان ولده منها يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين. ومثل هذا كثير.
فإن ثبوت النسب لا يفتقر إلى صحة النكاح في نفس الأمر، بل الولد للفراش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فمن طلق امرأته ثلاثا ووطأها يعتقد أنه لم يقع به الطلاق: إما لجهله، وإما لفتوي مفت مخطئ قلده الزوج، وإما لغير ذلك فإنه يلحقه النسب، ويتوارثان بالاتفاق، بل ولا تحسب العدة إلا من حين ترك وطأها، فإنه كان يطؤها يعتقد أنها زوجته، فهي فراش له فلا تعتد منه حتى تترك الفراش.
ومن نكح امرأة نكاحاً فاسداً متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده أو ملكها ملكا فاسدا متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده، أو وطأها يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة فإن ولده منها يلحقه نسبه، ويتوارثان باتفاق المسلمين. والولد ـ أيضا ـ يكون حرا، وإن كانت الموطوءة مملوكة للغير في نفس الأمر ووطئت بدون إذن سيدها، لكن لما كان الواطئ مغرورا بها زوج بها وقيل: هي حرة، أو بيعت فاشتراها يعتقدها ملكا للبائع، فإنما وطئ من /يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة، فولده منها حر لاعتقاده. وإن كان اعتقاده مخطئا، وبهذا قضي الخلفاء الراشدون، واتفق عليه أئمة المسلمين.
فهؤلاء الذين وطئوا وجاءهم أولاد لو كانوا قد وطئوا في نكاح فاسد متفق على فساده، وكان الطلاق وقع بهم باتفاق المسلمين، وهم وطئوا يعتقدون أن النكاح باق، لإفتاء من أفتاهم، أو لغير ذلك، كان نسب الأولاد بهم لاحقا، ولم يكونوا أولاد زنا، بل يتوارثون باتفاق المسلمين. هذا في المجمع على فساده فكيف في المختلف في فساده؟ وإن كان القول الذي وطئ به قولا ضعيفا، كمن وطئ في نكاح المتعة أو نكاح المرأة نفسها بلا ولي ولا شهود، فإن هذا إذا وطئ فيه يعتقده نكاحا لحقه فيه النسب، فكيف بنكاح مختلف فيه، وقد ظهرت حجة القول بصحته بالكتاب والسنة والقياس، وظهر ضعف القول الذي يناقضه، وعجز أهله عن نصرته بعد البحث التام؛ لانتفاء الحجة الشرعية؟!
فمن قال: إن هذا النكاح أو مثله يكون فيه الولد ولد زنا لا يتوارثان هو وأبوه الوطيء مخالف لإجماع المسلمين. منسلخ من رتبة الدين، فإن كان جاهلا عرف وبين له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين ألحقوا أولاد أهل الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع، ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا في شرع المسلمين، فإن أصر على مشاقة الرسول من /بعد ما تبين له الهدي، واتبع غير سبيل المؤمنين، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فقد ظهر أن من أنكر الفتيا بأنه لا يقع الطلاق وادعي الإجماع على وقوعه، وقال: إن الولد ولد زنا، هو المخالف لإجماع المسلمين، مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله رب العالمين، وإن المفتي بذلك أو القاضي بذلك فعل ما لا يسوغ له بإجماع المسلمين، وليس لأحد المنع من الفتيا بقوله، ولا القضاء بذلك، ولا الحكم بالمنع من ذلك باتفاق المسلمين، والأحكام باطلة بإجماع المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل ادعت عليه مطلقته بعد ست سنين ببنت، وبعد أن تزوجت بزوج آخر، فألزمه بعض الحكام باليمين، فقال الرجل: أحلف أن هذه ما هي بنتي. فقال الحاكم: ما تحلف إلا أنها ما هي بنتها، فامتنع أن يحلف إلا أنها ما هي بنتي، وكان معه إنسان فقال للحاكم: هذا ما يحل له أن يحلف أنها ما هي بنت هذه المرأة، فضربه الحاكم بالدرة، وأحرق به، فحلف الرجل، فكتب عليه فرض البنت، فهل يصح هذا الفرض؟
/فأجاب:
الحمد لله، عليه اليمين أنها لم تلدها في العدة، أو أنها لم تلدها على فراشه، أو أنها لم تلدها في بيته، بحيث أمكن لحوق النسب به. فأما إذا تزوجت بغيره وأمكن أنها ولدتها من الثاني فليس عليه اليمين أنها لم تلدها. وإذا حلفت أنها لم تلدها قبل نكاح الثاني آخراً. وإذا أكره على الإقرار لم يصح إقراره.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها ولا أصابها، فولدت بعد شهرين: فهل يصح النكاح، وهل يلزمه الصداق، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يلحق به الولد باتفاق المسلمين، وكذلك لا يستقر عليه المهر باتفاق المسلمين، لكن للعلماء في العقد قولان: أصحهما أن العقد باطل، كمذهب مالك، وأحمد، وغيرهما. وحينئذ فيجب التفريق بينهما، ولا مهر عليه، ولا نصف مهر، ولا متعة، كسائر العقود الفاسدة إذا حصلت الفرقة فيها قبل الدخول، لكن ينبغي أن يفرق بينهما حاكم يري فساد العقد لقطع النزاع. والقول الثاني: أن العقد صحيح ثم لا يحل له الوطء حتى تضع، كقول أبي حنيفة، وقيل: يجوز له الوطء قبل الوضع، كقول الشافعي، /فعلى هذين القولين إذا طلقها قبل الدخول فعليه نصف المهر، لكن هذا النزاع إذا كانت حاملا من وطء شبهة أو سيد أو زوج، فإن النكاح باطل باتفاق المسلمين، ولا مهر عليه إذا فارق قبل الدخول. وأما الحامل من الزنا فلا كلام في صحة نكاحها. والنزاع فيما إذا كان نكاحها طائعا، وأما إذا نكحها مكرها فالنكـاح باطل في مذهـب الشافعي وأحمد وغيرهما.
/ باب العـدَد
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن امرأة طلقها زوجها في الثامن والعشرين من ربيع الأول، وأن دم الحيض جاءها مرة، ثم تزوجت بعد ذلك في الثالث والعشرين من جمادي الآخر من السنة. وادعت أنها حاضت ثلاث حيض، ولم تكن حاضت إلا مرة، فلما علم الزوج طلقها طلقة واحدة ثانيا في العشر من شعبان من السنة، ثم أرادت أن تزوج بالمطلق الثاني، وادعت أنها آيسة، فهل يقبل قولها، وهل يجوز تزويجها؟
فأجاب:
الإياس لا يثبت بقول المرأة، لكن هذه إذا قالت إنه ارتفع لا تدري ما رفعه فإنها تؤجل سنة، فإن لم تحض فيها زوجت. وإذا طعنت في سن الإياس فلا تحتاج إلى تأجيل. وإن علم أن حيضها ارتفع بمرض أو رضاع كانت في عدة حتى يزول العارض.
فهذه المرأة كان عليها عدتان: عدة للأول، وعدة من وطئ الثاني. ونكاحه فاسد لا يحتاج إلى طلاق، فإذا لم تحض إلا مرة واستمر انقطاع الدم، /فإنها تعتد العدتين بالشهور ستة أشهر بعد فراق الثاني إذا كانت آيسة. وإذا كانت مستريبة كان سنة وثلاثة أشهر. وهذا على قول من يقول: إن العدتين لا تتداخلان ـ كمالك، والشافعي، وأحمد ـ وعند أبي حنيفة تتداخل العدتان من رجلين، لكن عنده الإياس حد بالسن وهذا الذي ذكرناه هو أحسن قولي الفقهاء وأسهلهما، وبه قضي عمر وغيره. وأما على القول الآخر فهذه المستريبة تبقي في عدة حتى تطعن في سن الإياس، فتبقي على قولهم تمام خمسين أو ستين سنة لا تتزوج. ولكن في هذا عسر وحرج في الدين وتضييع مصالح المسلمين.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل تزوج امرأة ولها عنده أربع سنين لم تحض، وذكرت أن لها أربع سنين قبل زواجها لم تحض، فحصل من زوجها الطلاق الثلاث، فكيف يكون تزويجها بالزوج الآخر؟ وكيف تكون العدة وعمرها خمسون سنة؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه تعتد عدة الآيسات ثلاثة أشهر في أظهر قولي العلماء؛ فإنها قد عرفت أن حيضها قد انقطع، وقد عرفت أنه قد انقطع انقطاعا مستمراً، بخلاف المستريبة التي لا تدري ما رفع حيضها: هل هو ارتفاع /أياس، أو ارتفاع لعارض ثم يعود كالمرض، والرضاع؟ فهذه [ثلاثة أنواع].
فما ارتفع لعارض، كالمرض، والرضاع، فإنها تنتظر زوال العارض بلا ريب. ومتى ارتفع لا تدري ما رفعه، فمذهب مالك وأحمد في المنصوص عنه، وقول للشافعي: أنها تعتد عدة الآيسات بعد أن تمكث مدة الحمل، كما قضي بذلك عمر. ومذهب أبي حنيفة والشافعي في الجديد أنها تمكث حتى تطعن في سن الإياس، فتعتد عدة الآيسات. وفي هذا ضرر عظيم عليها؛ فإنها تمكث عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة لا تتزوج. ومثل هـذا الحرج مرفوع عن الأمة، وإنما {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4]، فإنهن يعتددن ثلاثة أشهر بنص القرآن، وإجماع الأمة.
لكن العلماء مختلفون: هل للإياس سن لا يكون الدم بعده إلا دم إياس؟ وهل ذلك السن خمسون، أو ستون، أو فيه تفصيل؟ ومتنازعون: هل يعلم الإياس بدون السن؟
وهذه المرأة قد طعنت في سن الإياس على أحد القولين، وهو الخمسون، ولها مدة طويلة لم تحض، وقد ذكرت أنها شربت ما يقطع الدم، والدم يأتي بدواء، فهذه لا ترجو عود الدم إليها، فهي من الآيسات تعتد عدة الآيسات، والله أعلم.
/ وسئل ـ رَحمه الله ـ عن امرأة فسخ الحاكم نكاحها عقب الولادة، لما ثبت عنده من تضررها بانقطاع نفقة زوجها، وعدم تصرفه الشرعي عليها المدة التي يسوغ فيها فسخ النكاح لمثلها. وبعد ثلاثة شهور من فسخ النكاح رغب فيها من يتزوجها: فهل يجوز أن تعتد بالشهور، إذ أكثر النساء لا يحضن مع الرضاعة أو يستمر بها الضرر إلى حيث ينقضي الرضاع ويعود إليها حيضها، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، بل تبقي في العدة حتى تحيض ثلاث حيض، وإن تأخر ذلك إلى انقضاء مدة الرضاع، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وبذلك قضي عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب بين المهاجرين والأنصار، ولم يخالفهما أحد. فإن أحبت المرأة أن تسترضع لابنها من يرضعه لتحيض، أو تشرب ما تحيض به، فلها ذلك. والله أعلم.
وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن امرأة كانت تحيض وهي بكر، فلما تزوجت ولدت ستة أولاد ولم تحض بعد ذلك، ووقعت الفرقة من زوجها وهي مرضع، وأقامت عند أهلها /نصف سنة ولم تحض، وجاء رجل يتزوجها غير الزوج الأول، فحضروا عند قاض من القضاة، فسألها عن الحيض، فقالت: لي مدة سنين ما حضت. فقال القاضي: ما يحل لك عندي زواج، فزوجها حاكم آخر ولم يسألها عن الحيض، فبلغ خبرها إلى قاض آخر، فاستحضر الزوج والزوجة، فضرب الرجل مائة جلدة، وقال: زنيت، وطلق عليه، ولم يذكر الزوج الطلاق، فهل يقع به طلاق؟
فأجاب:
إن كان قد ارتفع حيضها بمرض أو رضاع فإنها تتربص حتى يزول العارض وتحيض باتفاق العلماء، وإن كان ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فهذه في أصح قولي العلماء على ما قال عمر: تمكث سنة، ثم تزوج، وهو مذهب أحمد المعروف في مذهبه، وقول للشافعي: وإن كانت في القسم الأول فنكاحها باطل، والذي فرق بينهما أصاب في ذلك، وأصاب في تأديب من فعل ذلك. وإن كانت من القسم الثاني قد زوجها حاكم لم يكن لغيره من الحكام أن يفرق بينهما، ولم يقع بها طلاق، فإن فعل الحاكم لمثل ذلك يجوز في أصح الوجهين.
وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن مرضع استبطأت الحيض، فتداوت لمجيء الحيض، فحاضت ثلاث حيض وكانت مطلقة: فهل تنقضي عدتها، أم لا؟
/فأجاب:
نعم إذا أتي الحيض المعروف لذلك اعتدت به، كما أنها لو شربت دواء قطع الحيض أو باعد بينه، كان ذلك طهراً. وكما لو جاعت أو تعبت، أو أتت غير ذلك من الأسباب التي تسخن طبعها وتثير الدم فحاضت بذلك. والله أعلم.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن امرأة شابة لم تبلغ سن الإياس، وكانت عادتها أن تحيض فشربت دواء، فانقطع عنها الدم واستمر انقطاعه، ثم طلقها زوجها وهي على هذه الحالة: فهل تكون عدتها من حين الطلاق بالشهور، أو تتربص حتى تبلغ سن الآيسات؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن كانت تعلم أن الدم يأتي فيما بعد فعدتها ثلاثة أشهر. وإن كان يمكن أن يعود الدم ويمكن ألا يعود فإنها تتربص بعد سنة ثم تتزوج، كما قضي به عمر ابن الخطاب في المرأة يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فإنها تتربص سنة، وهذا مذهب الجمهور، كمالك والشافعي. ومن قال: إنها تدخل في سن الآيسات، فهذا قول ضعيف جداً، مع ما فيه من الضرر الذي لا تأتي الشريعة بمثله، أو تمنع من النكاح وقت حاجتها إليه، ويؤذن لها فيه حين لا تحتاح إليه.
/ وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن رجل مرض مرضا متصلا بموته، وله زوجة، فأمرها أن تخرج من داخل الدار إلى خارجها، فتوقفت عن الخروج، فقال لها: أنت طالق، فخرجت وحجبت وجهها عنه، فطلبها فدخلت عليه محتجبة فسألها عن احتجابها لما هو؟ فأخبرته بما أوقع من الطلاق، فأنكر، وقال: ما حلفت، ولا طلقت، ومات بعد أيام: فهل يلزمها الطلاق أم عدة الوفاة؟
فأجاب:
عليها عدة الوفاة مع عدة الطلاق، ولها الميراث. هذا إن كان عقله حاضراً حين تكلم بالطلاق، وإن كان عقله غائبا لم يلزمها إلا عدة الوفاة. والله أعلم.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين، ورزق منها ولداً له من العمر سنتان، وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين، وصدقها الزوج، وكان قد طلقها ثانيا على هذا العقد المذكور: فهل يجوز الطلاق على هذا العقد المفسوخ؟
فأجاب:
إن صدقها الزوج في كونها تزوجت قبل الحيضة الثالثة فالنكاح باطل، وعليه أن يفارقها. وعليها أن تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني. فإن كانت حاضت الثالثة قبل أن يطأها الثاني فقد انقضت عدة الأول، ثم إذا فارقها الثاني اعتدت له ثلاث حيض، ثم تزوج من شاءت بنكاح جديد. وولده ولد حلال يلحقه نسبه، وإن كان قد ولد بوطء في عقد فاسد لا يعلم فساده.
/وقال شيخ الإسلام ـ رَحمه الله:
فصل
المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشرا وتجتنب الزينة والطيب في بدنها وثيابها، ولا تتزين، ولا تتطيب، ولا تلبس ثياب الزينة، وتلزم منزلها فلا تخرج بالنهار إلا لحاجة، ولا بالليل إلا لضرورة، ويجوز لها أن تأكل كل ما أباحه الله ـ كالفاكهة واللحم ـ لحم الذكر والأنثي ـ ولها أكل ذلك باتفاق علماء المسلمين، وكذلك شرب ما يباح من الأشربة ويجوز لها أن تلبس ثياب القطن والكتان وغير ذلك مما أباحه الله، وليس عليها أن تصنع ثيابا بيضاء أو غير بيض للعدة، بل يجوز لها لبس المقفص، لكن لا تلبس ما تتزين به المرأة: مثل الأحمر، والأصفر، والأخضر الصافي، والأزرق الصافي، ونحو ذلك، ولا تلبس الحلي مثل الإسورة والخلاخل، والقلايد، ولا تختضب بحناء ولا غيره، ولا يحرم عليها عمل شغل من الأشغال المباحة، مثل التطريز، والخياطة، والغزل، وغير ذلك مما تفعله النساء.
/ويجوز لها سائر ما يباح لها في غير العدة: مثل كلام من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت مستترة، وغير ذلك. وهذا الذي ذكرته هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن ونساؤه صلى الله عليه وسلم ولا يحل لهن أن يتزوجن بغيره أبداً لا في العدة ولا بعدها، بخلاف غيرهن، وعلى المسلمين احترامهن كما يحترم الرجل أمه، لكن لا يجوز لغير محرم يخلو بواحدة منهن، ولا يسافر بها. والله أعلم.
/بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
باب الظهـار
سئل شيخ الإسلام أَحَمدُ بن تَيميَّة ـ قدسَ اللّه روحه ـ عن رجل قال لامرأته: أنت على مثل أمي، وأختي؟
فأجاب:
إن كان مقصوده أنت على مثل أمي وأختي في الكرامة فلا شيء عليه. وإن كان مقصوده يشبهها بأمه وأخته في باب النكاح فهذا ظهار، عليه ما على المظاهر، فإذا أمسكها فلا يقربها حتى يكفر كفارة ظهار.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل تزوج، وأراد الدخول الليلة الفلانية، وإلا كانت عندي مثل أمي وأختي، ولم تتهيأ له ذلك الوقت الذي طلبها فيه، فهل يقع طلاق؟
/فأجاب:
لا يقع عليه طلاق قي المذاهب الأربعة، لكن يكون مظاهرا فإذا أراد الدخول فإنه يكفر قبل ذلك. الكفارة التي ذكرها الله في سورة المجادلة فيعتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن رجل حنق من زوجته فقال: إن بقيت أنكحك أنكح أمي تحت ستور الكعبة: هل يجوز أن يصالحها؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا نكحها فعليه كفارة الظهار ـ عتق رقبة مؤمنة ـ فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، ولا يمسها حتى يُكَفِّر.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجلين قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، لا تفعل هذه الأمور بين يدي امرأتك، قبيح عليك، فقال: ما هي إلا مثل أمي. فقال: لأي شيء قلت؟ ! سمعت أنها تحرم بهذا اللفظ، ثم كرر على نفسه، وقال: أي والله هي عندي مثل أمي: هل تحرم على الزوج بهذا اللفظ؟
/فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن أراد بقوله: إنها مثل أمي أنها تستر على ولا تهتكني ولا تلومني، كما تفعل الأم مع ولدها، فإنه يؤدب على هذا القول، ولا تحرم عليه امرأته؛ فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سمع رجلا يقول لامرأته: يا أختي، فأدبه ـ وإن كان جاهلا لم يؤدب على ذلك، وإن استحق العقوبة على ما فعله من المنكر ـ وقال أختك هي؟ ! فلا ينبغي أن يجعل الإنسان امرأته كأمه.
وإن أراد بها عندي مثل أمي. أي في الامتناع عن وطئها، والاستمتاع بها، ونحو ذلك مما يحرم من الأم، فهي مثل أمي التي ليست محلا للاستمتاع بها، فهذا مظاهر يجب عليه ما يجب على المظاهر فلا يحل له أن يطأها حتى يكفر كفارة الظهار فيعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. وإذا فعل ذلك حل له ذلك باتفاق المسلمين، إلا ينوي أنها محرمة على كأمي، فهذا يكون مظاهرا في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد. وحكي في مذهب مالك نزاع في ذلك: هل يقع به الثلاث، أم لا؟
والصواب المقطوع به أنه لا يقع به طلاق، ولا يحل له الوطء حتى يكفر باتفاقهم، ولا يقع به الطلاق بذلك. والله أعلم.
/ وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل قال لامرأته بائن عنه إن رددتك تكوني مثل أمي وأختي: هل يجوز أن يردها، وما الذي يجب عليه؟
فأجاب:
في أحد قولي العلماء عليه كفارة ظهار، وإذا ردها في الآخر لا شيء. والأول أحوط.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل قال في غيظه لزوجته: أنت على حرام مثل أمي.
فأجاب:
هذا مظاهر من امرأته، داخل في قوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 2،4]، فهذا إذا أراد إمساك زوجته ووطأها فإنه لا يقربها حتى يكفر هذه الكفارة التي ذكرها الله.
/ وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل قالت له زوجته: أنت على حرام مثل أبي وأمي. وقال لها: أنت على حرام مثل أمي وأختي: فهل يجب عليه الطلاق؟
فأجاب:
لا طلاق بذلك، ولكن إن استمر على النكاح فعلى كل منهما كفارة ظهار قبل أن يجتمعا، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
/ باب ما يلحق من النَّسَبِ
وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن رجل تزوج بنتا بكراً، بالغاً، ودخل بها، فوجدها بكرا، ثم إنها ولدت ولدا بعد مضي ستة أشهر بعد دخوله بها: فهل يلحق به الولد أم لا؟ وأن الزوج حلف بالطلاق منها أن الولد ولده من صلبه: فهل يقع به الطلاق أم لا؟ والولد ابن سوي كامل الخلقة، وعمر سنين. أفتونا مأجورين.
فأجاب ـ رضي الله عنه:
الحمد لله، إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر حين دخل بها ولو بلحظة لحقه الولد باتفاق الأئمة. ومثل هذه القصة وقعت في زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ واستدل الصحابة على إمكان كون الولد لستة أشهر بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، فإذا كان مدة الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر، فجمع في الآية أقل الحمل وتمام الرضاع ولو لم يستلحقه، فكيف إذا استلحقه وأقر به؟ ! بل لو استلحق مجهول النسب، وقال: إنه ابني لحقه باتفاق المسلمين، إذا كان ذلك ممكنا، ولم يدع أحد أنه ابنه، كان بارا في يمينه، ولا حنث عليه. والله أعلم.
/ وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن رجل اشترى جارية بكرا، وباشرها، وهي لا تخرج ولا تدخل، وهي حامل منه، فأخرجها إلى السوق، وينكر ويحلف أنه ما هو ولده.
فأجاب:
إذا اعترف أنه وطئها مثل أن يكون قد أقر بذلك فإن الولد يلحقه، ويجعل هذا الحمل منه إذا وضعت لمدة الإمكان، وليس له أن يبيع الحمل، ولا أمه؛ لكن إذا ادعي الاستبراء ففي قبول قوله وتحليفه نزاع بين العلماء. والله أعلم.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل تزوج امرأة وأقامت في صحبته خمسة عشر يوما، ثم طلقها الطلاق البائن، وتزوجت بعده بزوج آخر بعد إخبارها بانقضاء العدة من الأول، ثم طلقها الزوج الثاني بعد مدة ست سنين، وجاءت بابنة، وادعت أنها من الزوج الأول: فهل يصح دعواها. ويلزم الزوج الأول، ولم يثبت أنها ولدت البنت، وهذا الزوج والمرأة مقيمان ببلد واحد، وليس لها مانع من دعوي النساء، ولا طالبته بنفقة ولا فرض.
/فأجاب:
الحمد لله، لا يلحق هذا الولد الذي هو البنت بمجرد دعواها والحالة هذه باتفاق الأئمة. بل لو ادعت أنها ولدته في حال يلحق به نسبه إذا ولدته وكانت مطلقة وأنكر هو أن تكون ولدته لم تقبل في دعوي الولادة بلا نزاع، حتى تقيم بذلك بينة. ويكفي امرأة واحدة عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعند مالك وأحمد في الرواية الأخرى لابد من امرأتين. وأما الشافعي فيحتاج عنده إلى أربع نسوة، ويكفي يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته.
وأما إن كانت الزوجية قائمة ففيها قولان في مذهب أحمد: أحدهما: لا يقبل قولها، كمذهب الشافعي. والثاني: يقبل، كمذهب مالك. وأما إذا انقضت عدتها ومضي لها أكثر الحمل. ثم ادعت وجود حمل من الزوج الأول المطلق، فهذه لا يقبل قولها بلا نزاع، بل لو أخبرت بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا ولدون مدة الحمل، فهل يلحقه؟ على قولين مشهورين لأهل العلم. ومذهب أبي حنيفة وأحمد أنه يلحق، وهذا اختيار ابن سريج من أصحاب الشافعي، لكن المشهور من مذهب الشافعي ومالك أنه لا يلحقه.
وهذا النزاع إذا لم تتزوج، فأما إذا تزوجت بعد إخبارها بانقضاء عدتها، ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، فإن هذا لا يلحق نسبه بالأول قولا واحدا. فإذا عرفت مذهب الأئمة في هذين الأصلين فكيف يلحقه نسبه /بدعواها بعد ست سنين. ولو قالت: ولدته ذلك الزمن قبل أن يطلقني لم يقبل قولها أيضا، بل القول مع يمينه أنها لم تلدها على فراشه.
ولو قالت هي: وضعت هذا الحمل قبل أن أتزوج بالثاني، وأنكر الزوج الأول ذلك، فالقول قوله ـ أيضا ـ أنها لم تضعها قبل تزوجها بالثاني، لا سيما مع تأخر دعواها إلى أن تزوجت الثاني، فإن هذا مما يدل على كذبها في دعواها، لا سيما على أصل مالك في تأخر الدعوي الممكنة بغير عذر في هذه المسائل ونحوها.
وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عمن طلق امرأته ثلاثا، وأفتاه مفت بأنه لم يقع الطلاق، فقلده الزوج ووطئ زوجته بعد ذلك، وأتت منه بولد، فقيل: إنه ولد زنا.
فأجاب:
من قال ذلك فهو في غاية الجهل والضلالة، والمشاقة لله ورسوله؛ فإن المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ إذا وطئ فيه فإنه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا في نفس الأمر باتفاق المسلمين، سواء كان الناكح كافرا أو مسلماً. وإليهودي إذا تزوج بنت أخيه كان ولده منه يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين وإذا كان ذلك النكاح باطلا باتفاق المسلمين، /ومن استحله كان كافراً تجب استتابته. وكذلك المسلم الجاهل لو تزوج امرأة في عدتها كما يفعل جهال الأعراب ووطأها يعتقدها زوجة كان ولده منها يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين. ومثل هذا كثير.
فإن ثبوت النسب لا يفتقر إلى صحة النكاح في نفس الأمر، بل الولد للفراش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فمن طلق امرأته ثلاثا ووطأها يعتقد أنه لم يقع به الطلاق: إما لجهله، وإما لفتوي مفت مخطئ قلده الزوج، وإما لغير ذلك فإنه يلحقه النسب، ويتوارثان بالاتفاق، بل ولا تحسب العدة إلا من حين ترك وطأها، فإنه كان يطؤها يعتقد أنها زوجته، فهي فراش له فلا تعتد منه حتى تترك الفراش.
ومن نكح امرأة نكاحاً فاسداً متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده أو ملكها ملكا فاسدا متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده، أو وطأها يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة فإن ولده منها يلحقه نسبه، ويتوارثان باتفاق المسلمين. والولد ـ أيضا ـ يكون حرا، وإن كانت الموطوءة مملوكة للغير في نفس الأمر ووطئت بدون إذن سيدها، لكن لما كان الواطئ مغرورا بها زوج بها وقيل: هي حرة، أو بيعت فاشتراها يعتقدها ملكا للبائع، فإنما وطئ من /يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة، فولده منها حر لاعتقاده. وإن كان اعتقاده مخطئا، وبهذا قضي الخلفاء الراشدون، واتفق عليه أئمة المسلمين.
فهؤلاء الذين وطئوا وجاءهم أولاد لو كانوا قد وطئوا في نكاح فاسد متفق على فساده، وكان الطلاق وقع بهم باتفاق المسلمين، وهم وطئوا يعتقدون أن النكاح باق، لإفتاء من أفتاهم، أو لغير ذلك، كان نسب الأولاد بهم لاحقا، ولم يكونوا أولاد زنا، بل يتوارثون باتفاق المسلمين. هذا في المجمع على فساده فكيف في المختلف في فساده؟ وإن كان القول الذي وطئ به قولا ضعيفا، كمن وطئ في نكاح المتعة أو نكاح المرأة نفسها بلا ولي ولا شهود، فإن هذا إذا وطئ فيه يعتقده نكاحا لحقه فيه النسب، فكيف بنكاح مختلف فيه، وقد ظهرت حجة القول بصحته بالكتاب والسنة والقياس، وظهر ضعف القول الذي يناقضه، وعجز أهله عن نصرته بعد البحث التام؛ لانتفاء الحجة الشرعية؟!
فمن قال: إن هذا النكاح أو مثله يكون فيه الولد ولد زنا لا يتوارثان هو وأبوه الوطيء مخالف لإجماع المسلمين. منسلخ من رتبة الدين، فإن كان جاهلا عرف وبين له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين ألحقوا أولاد أهل الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع، ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا في شرع المسلمين، فإن أصر على مشاقة الرسول من /بعد ما تبين له الهدي، واتبع غير سبيل المؤمنين، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فقد ظهر أن من أنكر الفتيا بأنه لا يقع الطلاق وادعي الإجماع على وقوعه، وقال: إن الولد ولد زنا، هو المخالف لإجماع المسلمين، مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله رب العالمين، وإن المفتي بذلك أو القاضي بذلك فعل ما لا يسوغ له بإجماع المسلمين، وليس لأحد المنع من الفتيا بقوله، ولا القضاء بذلك، ولا الحكم بالمنع من ذلك باتفاق المسلمين، والأحكام باطلة بإجماع المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل ادعت عليه مطلقته بعد ست سنين ببنت، وبعد أن تزوجت بزوج آخر، فألزمه بعض الحكام باليمين، فقال الرجل: أحلف أن هذه ما هي بنتي. فقال الحاكم: ما تحلف إلا أنها ما هي بنتها، فامتنع أن يحلف إلا أنها ما هي بنتي، وكان معه إنسان فقال للحاكم: هذا ما يحل له أن يحلف أنها ما هي بنت هذه المرأة، فضربه الحاكم بالدرة، وأحرق به، فحلف الرجل، فكتب عليه فرض البنت، فهل يصح هذا الفرض؟
/فأجاب:
الحمد لله، عليه اليمين أنها لم تلدها في العدة، أو أنها لم تلدها على فراشه، أو أنها لم تلدها في بيته، بحيث أمكن لحوق النسب به. فأما إذا تزوجت بغيره وأمكن أنها ولدتها من الثاني فليس عليه اليمين أنها لم تلدها. وإذا حلفت أنها لم تلدها قبل نكاح الثاني آخراً. وإذا أكره على الإقرار لم يصح إقراره.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها ولا أصابها، فولدت بعد شهرين: فهل يصح النكاح، وهل يلزمه الصداق، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يلحق به الولد باتفاق المسلمين، وكذلك لا يستقر عليه المهر باتفاق المسلمين، لكن للعلماء في العقد قولان: أصحهما أن العقد باطل، كمذهب مالك، وأحمد، وغيرهما. وحينئذ فيجب التفريق بينهما، ولا مهر عليه، ولا نصف مهر، ولا متعة، كسائر العقود الفاسدة إذا حصلت الفرقة فيها قبل الدخول، لكن ينبغي أن يفرق بينهما حاكم يري فساد العقد لقطع النزاع. والقول الثاني: أن العقد صحيح ثم لا يحل له الوطء حتى تضع، كقول أبي حنيفة، وقيل: يجوز له الوطء قبل الوضع، كقول الشافعي، /فعلى هذين القولين إذا طلقها قبل الدخول فعليه نصف المهر، لكن هذا النزاع إذا كانت حاملا من وطء شبهة أو سيد أو زوج، فإن النكاح باطل باتفاق المسلمين، ولا مهر عليه إذا فارق قبل الدخول. وأما الحامل من الزنا فلا كلام في صحة نكاحها. والنزاع فيما إذا كان نكاحها طائعا، وأما إذا نكحها مكرها فالنكـاح باطل في مذهـب الشافعي وأحمد وغيرهما.
/ باب العـدَد
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن امرأة طلقها زوجها في الثامن والعشرين من ربيع الأول، وأن دم الحيض جاءها مرة، ثم تزوجت بعد ذلك في الثالث والعشرين من جمادي الآخر من السنة. وادعت أنها حاضت ثلاث حيض، ولم تكن حاضت إلا مرة، فلما علم الزوج طلقها طلقة واحدة ثانيا في العشر من شعبان من السنة، ثم أرادت أن تزوج بالمطلق الثاني، وادعت أنها آيسة، فهل يقبل قولها، وهل يجوز تزويجها؟
فأجاب:
الإياس لا يثبت بقول المرأة، لكن هذه إذا قالت إنه ارتفع لا تدري ما رفعه فإنها تؤجل سنة، فإن لم تحض فيها زوجت. وإذا طعنت في سن الإياس فلا تحتاج إلى تأجيل. وإن علم أن حيضها ارتفع بمرض أو رضاع كانت في عدة حتى يزول العارض.
فهذه المرأة كان عليها عدتان: عدة للأول، وعدة من وطئ الثاني. ونكاحه فاسد لا يحتاج إلى طلاق، فإذا لم تحض إلا مرة واستمر انقطاع الدم، /فإنها تعتد العدتين بالشهور ستة أشهر بعد فراق الثاني إذا كانت آيسة. وإذا كانت مستريبة كان سنة وثلاثة أشهر. وهذا على قول من يقول: إن العدتين لا تتداخلان ـ كمالك، والشافعي، وأحمد ـ وعند أبي حنيفة تتداخل العدتان من رجلين، لكن عنده الإياس حد بالسن وهذا الذي ذكرناه هو أحسن قولي الفقهاء وأسهلهما، وبه قضي عمر وغيره. وأما على القول الآخر فهذه المستريبة تبقي في عدة حتى تطعن في سن الإياس، فتبقي على قولهم تمام خمسين أو ستين سنة لا تتزوج. ولكن في هذا عسر وحرج في الدين وتضييع مصالح المسلمين.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل تزوج امرأة ولها عنده أربع سنين لم تحض، وذكرت أن لها أربع سنين قبل زواجها لم تحض، فحصل من زوجها الطلاق الثلاث، فكيف يكون تزويجها بالزوج الآخر؟ وكيف تكون العدة وعمرها خمسون سنة؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه تعتد عدة الآيسات ثلاثة أشهر في أظهر قولي العلماء؛ فإنها قد عرفت أن حيضها قد انقطع، وقد عرفت أنه قد انقطع انقطاعا مستمراً، بخلاف المستريبة التي لا تدري ما رفع حيضها: هل هو ارتفاع /أياس، أو ارتفاع لعارض ثم يعود كالمرض، والرضاع؟ فهذه [ثلاثة أنواع].
فما ارتفع لعارض، كالمرض، والرضاع، فإنها تنتظر زوال العارض بلا ريب. ومتى ارتفع لا تدري ما رفعه، فمذهب مالك وأحمد في المنصوص عنه، وقول للشافعي: أنها تعتد عدة الآيسات بعد أن تمكث مدة الحمل، كما قضي بذلك عمر. ومذهب أبي حنيفة والشافعي في الجديد أنها تمكث حتى تطعن في سن الإياس، فتعتد عدة الآيسات. وفي هذا ضرر عظيم عليها؛ فإنها تمكث عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة لا تتزوج. ومثل هـذا الحرج مرفوع عن الأمة، وإنما {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4]، فإنهن يعتددن ثلاثة أشهر بنص القرآن، وإجماع الأمة.
لكن العلماء مختلفون: هل للإياس سن لا يكون الدم بعده إلا دم إياس؟ وهل ذلك السن خمسون، أو ستون، أو فيه تفصيل؟ ومتنازعون: هل يعلم الإياس بدون السن؟
وهذه المرأة قد طعنت في سن الإياس على أحد القولين، وهو الخمسون، ولها مدة طويلة لم تحض، وقد ذكرت أنها شربت ما يقطع الدم، والدم يأتي بدواء، فهذه لا ترجو عود الدم إليها، فهي من الآيسات تعتد عدة الآيسات، والله أعلم.
/ وسئل ـ رَحمه الله ـ عن امرأة فسخ الحاكم نكاحها عقب الولادة، لما ثبت عنده من تضررها بانقطاع نفقة زوجها، وعدم تصرفه الشرعي عليها المدة التي يسوغ فيها فسخ النكاح لمثلها. وبعد ثلاثة شهور من فسخ النكاح رغب فيها من يتزوجها: فهل يجوز أن تعتد بالشهور، إذ أكثر النساء لا يحضن مع الرضاعة أو يستمر بها الضرر إلى حيث ينقضي الرضاع ويعود إليها حيضها، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، بل تبقي في العدة حتى تحيض ثلاث حيض، وإن تأخر ذلك إلى انقضاء مدة الرضاع، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وبذلك قضي عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب بين المهاجرين والأنصار، ولم يخالفهما أحد. فإن أحبت المرأة أن تسترضع لابنها من يرضعه لتحيض، أو تشرب ما تحيض به، فلها ذلك. والله أعلم.
وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن امرأة كانت تحيض وهي بكر، فلما تزوجت ولدت ستة أولاد ولم تحض بعد ذلك، ووقعت الفرقة من زوجها وهي مرضع، وأقامت عند أهلها /نصف سنة ولم تحض، وجاء رجل يتزوجها غير الزوج الأول، فحضروا عند قاض من القضاة، فسألها عن الحيض، فقالت: لي مدة سنين ما حضت. فقال القاضي: ما يحل لك عندي زواج، فزوجها حاكم آخر ولم يسألها عن الحيض، فبلغ خبرها إلى قاض آخر، فاستحضر الزوج والزوجة، فضرب الرجل مائة جلدة، وقال: زنيت، وطلق عليه، ولم يذكر الزوج الطلاق، فهل يقع به طلاق؟
فأجاب:
إن كان قد ارتفع حيضها بمرض أو رضاع فإنها تتربص حتى يزول العارض وتحيض باتفاق العلماء، وإن كان ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فهذه في أصح قولي العلماء على ما قال عمر: تمكث سنة، ثم تزوج، وهو مذهب أحمد المعروف في مذهبه، وقول للشافعي: وإن كانت في القسم الأول فنكاحها باطل، والذي فرق بينهما أصاب في ذلك، وأصاب في تأديب من فعل ذلك. وإن كانت من القسم الثاني قد زوجها حاكم لم يكن لغيره من الحكام أن يفرق بينهما، ولم يقع بها طلاق، فإن فعل الحاكم لمثل ذلك يجوز في أصح الوجهين.
وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن مرضع استبطأت الحيض، فتداوت لمجيء الحيض، فحاضت ثلاث حيض وكانت مطلقة: فهل تنقضي عدتها، أم لا؟
/فأجاب:
نعم إذا أتي الحيض المعروف لذلك اعتدت به، كما أنها لو شربت دواء قطع الحيض أو باعد بينه، كان ذلك طهراً. وكما لو جاعت أو تعبت، أو أتت غير ذلك من الأسباب التي تسخن طبعها وتثير الدم فحاضت بذلك. والله أعلم.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن امرأة شابة لم تبلغ سن الإياس، وكانت عادتها أن تحيض فشربت دواء، فانقطع عنها الدم واستمر انقطاعه، ثم طلقها زوجها وهي على هذه الحالة: فهل تكون عدتها من حين الطلاق بالشهور، أو تتربص حتى تبلغ سن الآيسات؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن كانت تعلم أن الدم يأتي فيما بعد فعدتها ثلاثة أشهر. وإن كان يمكن أن يعود الدم ويمكن ألا يعود فإنها تتربص بعد سنة ثم تتزوج، كما قضي به عمر ابن الخطاب في المرأة يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فإنها تتربص سنة، وهذا مذهب الجمهور، كمالك والشافعي. ومن قال: إنها تدخل في سن الآيسات، فهذا قول ضعيف جداً، مع ما فيه من الضرر الذي لا تأتي الشريعة بمثله، أو تمنع من النكاح وقت حاجتها إليه، ويؤذن لها فيه حين لا تحتاح إليه.
/ وسئل ـ رَحمه الله تعالى ـ عن رجل مرض مرضا متصلا بموته، وله زوجة، فأمرها أن تخرج من داخل الدار إلى خارجها، فتوقفت عن الخروج، فقال لها: أنت طالق، فخرجت وحجبت وجهها عنه، فطلبها فدخلت عليه محتجبة فسألها عن احتجابها لما هو؟ فأخبرته بما أوقع من الطلاق، فأنكر، وقال: ما حلفت، ولا طلقت، ومات بعد أيام: فهل يلزمها الطلاق أم عدة الوفاة؟
فأجاب:
عليها عدة الوفاة مع عدة الطلاق، ولها الميراث. هذا إن كان عقله حاضراً حين تكلم بالطلاق، وإن كان عقله غائبا لم يلزمها إلا عدة الوفاة. والله أعلم.
وسئل ـ رَحمه الله ـ عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين، ورزق منها ولداً له من العمر سنتان، وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين، وصدقها الزوج، وكان قد طلقها ثانيا على هذا العقد المذكور: فهل يجوز الطلاق على هذا العقد المفسوخ؟
فأجاب:
إن صدقها الزوج في كونها تزوجت قبل الحيضة الثالثة فالنكاح باطل، وعليه أن يفارقها. وعليها أن تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني. فإن كانت حاضت الثالثة قبل أن يطأها الثاني فقد انقضت عدة الأول، ثم إذا فارقها الثاني اعتدت له ثلاث حيض، ثم تزوج من شاءت بنكاح جديد. وولده ولد حلال يلحقه نسبه، وإن كان قد ولد بوطء في عقد فاسد لا يعلم فساده.
/وقال شيخ الإسلام ـ رَحمه الله:
فصل
المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشرا وتجتنب الزينة والطيب في بدنها وثيابها، ولا تتزين، ولا تتطيب، ولا تلبس ثياب الزينة، وتلزم منزلها فلا تخرج بالنهار إلا لحاجة، ولا بالليل إلا لضرورة، ويجوز لها أن تأكل كل ما أباحه الله ـ كالفاكهة واللحم ـ لحم الذكر والأنثي ـ ولها أكل ذلك باتفاق علماء المسلمين، وكذلك شرب ما يباح من الأشربة ويجوز لها أن تلبس ثياب القطن والكتان وغير ذلك مما أباحه الله، وليس عليها أن تصنع ثيابا بيضاء أو غير بيض للعدة، بل يجوز لها لبس المقفص، لكن لا تلبس ما تتزين به المرأة: مثل الأحمر، والأصفر، والأخضر الصافي، والأزرق الصافي، ونحو ذلك، ولا تلبس الحلي مثل الإسورة والخلاخل، والقلايد، ولا تختضب بحناء ولا غيره، ولا يحرم عليها عمل شغل من الأشغال المباحة، مثل التطريز، والخياطة، والغزل، وغير ذلك مما تفعله النساء.
/ويجوز لها سائر ما يباح لها في غير العدة: مثل كلام من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت مستترة، وغير ذلك. وهذا الذي ذكرته هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن ونساؤه صلى الله عليه وسلم ولا يحل لهن أن يتزوجن بغيره أبداً لا في العدة ولا بعدها، بخلاف غيرهن، وعلى المسلمين احترامهن كما يحترم الرجل أمه، لكن لا يجوز لغير محرم يخلو بواحدة منهن، ولا يسافر بها. والله أعلم.